السبت 20 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري

ملهمات عبقريات عظمة على عظمة يا ست.. الشاعرة الوحيدة فى مدرسة «أبولّو»: «جميلة العلايلى» ولكم فى الشعر حياة

إن حقوق المرأة وحريتها التى تتمتع بها الآن، ليست نتاج يوم أو عمل واحد، بل عقود من النضال المستمر، من أجل كسر القيود المجتمعية القديمة التى فرضت عليها، بألا يعلو أفق تطلعاتها أكثر من حوائط منزلها. ومع ذلك، أعلنت بعضهن عن رفضهن التام بسجن عقولهن، وسعين لكسر هذه القيود، ليثبتن  أن للمرأة حرية وحقًا فى التعلم، والعمل، والنضال، وألا تكون (المعرفة، والمقدرة) حكرًا على معشر الرجال فقط.



فى مصر، نساء تم تخليد أسمائهن، وأعمالهن..وفى هذه السلسلة ترصد (نون القوة) حياة وكفاح هؤلاء الملهمات، العبقريات، لتعرف فتيات ونساء اليوم وغدٍ، أنه لا يوجد مكان لكلمة (مستحيل). 

 

«لا يجوز أن نغفل مقارنة أدبها بأدب الجيل السابق.. لقد كانت شاعرات ذلك الجيل حريصات على وأد عواطفهن..وكانت العاطفة عندهن محصورة فى الرثاء وتحية الأهل وتوديعهم. ولكننا، نلمح ثورة جديدة على تلك التقاليد البالية».. كانت هذه بضع كلمات مختصرة من تعليق مؤسّس مدرسة «أبولّو» الشعرية «أحمد زكى أبوشادى»، عن الديوان الأول لامرأة «أبولّو» الوحيدة «جميلة العلايلى». 

 

الشاعرة «جميلة العلايلى»، هى صوتٌ من الأصوات الشعرية المؤثرة فى الحركة الأدبية. فكانت أول سيدة تلتحق بمدرسة، أو جماعة «أبولّو» الشعرية. ورغم أن شعر البدايات للنساء فى العصر الحديث، يعود الفضل فيه لـ«عائشة التيمورية»، ومن قبلها «ملك حفنى ناصف»، اللتين كانتا لهما الفضل فى دخول المرأة عالم الشعر؛ فإن ديوان «جميلة العلايلى» الأول، الذى عُرف باسم (صدى أحلامى)، جاء ليؤرخ ما اعتبره كثيرون، أول ديوان شعرى تنشره المرأة العربية فى (النهضة الحديثة).

يُذكر، أنه فى حلقات (عظمة على عظمة يا ست) السابقة، تناولت قصصًا لمُلهمات غيرن مكانة المرأة فى «مصر» خلال العصر الحديث، ورُصد ذلك: إمّا عن طريق سيرهن الذاتية، أو ما قلنه وكتبنه هؤلاء الرائدات فى مقالات وحوارات، أو مواقف وحكايات نقلت عنهن من خلال المقربين منهن. ولكن، هذه الحلقة مختلفة عن سابقاتها؛ إذ يتم فيها استكشاف شخصية طمسها التاريخ، ولم يُذكر عن حياتها الكثير، رغم كونها رائدة فى مجالها الخاص.

نشأة غامضة

وُلدت «جميلة العلايلى» فى 20 مارس 1907. وليس غريبًا، أن تقترن طفولة هذه الصغيرة بالشغف تجاه الكتابة الشعرية والإبداع، إذ عاشت فى بيئة الجمال والجميلات، فى مدينة «المنصورة» الريفية.

ورغم عدم نقل ما يكفى بشأن طفولتها، أو نشأتها، أو حتى التحديات التى واجهتها فى إثبات نفسها، وتحقيق شخصيتها الإبداعية، فى ظل حقبة كان يعوزها تعليم الفتيات، وتشجيع إبداعهن، وتطورهن؛ فإنه يُمكن استنتاج أنها كافحت فى سبيل ميولها الشعرية والأدبية، وإثبات شخصيتها، من خلال المكانة التى استطاعت أن تحققها فى «المنصورة»، قبل «القاهرة». فلم تكن لتحصل على هذه المكانة لولا دعم وتشجيع عائلتها، ثم زوجها.

ففى البداية، عملت مُدرسة، ثم مديرة لمكتب المساعدات الاجتماعية. ولكن؛ نظرًا لغزارة إنتاجها الأدبى، استطاعت أن تحقق لها حضورًا أدبيًا فى منطقتها، إذ حولت بيتها إلى صالون أدبى، يحضره الكثير من الكُتّاب، الذين شجعوها للانتقال والاستقرار فى «القاهرة»؛ باعتبارها مركزًا للثقافة والنشاط آنذاك.

 مُلهمو «جميلة»

بالطبع، لم يكن فى مقدور «العلايلى» أن تصل لمكانتها الأدبية، لولا حفنة من الملهمين الذين شكلوا فكرها؛ خصوصًا أنها وُلدت وعاصرت العديد من عظماء جيلها فى تلك الفترة فى شتى المجالات. فعلى المستوى الأدبى، كانت «جميلة» دائمًا- تحضر صالون الأديبة الكبيرة «مى زيادة»، الذى كان يُعقد مساء كل ثلاثاء فى منزلها. وقد اعترفت «جميلة» صراحة، أن «زيادة» هى مَثلها الأعلى؛ خصوصًا فى مجال الأدب. 

أمّا فى الشعر؛ فكان «أحمد زكى أبو شادى»، صاحب فضل كبير على «جميلة»، بعد أن وجد فيها الروح والموهبة التى تؤهلها لدخول مدرسته «أبولّو»، لتلقب بَعدها بـ «شاعرة مجلة أبولّو». 

وعلى مستوى الكفاح الاجتماعى فكانت الرائدة «هدى شعراوى» مُلهمتها الأولى، إذ كانت «العلايلى» تحضر صالونها، الذى بَلور أفكارَها النسوية والوطنية. 

ولم تتوقف «العلايلى» عند حضور هذه الصالونات الثقافية فحسب؛ بل أصرت- أيضًا- على حضور الندوات الثقافية المختلفة فى «القاهرة»، وتلتقى فيه بعدد من أعلام العصر‏، ومنهم على سبيل المثال:‏ «لطفى السيد»، و«عباس العقاد»، و«سلامة موسى»، و«الشيخ مصطفى عبدالرازق»، وغيرهم. مما دفعها إلى نقل صالونها للعاصمة المصرية، بمساعدة زوجها الصحفى «سيد ندا»، ليؤمَّ هذا الصالون الثقافى عددٌ كبيرٌ من أدباء وشعراء زمانها، ومفكريه‏. 

ورغم تأثير كل هؤلاء المُلهمين، وتحديدًا الثلاثة «زيادة، وشعراوى، وأبو شادى»، على بلورة أفكار ووجدان «جميلة»؛ فإنها أخذت عصارة خبرتهم؛ لتخلق لنفسها طريقها الخاص، رافضة التشبه بأحد، إذ قالت: «ورغم تأثرى بهؤلاء فقد كان لى أسلوبى الخاص فى كل كفاح قمت به بإلهام من الله».

 المرأة الوحيدة فى «أبولّو»

ربما نستطيع أن نتعرف أكثر على شخصية «جميلة»، من خلال انتمائها لجماعة «أبولّو» تحديدًا. فقد شهد الثلث الأول من القرن العشرين ميلاد حركات أدبية جديدة، هدفت إلى الارتقاء بمستوى الأدب العربى. ولاسيما الشعر، وتخليصه من قيود التقليد والمحاكاة. وقد أسّس «أحمد زكى أبوشادى» مَدرسته عام 1932، وأسندت رئاستها إلى أمير الشعراء «أحمد شوقى»، ومن ثم تولاها من بَعده شاعر القطرين «خليل مطران». وقد تميز شعر شعراء هذه المدرسة بروح عاطفية قوية حادة، والإحساس بقوة الشخصية، والحرية الفردية عندهم، وتشبعوا بروح الثورة التحررية، منذ إحساسهم بثورة ١٩١٩ فى مواجهة الاستعمار البريطانى. 

ومن هنا، وجدت «جميلة العلايلى» نفسَها، المرأة الوحيدة وسط مجموعة كبيرة من شعراء وأدباء هذه المَدرسة؛ لتصنع لنفسها اسمًا جانب كبار الشعراء من الرجال، ومنهم أيضًا: «إبراهيم ناجى، صالح جودت، أحمد رامى، على محمود طه، محمد الهمشرى»، وغيرهم.

وخلال تلك الفترة، تمردت «جميلة» على قيود الشعر التقليدى من حيث الشكل والمضمون، وهو ما ميزها عن غيرها من النساء اللاتى سبقنها فى مجال الأدب والشعر. فقد تمتعت بجرأة أدبية فى التعبير عن مكنونات المرأة فى أشعارها الوجدانية، وكتبت فى عدد كبير من الموضوعات الشعرية المتنوعة، إذ جمعت بين شعر الحب، والطبيعة، والشكوى، والألم، والتأمل، وحتى الشعر الصوفى، والوطنى، والاجتماعى.

كما جمعت فى لغتها بين معجم أشعار الرومانسيين، باستخدام الكثير من الألفاظ الإيحائية، والعصرية، ولم يخل معجمها الشعرى- فى الوقت ذاته- من الألفاظ الكلاسيكية التراثية.

بمعنى آخر، لم تحتكر «العلايلى» شعرها لمواضيع محددة ومقيدة؛ بل أطلقت العنان لحواسها ومَشاعرها كنوع من مناصرة قضية حرية المرأة، فرغم عدم وجود قصة تحكى عن مواجهاتها للمجتمع فى قضية حق وحرية المرأة؛ فإنها استخدمت شعرها فى مناصرتها لتلك القضية، فلم تأبه بما قد يقال عن تحررها، وآمنت بالنهضة الحديثة للمرأة، لدرجة أن الشاعر والإعلامى «فاروق شوشة»، أطلق عليها لقب  «شاعرة الوجدان النسائى».

ومع ذلك، لم يشكل ميلها إلى التحرّر من القيود إلى تخليها عن الطرح المجتمعى للمرأة، فكان أسلوبها ينقل وجدانيات المرأة من غير مساس بعفتها التى تتحلّى بها. وكانت فى نظر النقاد من أوائل الشعراء النساء اللاتى حاولن تصوير عاطفتهن تصويرًا صريحًا، فى وسط اجتماعى محافظ.

أمّا أعمالها الشعرية المعروفة، فقد أصدرت ديوان (صدى أحلامى) عام 1936، وهو الديوان الذى أشاد به «أبوشادى» سابقًا، وقال عنه تفصيلاً: «ولكى نقدر «جميلة العلايلى» التقدير الذى تستحقه مواهبها، لا يجوز أن نغفل مقارنة أدبها بأدب الجيل السابق؛ فإننا حينئذ نجد الفارق شاسعًا بين المختار لـوردة اليازنجى، وعائشة عصمت تيمور، وأمينة نجيب، وملك حفنى ناصف وبين مختار شعرها»؛ مضيفًا: «لقد كانت شواعر الجيل السابق على قربه منا، جد حريصات على وأد عواطفهن، مراعاة لقواعد الاحتشام المصطنع، الذى كانت تحتمه البيئة، فكان محرمًا عليهن شعر الوجدان الفطرى، وكانت العاطفة الشعرية عندهن تحصر فى الرثاء، وفى تحية الأهل وتوديعهم، وما إلى ذلك. ولكننا، فى الشعر الجديد، نلمح ثورة جديدة على تلك التقاليد البالية، فنجد صاحبته كاشفة فى اطمئنان وفى شجاعة عن دخيلة نفسها فى صدى أحلامها المنغومة».

أمّا ديوان «العلايلى» الثانى، الذى عُرف باسم (صدى إيمانى) فلم يرَ النور، إلا بعد أربعين عامًا من الأول، إذ نشر عام 1976. وفى حين كان مقررًا لديوانها الثالث (نبضات شاعرة) الصدور عام 1951، إلا أن مشكلاتها الشخصية، وحزنها على فراق والدتها وزوجها، أجلا صدوره حتى عام 1981. 

 مزيدًا من التميز

أصدرت «العلايلى» مجلة «الأهداف» عام 1949، ونشرت بها مقالاتها، وأعمالها الأدبية والشعرية. وظلت تنشر ما بها ما يحث على القيم، والمُثل، وتناقش قضايا الأخلاق، والآداب، وبهدف الإصلاح، حتى عام 1975، وهى قضايا لطالما تناولها معشر الرجال، دون النساء؛ لترسم لنفسها- بهدوء- خطًا آخر لإثبات ذات المرأة المصرية، ودورها فى التأثير على قضايا المجتمع.

ولم يتوقف الأمر عند الشعر فحسب؛ بل تجاوزته لتكتب روايات عديدة، ومنها: (الطائر الحائر) التى نشرت عام 1935. كما صدر لها رواية (الأميرة) وفى العام نفسه وبعدها بأربعة أعوام، نشرت رواية (أمانى) فى 1939. 

أمّا عام 1946  فقد صدر لها رواية (أرواح تتآلف)، التى تجسد فيها المنحى الرومانسى فى الكتابة السردية. وظهر مدى تأثرها بمدرسة «أبولّو» المغرقة فى العاطفية والرومانسية، إذ انتمت هذه الرواية إلى نمط الرواية التراسلية، أو (رواية الرسائل)، وهو نمط يكون عماد النص فيه رسائل تخيلية، تضطلع بوظيفة السرد.

وقد رأى بعض النقاد أن لكتابة «جميلة العلايلى» الأدبية، طابعًا وجدانيًا بارزًا، يمتاز بالحيرة والإحساس بالأسر، ثم الرغبة بالحرية، وكسر القيود.

وإلى جانب الدواوين المنشورة، كان للشاعرة مخطوطات لم تنشر، مثل: (همسات عابدة)، و(آخر المطاف).

وهكذا، تنوعت أعمال «العلايلى» بين الشعر والرواية، والمقالات الصحفية، لترحل عن عالمنا بعد صراع مع أمراض الشيخوخة، وآلام الروماتيزم فى 11 أبريل 1991. 

رحلت الشاعرة «جميلة العلايلى» تاركة وراءها سيرة ذاتية وأعمالاً أغفلها كثيرون، ولم تأخذ حقها من البحث والدراسة، وهو ما تحدّث عنه الناقد والكاتب المصرى «شعبان يوسف» فى كتابه (لماذا تموت الكاتبات عمدًا)، إذ أكد فيه تجاهُل دور الكاتبات والشاعرات فى تطور الأدب المعاصر، وذكر اسم «جميلة» كإحدى المنسيات، رغم أنها عمود مَدرسة «أبولّو».

فى الحقيقة، كانت «جميلة» إحدى الرائدات المجددات فى الشعر النسوى، وتعد الباب الرئيسى لنهضة المرأة الحديثة فى الشعر العربى، الذى تميز بحُرية تعبير المرأة فى مشاعرها.