الأربعاء 24 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري

فى الذكرى ال69 غرام وصدام يوليو: إحسان يكشف: كواليس الساعات الأخيرة للملك.. وكيف انتصرت الثورة؟ الهزيمة الأولى!

غـــرام وصدام يوليــو



 

  لا نبالغ إذا قلنا: «من لم يقرأ مقالات إحسان عبدالقدوس عن ثورة يوليو.. لا يعرف إلا القليل عن تلك الفترة المهمة من تاريخ الوطن».

كانت  مجلة روزاليوسف بقيادة إحسان تؤرخ للجمهورية الأولى منذ البداية.. بل  تمهد لها أثناء وجود الملك وهو ما يظهر بوضوح فى مقالات: «دولة الفشل».. «الرجل الذى لا يستطيع أن يكون بطلاً».. «كونوا رجالاً وتعلموا كيف تكون حكومات الثورة».. التى نشرت جميعًا قبل سنوات من الثورة.

 الآن ونحن ندشن جمهورية جديدة.. نقلب فى صفحات التاريخ / المجلة لنعرف كيف تفاعل الأستاذ إحسان مع ذلك التحول المهم فى تاريخ مصر.

نرصد رحلة  الكاتب الكبير التى تأرجحت بين الغرام والصدام مع الثورة.. لكنه حتى فى اللحظات التى اختلف فيها كان يعطينا درسا فى الوطنية.. مصر عنده كانت المبدأ الأهم والخلاف مع الأشخاص عنده لم يخل أبدا بذلك المبدأ.

 ونلقى الضوء على الطفرة الكبيرة التى أحدثتها ثورة يوليو فى قضية المرأة وتحررها.

وبين يوليو 1952 ويوليو 2021 تظل صفحات مجلتنا هى صفحات التاريخ الوطني.. وتظل مصر هى المبدأ الذى لا يمكن الحياد عنه.

روزاليوسف

 

فى الساعة الرابعة من صباح يوم 24 يوليو، دق جرس التليفون فى منزلى، وسمعت أحد أصدقائى الضباط، يقول فى لهجة حاسمة: - لقد احتللنا القاهرة..

وابتسمتُ وأنا فى طريقى إلى مركز القيادة..

ابتسمتُ لأننى تذكّرت، أنه منذ يومين فقط، أى يوم الأحد 21 يوليو، كنت فى الإسكندرية، وكانت وزارة حسين سرى تعانى النزع الأخير بسبب الأزمة التى كان يثيرها الجيش فى ذلك الوقت.. واتصلت يومها ببعض رجال حاشية فاروق، وحاولت أن أقنعهم بأن الأزمة يجب أن تُحل بما يحقق مطالب محمد نجيب، الذى كان معروفًا أنه على رأس الضباط الثائرين.. وكنت أحاول أن أقنعهم، وأحاول أن أحذرهم.. ولكنهم لم يقتنعوا، ولم يخافوا التحذير.. واتهمونى بالمبالغة.. وقال قائلهم: أتظن أن ستة ضباط يطبعون المنشورات، ويسمون أنفسهم بالضباط الأحرار.. يستطيعون أن يفعلوا شيئًا.. دول عايزين واحد شديد يلبسهم طُرَح!!

ثم بدأوا يحاولون- كما حاولوا كثيرًا- أن «يصلحونى مع السراى».. على حد تعبيرهم:

وأجبت بما اعتدت أن أجيبهم به، بأنى لستُ مختلفًا مع السراى خلافًا شخصيّا، ولكنى صاحب رأى سياسى، يتناقض مع رأى السراى.. ولن نصطلح سويّا، إلا إذا تنازل أحدنا عن رأيه.. وأنا لستُ مستعدّا للتنازل عن رأيى، كما أننى أعتقد أن السراى ليست مستعدة للتنازل عن رأيها؛ لأن معنى ذلك أنها تتنازل عن نفوذها، وعن سطوتها، وعن رجالها، وعن مصالحها الشخصية التى أصبحت مدار تصرفاتها!

وتركتهم.. وأنا أقرأ فى عيونهم، رأيهم فىَّ، وهو رأى ينحصر فى أنى شاب مغفل.. وأنى سأتغير عندما تتقدم بى السِّن وأجد أننى لم أصل إلى شىء ولم أجنِ شيئًا من «تغفيلى»  فألجأ إلى حظيرتهم ألتمس النفع.. أو على الأقل ألتمس الرضاء السامى!

وكانت ثقتهم بأنى مغفل، وأنى لا أسعى لنفع شخصى، وأنى لا أخدم بمواقفى جهة معينة، وأنى لن أتحمل الفقر والضنك طويلا.. كان كل ذلك هو عُذرى لديهم.. عذر جعلهم يغفلون عنّى كثيرًا ويعفوننى من مضاعفة الاضطهاد والظلم، الذى كانوا يوقعونه بى!!

تركتهم.. وعدت إلى القاهرة!

وكنت أعلم أن شيئًا سيحدث.. ولكنى لم أكن كبير الأمل فى حدوثه.. كانت الأيام قد عودتنى ألا أتفاءل كثيرًا.. وكنت أكثر تشاؤمًا من ناحية الجيش.. فقد سبق أن أعددنا العدة لمثل هذه الحركة منذ سنوت، عندما أثيرت قضية الأسلحة الفاسدة، وكان الرأى العام كله وراء هذه القضية، وكنت أعتقد أن أى تدخّل فيها سيثير الضباط- وكنا نسميهم يومها الضباط الصغار- وكنت أجتمع ببعض منهم ونرتب ما يمكن حدوثه إذا ما غلبتنا قوى الشر، وغلبت العدالة.

وقد حدث التدخل..

وتمرمطت قضية الأسلحة الفاسدة..

ولم يتحرك الضباط الصغار..

وضاعت جميع التهديدات القوية التى كنت أوجهها إلى السراى على صفحات «روزاليوسف» حتى كنت أتفادى مقابلة رجال الحاشية كى لا ألتقى بنظرات الشماتة التى يوجهونها إلىّ.

 ومنذ تخرجت فى كلية الحقوق عام 1942، وأنا أحاول أن أشعل فى مصر نارًا تطهرها من أدرانها وأقذارها، وفى سبيل ذلك اشتركت فى جميع الحركات الشعبية التى مرّت بمصر من ذلك الحين. وعملت مع جميع الهيئات، بالقدر الذى استطعته.. أيدتُ الشيوعيين ولم أكن شيوعيّا، وأيدتُ الإخوان ولم أكن من الإخوان، وأيدتُ الوفديين، ولم أكن وفديّا، وأيدتُ هيئات مستقلة كثيرة لم أكن أومن بمبادئها، ولكن كنت أومن بمسعاها إلى الثورة. حتى احتار الناس، من أكون، ولمن أعمل؟! ولم أكن أعمل لأحد، ولم أكن شيئًا، إلا طالبًا للثورة، فقد آمنت بأن الثورة يجب أن تسبق كل إصلاح، وأننا لن نستطيع أن نبنى الجديد إلا إذا هدمنا القديم.

- وقد خاب مسعاى خلال عشر سنوات. 

لم ينجح تدبير اشتركت فيه، ولم تنجح هيئة من الهيئات التى اعتمدت عليها..

ولذلك.. وحتى بعد أن رأيت القاهرة وقد احتلها الجيش، وبعد أن أصبحت فى مركز قيادة الثورة.. لم أكن متفائلا!

واختليت بمحمد نجيب فى إحدى حجرات القيادة، ومعنا بعض الضباط، وسألته:

- ماذا تريد؟

قال:

- الدستور.. والإصلاح!

قلت:

- هذا كلام عام.. إنى أسألك، ماذا تريد فى هذه اللحظة ليتحقق فى هذه اللحظة!

قال:

- ماذا تعنى؟

قلت:

- إن لك مطالب.. من سيقوم على تنفيذ هذه المطالب.. هل ستتولى الحُكم بنفسك، أم ستعهد بمطالبك لوزارة الهلالى، أم تريد وزارة جديدة!!

قال:

- إنى لا أريد أن أحكم.. الدستور لا يتيح لى أن أحكم!

وكان يتكلم  فى هدوء عجيب وهو يشد أنفاسه من غليونه، وكاد هدوؤه أن يثيرنى.

كنت أتصور قائد الثورة فى مثل هذا اليوم، صاخبًا عصبيّا، يلقى أوامره باستمرار، وتلتف من حوله الجموع ليخطب فيها ويحركها.. ولكن هذا الرجل كان هادئًا، وكأنه لم يفعل شيئًا، وكأن عنقه ليست فى حبل المشنقة.

ثم بدأت أستريح إلى هذا الهدوء.. وبدأت أعصابى تسكن. وأصبحت كأنى فى جلسة عائلية تبحث مشكلة طارئة!

وعدت أسأل محمد نجيب:

- إذن من تريده أن يتولى الحُكم!

قال:

- أظن من الأوفق أن ندعو البرلمان السابق، باعتباره آخر حلقة من حلقات الدستور..

قلت:

- إن البرلمان السابق يحتاج إلى تطهير، ثم إن الحركة يجب ألا تتهم بالحزبية والبرلمان السابق كان حزبيّا!

قال فى هدوئه العجيب:

- هذا صحيح.. ولكن الهلالى أيضًا يصطبغ حزبيًا..

قلت:

- بلاش الهلالى..

قال:

- من ترشح؟

ومرّت بى ثلاث دقائق استعرضت فيها جميع الأسماء والوجوه.. أسماء ووجوه الشبان والشيوخ.. فلم أجد أحدًا يصلح-  فى اعتقادى - للموقف.. بكل أسف!

وعاد محمد نجيب يقول:

- ما رأيك فى بهى الدين بركات..إنه  رَجُل محايد!

قلت بصراحة:

- إنه أضعف من الموقف!

قال:

على ماهر؟!

وصرخت فرحًا:

 - إنه  رَجُل كل أزمة.. أعتقد أنه يصلح..

وقال محمد نجيب:

- والضباط يعتقدون ذلك أيضًا!!

ونظرت إلى محمد نجيب فى عينيه الهادئتين المبتسمتين دائمًا، وتساءلت بينى وبين نفسى: هل كان يريد على ماهر من مبدأ الأمر.. وكل ما هنالك أنه أراد أن يقف على رأيى، قبل أن يقول رأيه!!

من يدرى!

وعاد محمد نجيب يقول:

- ولكن، هل يقبل على ماهر؟

قلت:

نسأله.. ولكن هل يقبل الملك؟!

وانطلق صوت من جانبى يقول:

- الملك مالوش دعوة.. لماذا لا نعزل الملك؟

وصمت برهة.. وتساءلت: نعم.. لماذا لا نعزل الملك؟

 وعرفت لأول مرّة الهدف البعيد لحركة الجيش.. الهدف الذى فكرنا فيه مرارًا، ولم نحاول تنفيذه أبدًا، إلا فى مرّة واحدة. اجتمع فيها فريق من الضباط فى منزلى، وقرروا اغتيال الملك.. وعارضت الفكرة؛ لأن اغتيال الملك فى ذلك الوقت لم يكن يؤدى إلى شىء.. ولأن الإنجليز كانوا يستطيعون يومها، أن يضعوا الأمير محمد على فى مكانه!!

وغيّرَ اللواء محمد نجيب، مجرى الحديث بسرعة،  قائلا لى:

- تولى أنت سؤال على ماهر.. هل يقبل تولى الوزارة أم لا؟

قلت:

- سأدعوه إلى هنا لمقابلتك.

- يبقى عال.

وتركنى محمد نجيب، وذهب إلى حجرة أخرى ليجتمع بالأستاذ مصطفى الصادق، عم الملكة ناريمان، الذى تطوع يومها ليكون رسول سلام بين الجيش والملك.

وكان مصطفى الصادق يحمل إلى محمد نجيب فى كل عشر دقائق عرضًا جديدًا…

عرض عليه أن يجيب الملك جميع مطالب الجيش، بشرط أن يتوجه بها محمد نجيب إلى الملك ملتمسًا- كتابته- أن يتعطف جلالة الملك ويوليها اهتمامه..

ورفض محمد نجيب ذِكر اسم الملك فى بيان الجيش..

وعاد مصطفى الصادق يقول إن الملك قبل مطالب الجيش، دون ذِكر اسمه فى البيان.

ورفض محمد نجيب أن يجيب الملك مطالب الجيش إلا بعد أن تتغير الوزارة..

وجاء مصطفى الصادق يقول، إن الملك يرجو أن تمنحوه فرصة للتفاهم على ما تريدون..

وأجاب محمد نجيب: إننا عند موقفنا.. وسنتفاهم فى حدود الإجراءات العسكرية التى اتخذناها..

... إلخ!

ولكى تبدو الجرأة العنيفة التى كان محمد نجيب يتولى بها إدارة الحركة، يكفى أن أؤكد أن فرق الجيش المرابطة فى الإسكندرية لم يكن قد تحدد موقفها بعد.. وأنه كان من المحتمل جدّا- فى هذه الساعة المبكرة من الصباح- ألا تنضم للحركة..

وتركت محمد نجيب، وبدأت أبحث عن على ماهر..

واتصلت بخمس نمر تليفونية خاصة بعلى ماهر، فلم أعثر عليه..

واتصلت برئيس حركة التليفونات، وطلبت منه باسم القيادة العامة، أن يصلنى بالقصر الأخضر.. فأوصلنى به مباشرة، ولم أجد فيه على ماهر..

وأخيرًا اتصلت بالأستاذ إبراهيم عبدالوهاب، وأبلغته فى اختصار خطورة الحالة، وطلبت منه أن يسرع إلى بيت على ماهر، ويطلبنى من هناك فى تليفون القيادة العامة.

وذهب إبراهيم عبدالوهاب فعلا إلى بيت على ماهر..

ولكن مرّت نصف ساعة ولم يتصل بى..

واتصلت مرّة ثانية بحرم الأستاذ عبدالوهاب، واستطعت أن أحصل منها على رقم التليفون الذى أستطيع أن أحادث فيه على ماهر.. ورد على ماهر أخيرًا..

ولم أقل له من أنا..

إنما قلت: هنا القيادة.. اللواء محمد نجيب يريد من رفعتك أن تأتى إلى القيادة لأمر هام.. فإذا وافقت فسنرسل لك حراسة تصحبك إلى هنا.

وسكت على ماهر قليلا، ثم قال:

- الباشا فى الحمَّام.. استنى شوية لما نبلغه!!

وغاب رفعته قليلا، ثم عاد يقول، وبنفس الصوت:

- أنا على ماهر. إنى لا أستطيع أن أحضر إلى القيادة قبل أن أفهم الموضوع.. ارسلوا لى مندوبين عنكم لأتفاهم معهم.. قلت:

- سيصلك المندوب بعد دقائق..

- وحيلة «الباشا فى الحمَّام» حيلة قديمة عُرف بها على ماهر، حتى اشتهرت عنه، وأصبحنا- نحن الصحفيين- نتحملها صابرين.. وكأننا مغفلون!!

وأخذت معى اثنين من ضباط القيادة، وركبنا سيارة أحدهما، وتبعتنا سيارة جيب تحمل جنودًا مسلحين بالتومى جن، لحراستنا.

وفى الطريق اتفقت مع صديقى، على ألا نتكلم مع على ماهر بشأن الملك، أو مصيره، أو أن الحركة موجهة ضده مباشرة، إنما نكتفى بالحديث عن الفساد والتطهير، والإصلاح..

كنت أخاف أن يعارض على ماهر فى عزل الملك، أو يتراجع عندما يقف على الهدف البعيد للحركة..

واستقبلنا على ماهر فى الدور العلوى من داره فى الجيزة..

وبدأ الكلام أحد الضباط..

وتحمّس فى عرض أهداف حركة الجيش، حتى بدأ يتحدث عن مصير الملك، فمددت قدمى وضغطت بها على حذائه من تحت المائدة، حتى يخفف من حماسته..

ثم رجوت على ماهر بأن يسمح لى أن أشرح له الموضوع، بوصفى رسولا للواء محمد نجيب.

ولم أقل له إن الجيش يريدك رئيسًا للوزارة.

ولكن قلت إن الجيش يريدك أن تكون مستشاره.

ثم بدأت أعرض مطالب الجيش الخاصة بالتطهير  والدستور، وفهم على ماهر أن معنى استشارته هو أن يكون رئيسًا للوزارة.. وفى هذه الأثناء دخل الأستاذ حسن ماهر، وقال إن الأستاذ إدجار جلاد موجود فى غرفة أخرى ويريد أن ينضم إلى اجتماعنا..

ونظر على ماهر إلينا..

فأجاب الضباط: لا.. لن نتكلم إذا جلس معنا إدجار جلاد..

وقال على ماهر، إن إدجار جلاد موجود معه من الصباح، وإنه يتولى الاتصال بالسراى فى الإسكندرية.

وعدنا إلى حديثنا..

وقال على ماهر إنه يقبل أن يتقيد بالمبادئ الدستورية، وبمبادئ التطهير التى قررها الجيش، ولكن لن يستطيع الآن أن يتقيد بأى تفصيل!

وأبلغناه أن القيادة فى انتظار حضور الأستاذ مرتضى المراغى مندوبًا عن الوزارة..

فقال على ماهر إنه يفضل أن ينتظر حتى تنتهى مقابلة مرتضى المراغى، واللواء محمد نجيب، ثم بعدها يحدد موقفه.

ثم قال:

- إننى لن أستطيع أن اتخذ أى خطوة إلا بعد أن يكلفنى الملك باتخاذها.. واسمحوا لى أن أصرح لكم بأنى سأبلغ الحديث الذى دار بينى وبينكم للسراى فى الإسكندرية حالا، وسيقوم جلاد «باشا» بتبليغه..

قلت:

- أرجو أن تترك مهمة تبليغ هذا الحديث لنا.

قال:

- لا.. إن واجب الأمانة يدعونى أن أبلغه، وأن أصارحكم بأنى سأبلغه.. 

وقمنا بالانصراف.

وعند باب المصعد، انتحى بى على ماهر، وسألنى عن اسمىّ الضابطين اللذين كانا معنا..

وقلت له الأسماء كاملة..

وعدنا إلى محمد نجيب، وأبلغته رأى على ماهر، وقلت له إنه قبل تشكيل الوزارة، إذا عهد إليه الملك بتشكيلها..

وقال محمد نجيب:

- عال.. ولقد أبلغت فريد زعلوك الذى كان يخاطبنى من الإسكندرية الآن بأن الجيش يريد على ماهر..

وقد أدلى محمد نجيب بعد ذلك بحديث لوكالات الأنباء قال فيه إن الجيش يريد على ماهر رئيسًا للوزارة.

واتصلت بعلى ماهر، وأبلغته هذه الأنباء..

وبقيت فى انتظار وصول الأستاذ مرتضى المراغى.. ثم أبلغت بوصوله المطار فأرسلت القيادة سيارات حربية لحراسته حتى مقر القيادة، ولكن مرتضى لم يكن فى المطار، وقيل إنه فى وزارة الداخلية، فأرسلت سيارات الحراسة إلى هناك، ولكن مرتضى لم يكن هناك أيضًا.

كان من المؤكد أن مرتضى وصل إلى القاهرة.

ولكن أين هو؟

لقد بقى ضباط الحراسة فى انتظاره بمكتب مدير الأمن العام ما يقرب من ساعة، ولكنه لم يظهر، ولم يستطع مدير الأمن العام أن يقول أين هو، فغضب الضباط، وعادوا إلى مركز القيادة..

 وفى هذه الأثناء- وأحب أن أتكلم بصراحة- بدأت أعصابى تخوننى.. لقد توهمت أن شيئًا يدبر للحركة فى الخفاء..

 وتوقفت الأحداث، توقفًا مريبًا زاد من شكوكى.. فالإسكندرية لم تعد تتصل بنا، ومرتضى المراغى لم يظهر بعد، والمندوبون بين الجيش والسراى قد كفوا عن نشاطهم..

لا بُدّ أنهم يتخذون تدبيرًا ما. ولا بُدّ أنه تدبير خطير!

وكنت قد اتصلت بمكتب «روزاليوسف» فى الإسكندرية، فأبلغونى أن نجيب الهلالى قد صرح لوزرائه، بأننى مشترك فى حركة الجيش وأننى ذهبت إلى على ماهر أطلب منه تشكيل الوزارة.. إلى آخر القصة التى لم يكن قد انقضى على حدوثها ساعات.

وأحسست بحبل المشنقة حول عنقى.

وكنت ألتفت إلى الطائرات التى تحلق فى السماء، خشية أن تكون طائرات إنجليز أرسلها الملك فارق للسيطرة على القاهرة والقبض علينا.. رُغم أن الإنجليز والأمريكان أكدوا فى الصباح الباكر أنهم لن يتدخلوا مادامت أرواح الأجانب فى سلام، ومادامت الحركة ليست موجهة إلى القوات البريطانية فى القنال..

وكان كل من فى القيادة يحس بما أحس به.. يحس بحبل المشنقة.. ويحس أن حياته- وربما حياة عائلته- معلقة بنجاح الحركة، ولكنى كنت الوحيد فيهم الذى أتكلم عن شكوكى ومخاوفى، أمّا هم فكانوا فى برودة الثلج حتى إن محمد نجيب وجد فى أعصابه القدرة ليقابل على أيوب مدى ساعة ونصف الساعة ليتذاكر معه ذكريات الصداقة.

وفلتت أعصابى منّى فى اللحظات الأخيرة..

وطلبتُ من أحد الضباط أن يقطع حديث محمد نجيب وعلى أيوب، ويدعوه لألقى إليه بمخاوفى..

وجاء محمد نجيب هادئًا، ثابتًا، ينفث دخان غليونه.. وكأن الدنيا كلها من حوله أمان..

قلت له:

- إن هذا الصمت الذى يحيط بنا لا يرحنى.. لا بُدّ أنهم يدبرون شيئًا!!

قال:

- وماذا تقترح؟

قلت:

- أى شيء.. لتتحرك الجيوش.. لنسبقهم إلى عمل شىء.. أى شىء.. أنت أدرى.. أنت القائد!

وقال صوت بجانب محمد نجيب!

 كل شىء أعدت له عدته. اطمئن!

وتركنا محمد نجيب وعاد إلى حديثه الممتع مع على أيوب!

وفى الساعة الثالثة بعد الظهر، دق جرس التليفون فى إحدى حجرات القيادة، وقال المتكلم:

- لقد استقالت وزارة الهلالى، وعهد الملك إلى على ماهر بتشكيل الوزارة.. وعادت الحياة تنشط من جديد بين الحجرات.. ولم أشترك فى هذا النشاط.

ركبت سيارتى، وعدت إلى بيتى، لأرى السيدة الكريمة التى انخلع قلبها علىّ، خلال هذه الساعات الطوال..

وارتميت على سريرى لأنام، ولا أدرى كم نمت، فقد كنت كمن قضى عشر سنوات واقفًا على أعصابه، وآن له أن يستريح..

وفى المساء عدت إلى على ماهر فى منزله، وتناولت معه طعام العشاء برفقة فريق من وزرائه، ثم اختليت به بعد العشاء، لأروى له قصة الأزمة كاملة، ثم قلت: 

- إن مطالب الجيش أبعد مما تصور!

قال:

- ماذا يطلبون مثلا:

ولم أقل شيئًا عن الملك، بل قلت:

- إنهم يطلبون إلغاء البوليس السياسى مثلا:

وأجاب:

- خسارة.. دى أداة نافعة جدّا..

وقلت:

- إن طلباتهم من هذا النوع كثيرة.. وأرجو أن تختار وزراءك من الشبان المعروفين بكفاءتهم، وقوة وطنيتهم، حتى يساعدوك على تلقى هذه المطالب.

واستدركت قائلا:

- إنى كاتب عبرت دائمًا عن أفكار ضباط هذه الحركة.. وسأظل دائمًا كاتبًا، ولا أريد إلا أن أكون كاتبًا.. ولذلك فإنى أستطيع أن أرى أكثر مما يراه غيرى.

وقلت هذا لأن فى إشاعة ذاعت يومها، عن أنى مرشح للوزارة.. وخفت أن تكون هذه الإشاعة قد طرأت على ذهن على ماهر، وأنا أنصحه بأن يختار وزراءه من الشبان الوطنيين.

وتركت على ماهر..

ولم يقتنع معاليه- يومها- بمبدأ الاستعانة بوزراء شبان وطنيين.. خرجت من عنده، وكل ما فى رأسى أن الملك قد هُزم فى الموقعة الأولى.. 

وكانت الهزيمة الثانية للملك فى اليوم التالى، عندما قبل مطالب الجيش كاملة رُغم تطرفها.

كانت هزيمته الأخيرة يوم وقّع وثيقة التنازل فى اليوم الثالث..