الخميس 18 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري

قراءة فى رحلة الدم القتلة الأوائل - لإبراهيم عيسى "الحلقة التاسعة".. كان الضجيج لا ينقطع من زحام المتمردين أمام دار عثمان.. خناق وصخب وشتائم وبذاءات ووعيد مهرطق وكره متألق

كما عهدناه، كاتبًا فذًا، وراويًا متمكنًا، يسير «إبراهيم عيسى» فى سرده للتاريخ الإسلامى، بين صفحات روايته «رحلة الدم»، الجزء الأول من سلسلة «القتلة الأوائل»؛ لينقلنا من الفسطاط إلى المدينة، ومن حدث جَلل إلى آخر أعمق، كاشفًا أسرار الخلافات والمشاحنات والصدامات بين الرّعيل الأول من المسلمين، راسمًا الصورة الكاملة لكل مَشهد جمع بينهم؛ فى خلاف أو محاججة أو مجادلة، لنشعر أننا مشاركون فى الحدث، نتابعه عن كثب، ونتفاعل معه، مستمتعين بالتشبيهات الرائعة والتعبيرات البليغة.



 

كأنه يرى ويسمع، وينقل لنا الأحداث بكل تفاصيلها، صوتًا وصورة، يكمل إبراهيم عيسى سرده البديع ووصفه المتناغم، فى رائعته «رحلة الدم»؛ الجزء الأول من سلسلة «القتلة الأوائل»، لنتابع أحداث الفتنة عن كثب، ونكتشف المزيد من الأسرار فى التاريخ الإسلامى،  وننهى فى هذه الحلقة قراءتنا للجزء الأول من السلسلة، بتفاصيل اليوم الدامى الذى قُتل فيه الخليفة عثمان بن عفان، ونبدأ فى الحلقات القادمة رحلة أكثر إثارة ومتعة فى الجزء الثانى «حروب الرحماء»

لقاء عثمان وعلى

يروى إبراهيم عيسى تفاصيل الحوار الذى دار بين الخليفة عثمان بن عفان وعلى بن أبى طالب فى منزل الأخير، بعدما وصلت الفتنة مداها، واشتد الحصار على بيت الخليفة، ساردًا: «كانت هذه المرة غير سابقتها، فعثمان يزور عليًا فى داره فعلًا لكن بالليل وسط عتمة المدينة، وليس فى وضح نهارها كما زيارته الماضية، وبين حرس يقفون عند الباب وحول الأسوار، وليس بنجيح وصبيح وحدهما فى رفقة عثمان، حتى الحسن والحسين خرجا من الدار ووقفا عند وصيده يتركان الصاحبين لتحاورهما. لكن بعد فوات وقت كان الجميع يسمع ما يدور بين الخليفة وصاحبه، فقد ارتفع الصوتان، وبينما كانا يهدآن قليلًا  كان مروان يذهب ليسترق السمع وهو يضرب قبضته فى سطح فخذه، وكان الحسن يتابعه بعينيه دون أن يرده.

كان عثمان جالسًا على ذلك المقعد الوحيد وعلى يجلس على حصيرة:

• يتجرأون عليّ فى مسجد النبى وأنا خليفتهم؟!

• إنهم يطلبون العدل.

• بأن يظلموني؟

• لا يظلمنك من يردك عن خطئك.

• أى خطأ وقد قلت لهم بأنى سأفعل ما يريده علي وهو لى ضمين؟

• علي،  أبعد هذا كله تقول عليًا؟ أما رضيت من مروان ولا رضى منك إلا بتحرفك عن دينك وعن عقلك مثل جمل الظعينة يقاد حيث يسار به؟

• هل عثمان بن عفان جمل الظعينة يا ابن عمي؟

• بل هو الأخ والصاحب وابن العم وذو النورين.

• وخليفة المسلمين.

• وماذا فعلت يا خليفة المسلمين حين جاءوك لتعدل فيهم؟

• إن الذين تجرأوا عليّ وكسروا عصاتى وأفسدوا خطبتى وسبونى ليسوا المصريين الذين جاءوك وتفاوضت معهم باسمى.

• وهذه مصيبة والله أعلم، أى أن أهل المدينة هم عاصوك وغاضبوك وليسوا المصريين الذين قلت إن ابن أبى بكر وابن أبى حذيفة من ألبهم عليك، فمن هم إذن الذين ألبوا عليك المدينة؟

• أنت والزبير وطلحة وعمار وعائشة.

حصار الخليفة

يصف إبراهيم عيسى الحشد الذى توافد على دار الخليفة، راويًا: «كأنه الحشر، وقد جُمع الناس ضحى. انخلع قلب نائلة وهى ترى هذا التدافع الهائج المائج من الوجوه والعمائم والمناكب تتكالب، فتكاد تخلع باب القصر الذى التصق عنده حارساه اليتيمان اللذان وضعهما مروان لدرء هبوب صياح الغوغاء، فجاءته العاصفة الهوجاء بالمصريين مستحلفين وغاضبين».

• ما لهم كثروا إلى هذا الحد؟

قالوا لها ستمائة، لكنهم الآن كأنهم يملأون الأرض والسماء أمام البيت وفيه وحوله، ويسدون الممرات والحارات ويصعدون الأسطح ويتسلقون الأسوار. ليس المصريون وحدهم، بل ها هى ترى ملامح هذه الوجوه اليثربية وقسمات المهاجرين التى تعرفها وأنصارًا تستبين ملامحهم وعفر الوجوه من بدو وأعراب كانت تتجنبهم وهوام المدينة وعوامها، هى طعنة مروان قبل أن يكون نصل أصحاب عثمان..

كان الضجيج لا ينقطع من زحام هؤلاء المتمردين أمام دار عثمان، خناق وصخب وشتائم وبذاءات ووعيد مهرطق وكره متألق لا يتوقف طنينه منذ اثنين وعشرين يومًا. زهق مروان وضاق صدره وضج بالنقمة على معاوية. لا يرى الآن خطرًا عليه وعلى خليفته أكثر من مصريى ابن عديس وغوغاء المدينة إلا بطء معاوية أو تباطؤه أو تواطؤه. أيكون هكذا حقًا وعمدًا؟ طرد الخاطر الملح الذى لا يُطرد ببساطة، وتفقد عدة رجال استنفرهم صياحه يسدون الكوة التى فتحتها أيدى وأظافر العصاة فى الخارج تنقر وتحفر. تجول بعينيه من من باب الدار الخشبى الجهم إلى الباحة التى كان مخنوقًا ومحبوسًا داخل فضائها، ثم يبصر أسيفًا هذا الممر إلى السقيفة المؤدية إلى الباب المفتوح على صحن الدار، تظهر على جوانبها أبواب غرفة عثمان الكبيرة وغرف حريمه لم يبق منهن إلا ما اختارها، نائلة التى يدفع مروان ثمن حب عثمان لها غاليًا وثمينًا. توقف عند تلك النوافذ فنادى رجلين حيث لا يملك الكثير من الرجال حتى يأمر وينهى فيهم.

طلب منهما أن يدقا مزيدًا من الخشب وراء النوافذ منعًا لأن يصل عثمان أكثر مما يصل إليه من لعنات وترهات أو ربما حجارة أو طين من هؤلاء الوقحين أو لا قدر الله قفز واقتحام. وقف مروان قبل أن يدلف إلى داخل الدار ليطمئن على أمان بيت المال، تلك الغربية المبنية فى نهاية الباحة وعند حائطها وقد خلت من الحرس أو القائمين عليها الذين انضموا إلى أولئك الواقفين عند الباب الكبير أو تحت السقيفة ينتظرون ما لا يجيء، قدوم معاوية أو رجوع المصريين».

عثمان وابن أبى بكر

ينقل إبراهيم عيسى صوتًا وصورة ما حدث داخل دار عثمان بن عفان، عندما وصل محمد ابن أبى بكر إلى غرفته، ساردًا: «وقف محمد بن أبى بكر الصديق وحده أمام الغرفة فوجد عثمان وحيدًا. كان يريد هذه اللحظة منذ سنوات، أن يخلو له وجه هذا الرجل.. لما تدافع الناس على باب دار عثمان وخرج مروان ورجال بنى أمية إليهم، انسل ابن أبى بكر من بينهم وقد تبعه كنانة وجبلة وسودان، تخلف عنه عبيد الليثى وسط الزحام، ولم يلحظه ابن عديس، بينما لمحه ابن الحمق من بعيد من فوق الرءوس. كان ابن أبى بكر يعرف طريقه مبتعدًا عن باب عثمان إلى باب جاره عمرو بن حزم، فدق الباب بمقبض سيفه دقتين، خشى  وسط الصخب والضجيج ألا يسمعهما ابن حزم أو أن يكون قد خرج مع الناس ونسى اتفاقهما، لكن لحظة وكان ابن حزم يفتح الباب فيندفع ابن أبى بكر إلى الفناء، ويقفز كنانة ورفاقه السور إلى دار عثمان، حيث يهجمون على رجال بنى أمية من الداخل. وبينما انتبه لهما عبيد الله بن عمر فصاح ليلقاهم رجاله، كان ابن أبى بكر يصعد إلى السطح وحده ليقفز على سطح دار عثمان ثم يهبط منه خلف السقيفة فيصعد عتبة الباب الذى يقود إلى داخل الدار حيث غرفة عثمان، وها هو الآن يقف أمامه.

استغراق عثمان فى قراءة القرآن استفزه فهو يعرف أنه وصل، لا بد أنه سمع أنفاسه اللاهثة وزمجرته الكارهة وخطواته الثابتة الماشية نحوه. كان ابن أبى بكر يريد هذه اللحظة ولا يستعجل انتهاءها، أن يواجهه بكراهيته، أن يجابهه بكفره وظلمه، أن يرى فيه انكسار الهزيمة وإعلان الخيبة واعتراف الجرم وعقوبة الذنب. حين يلمع حد السيف أمام عينيه سيقر بمن انتصر اليوم. إن عثمان يوهمه بأنه المؤمن القانت المعتكف لمصحفه العاكف على صلاته، لا لن يخدعه. امتدت يد ابن أبى بكر تصفع عمامة عثمان، فأطاح بها، فانكشفت صلعته وتشعث شعره حول رأسه. اهتز جسد عثمان ومال رأسه، وامتدت كف ابن أبى بكر متصلبة متشنجة تقبض على لحية عثمان فتكورت فى قبضته متجعدة وهو يصرخ فوق رأسه، ثم يرفع لحيته إلى أعلى حتى يجبره على النظر فى وجهه:

• هل نفعك اليوم معاوية ومروان وابن عامر يا نعثل؟ ما أغنى عنك اليوم بنو أمية وقد أردت الدنيا فجئتك بالآخرة.

كان وجه عثمان فى قبضة ابن أبى بكر، التصقت نظراته فى عينى ابن أبى بكر، وتحشرجت أنفاسه فى أنف ابن أبى بكر، ورأى هذا الكره العميق يغلى فى بؤبؤى عينيه، تحمر وتشتعل وتبظ وتجحظ. من أين أتى بهذا الحقد؟ من أين جلب كل هذا الكره؟ متى انغرس ونما وأفرع؟ لماذا لا يتذكر وجه هذا الطفل فى يد أبيه أبى بكر؟ لماذا لم يتذكر أنه رآه فى حجر والده فى مسجد أو سقيفة؟ هل صاحب عبد الله ابنه يومًا؟ لا إنه فى سن ابنه الأصغر أبان. الحمد لله أن أبان فى مكة، هل كان ببهاقه وصممه سيقدر على كل هذا الغل؟ ثم قالها عثمان بخفوت صوت وألم نبرة ووحشة فرقة وافتقاد صاحب، قالها مغموسة بحزن طهور وأسى شفيق: يا قلبى على أبى بكر حين يعرف ماذا فعل ابنه فى أخيه!

ارتج ابن أبى بكر من الجملة، سمعها من عينى عثمان قبل شفتيه، فاشتدت قبضته على اللحية ولفح وجه عثمان بصراخ يصم الأذن: أخزاك الله يا نعثل، لو رأك أبى تعمل هذه الأعمال لأنكرها عليك، وقبِل أن أفعل فيك أشد من قبضى على لحيتك.

ترك ابن أبى بكر لحية عثمان وقد تصلبت يده كأنها لا تزال تمسك بها، ثم عاد برأسه وجسده للوراء، بينما سقط رأس عثمان للخلف.

استل ابن أبى بكر خنجرًا مسنونًا مدببًا من حزامه وشهره عاليًا وتقدم به مندفعًا ناحية عثمان يمعن فى عينيه، يريد أن يرى ذعره فرأى وجه أبيه: أبو بكر وعثمان يقتربان لباب المسجد فى نهار صيف قائظ يحثان الخطى لظل سقيفة الجامع، عثمان يقدم تمرًا لكف محمد وهو جالس بجوار أبيه أبى بكر قبل صلاة المغرب، وأبوبكر يخبر عثمان بأن محمدًا أصغر من صام فى أبنائه، فيمنحه عثمان تمرة إضافية ومسحة على الرأس، جنازة أبيه وعثمان بين تماسك الرجال وصلابة المشيعين وحده يبكى دمعًا يبلل هذه اللحية.

ارتعشت يد محمد بن أبى بكر وهو يرى عثمان يرفع كفه فوق المصحف ناحيته: إنى أستعين بالله عليك، لا تجعلنى أقول لأبى بكر وأنا ذاهب إليه الآن إنك من قتلنى يا محمد!

هوى الخنجر من يد ابن أبى بكر وسقط على الأرض، والتفت ليخرج مبتعدًا فصدمته رؤية نجيح وصبيح واقفين على باب الغرفة ممسكين بسيوفهما المسندة على الأرض، عرف أن كف عثمان أوقفتهما فانطلق خارجًا وهدير قلبه يطغى على ضجة علت ودنت».

قتل الخليفة

يصف إبراهيم عيسى مشهد قتل الخليفة عثمان بن عفان، راويًا: «لم تمضِ لحظة يلتقط فيها نجيح وصبيح أنفاسهما المرتجفة ويعود لهما الدم الهارب من العروق حتى كان كنانة مدويًا متفجرًا بالصياح يندفع تجاههما، فيضرب صبيح بظهر سيفه على ظهره فيلقيه أرضًا، بينما يركل نجيح بقدمه فيسقط نجيح متوجعًا صارخًا، بينما يقف كنانة فى مواجهة عثمان الذى تجاهل اندفاع كنانة وصراخه ووضع رأسه فى المصحف يكمل تلاوته. تحرك نجيح من وقعته فعرف كنانة نيته فرماه من مكانه بالسيف، ثم التقط الخنجر الملقى على الأرض، وركل المسند الخشبى للمصحف بقدمه فانحدف بعيدًا وافترشت صفحات المصحف على الأرض، بينما قفز كنانة ورفع الخنجر وهوى به يضرب كتف عثمان فترقوته فعنقه فينفجر الدم منثورًا على وجه عثمان ويغرق لحيته وينكفئ على جنبه مرميًا على صفحات المصحف التى تقطر دماء عثمان عليها وتفترش الآيات وتلون الحروف وتتشربها مسام جلد الصفحات، وتنزف من حوافها إلى الأرض.

وصل جبلة الآن لاهثًا ومحمومًا، وجد عثمان ملقى دون أن يوقن بموته، فرفع رمحه عاليًا ووجهه إلى بطن عثمان، وقد قلب جسده بنعله حتى ينيمه على ظهره فينكشف له بطنه.

هتف: هى لله، هى لله.

يقفز عاليًا ثم يهوى ثم ينزل رمحه مقبوضًا بقبضتيه فيطعن صدر عثمان حتى تتكسر عظامه وهى تصطك بحد الرمح.

يندفع كنانة خارجًا والدم يطرطش وجهه ورداءه وتتعلق قطع من جلد وعظم عثمان فى خنجره وهو يهتف مبحوح الصوت وفخيم الفخر ومدوى النبرة:

• قتلنا الكافر! قتلنا نعثل ابن اليهودية!

حين كان المحاصرون يحطمون كل شيء فى طريقهم، ويدخلون بيت المال يمزقون أجولته وينهبون صرره ويحرقون خشبه ويملأون دار عثمان وهم يهتفون: الله أكبر كبيرًا والحمد لله كثيرًا، نصر عبده وأعز جنده.. مات الكافر ابن عفان.

وقف ابن عديس عند باب غرفة عثمان يشهد الجثث المسجاة ويعبرها بخطواته، واقترب من جثة عثمان المبقورة والممزقة والعارية والغارقة فى الدماء، وتنهد وهمس: ليس أسوأ مما فعلته لنا فى حياتك يا عثمان إلا ما فعلته لنا بموتك».

فى الحلقة القادمة.. نبدأ قراءتنا بـ«حروب الرحماء»، الجزء الثانى من رائعة إبراهيم عيسى «القتلة الأوائل».