الخميس 28 مارس 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري

كتـب ممنوعة البحث.. وتجديد المفاهيم: إصلاح الفكر الدينى.. ونقد الخطاب!

الهجوم الذى تعرَّض له د. «نصر حامد أبوزيد» فى حياته، كان بسبب ما جاء فى كتاب «نقد الخطاب الدينى»، ويتكون الكتاب من ثلاثة فصول، الأول عن الخطاب الدينى المعاصر آلياته ومنطلقاته الفكرية، والثانى عن التراث بين التأويل والتلوين قراءة فى مشروع اليسار الإسلامى، والثالث عن قراءة النصوص الدينية قراءة استكشافية لأنماط الدلالة، والتى تحكم منطقه الداخلى.



يفرّق الكاتبُ بين الدين والفكر الدينى، فالدين هو مجموعة النصوص المقدسة فى الإسلام والتى ثبتت صحتها تاريخيًا فى القرآن والسُّنة، أمّا الفكر الدينى فهو الاجتهادات البشرية التى سعت لفهم تلك النصوص.

وتختلف الاجتهادات من عصر إلى عصر نتيجة اختلاف البيئة والواقع الاجتماعى مما يؤكد شرعية تعدُّد القراءات للنصوص، وما يحكمها هو واقع زمن القراءة، فالنصوص الدينية قد تلتقى أو تختلف فيما بينها حسب القراءات، ولكنها قابلة للنقد والتقويم.

وتم رفع قضية حسبة ودعوَى ضد «أبوزيد» للتفريق بينه وبين زوجته سنة 1995، وخرج للمنفى الاختيارى فى هولندا برفقة زوجته، ولم يَعُد إلى مصر إلا قبل وفاته فى 2010.

 قراءة الكتاب

يرى د.أبوزيد: «إن تحليل الخطاب يهتم أساسًا بالبعد التداولى للغة، أى بما تقوم به من تأثير من خلال الاتصال، وهذا ينفى عنه تمامًا التفتيش فى النيات والضمائر، أو الدخول فى عالم ما قبل القول، ولذلك يسمى علم تحليل الخطاب، ويختلف عن استخدام مصطلح تحليل الأفكار؛ لأن الأخير يوهم الدخول فى نوايا المتكلم ويتوهم الوصول إلى المقصد الأصلى قبل الكلام، وهذا فارق هام يستحق التأكيد».

ويقول: «هذا هو الفارق بين العقل الغيبى والعقل الدينى، فى حين يجد الأول تفسيرًا لكل شىء فى الإيمان، يسعى الثانى للكشف عن الأسباب المباشرة للظواهر دون أن يتخلى عن الإيمان، والواقع أن العقل الغيبى هو العقل القابل لأى تفسير يضع يافطة الإيمان».

كما يرى أن: «أصحاب مقولة القِدَم، يقفون عن الإلهى ويتصورون للقرآن وجودًا أزليًا فى اللوح المحفوظ خارج التاريخ، أى أن للقرآن وجودًا خارج مصالح البشر وخارج قوانين علاقتهم الاجتماعية، ومثل هذا التصور ينتج الكهنوت بكل تفاصيله».

تعتمد دراسة د.«نصر حامد أبوزيد» فى كتاب «نقد الخطاب الدينى»، على المجالات التى تشكل ذلك الخطاب، ويوضح الكتاب جوهر الاختلاف بين جماعات الإسلام السياسى المتطرف والإسلام السياسى المعتدل، وهو اختلافٌ فى الدرجة وليس فى النوع، فلا خلاف بينهما فى الأساس الفكرى ولا فى الطريقة المستعملة فى قراءة النص.

ويرى د.«أبوزيد» أن الخطاب الدينى المعتدل والمتطرف يستخدمان المنهج نفسه، منها الخلط بين الفكر والدين، والاعتماد على السَّلف والتراث، ورفض أى اختلاف فكرى باعتماد الأحكام القطعية، والاستشهاد بالعصر الذهبى للخلافة الراشدة، مع تجاهُل البعد التاريخى بين الماضى والحاضر.

ويؤكد أنه من الصعب فى تحليل الخطاب الدينى أن نفصل بين آليات هذا الخطاب وأساسه الفكرى، كما يعتبر أنه قد حدثت عملية نصب كبرى من خلال التمهيد بخطاب يؤكد الأسطورة والخرافة ويقتل العقل- وذلك حسب طرح د.«أبوزيد» لجوهر العلمانية: «ليست فى جوهرها سوى التأويل الحقيقى والفهم العلمى للدين، وليست ما يروّج له المُبطلون من أنها الإلحاد الذى يفصل الدين عن الدولة والحياة».

ويرى أنه من أهم مبادئ الفكر العلمانى أنه لا سُلطان على العقل إلا العقل، وأن الجميع يتحدثون عن الإسلام دون أن يطرح أحدهم فهمه هو للإسلام أو لنصوصه، كما أن هذا الخطاب لا يتحمّل أى خلاف جذرى، حتى إن سمح ببعض الخلافات البسيطة، وذلك باعتباره يزعم امتلاكه للحقيقة المُطلقة، ويرى أن العلم الإلهى فى حقيقته علمٌ إنسانىٌ، بمعنى أنه يتحول إلى علم إنسانى بالفهم والتأويل.

ويقول د.أبوزيد: «الخطاب الدينى يتفق على أن النصوص قابلة لتجدُّد الفهم، واختلاف الاجتهاد حسب الزمان والمكان، لكنه يبقى ثابتًا عند فهم الفقهاء لأى ظاهرة، ولذلك يعتمد على النصوص التشريعية دون نصوص العقائد، أو القصص، وعلى هذا التحديد لمجال الاجتهاد يؤسّس الخطاب الدينى لمقولة صلاحية الشريعة لكل زمان ومكان، ويعارض إلى حد التكفير الاجتهاد فى مجال العقائد أو القصص الدينى».

 نقد الكتاب 

مؤلفات د.«أبوزيد» جمعها إطارٌ محدد منهجًا فى التأويل، ومادة البحث تركزت فى مناطق القوة والضعف فى الفكر الإسلامى، وفى التجربة التطبيقية الإسلامية، وهذا هو الإطار النظرى العام الذى تحركت من خلاله أفكاره التى شكلت حلقة مهمة من حلقات تطوير الفكر النقدى العربى المعاصر.

وكتاب «نقد الخطاب الدينى»، لم يكن مجهولًا؛ فقد سبق لـ«أبوزيد» أن نشر منه فصولاً متفرّقة قبل الكتاب، ولم يُحدث نشرُها أىَّ ضجة، لكن الكتاب أصبح مادة لرفع دعوَى للتكفير، وذلك بسبب عنوان الكتاب الذى جذب أنظار من يتربصون بالكاتب وبفكره، وكان خصمه الرئيسى فى قضية التكفير والتفريق هو د.«عبدالصبور شاهين».

ويفسّر «أبوزيد» سببَ اتخاذ كتابه مادة للاتهام بقوله: «نجح نقد الخطاب الدينى فى أن يعكس لـ عبدالصبور شاهين ولأمثاله صورتهم، إن على مستوى الخطاب أو على مستوى السلوك، وهذا ما يفسر حالة الذعر التى أصابته حين رأى صورته منعكسة على سطح مرآة».

 تجديد الفكر الدينى

ساهم الخطاب الدينى المتطرف فى صناعة الإرهاب، واختلفت وسائله بين قتل وحرق وتفجير واختطاف، والإرهاب الذى تمارسه الجماعات الدينية المتطرفة هو أكبر إساءة إلى الدين الذى جعل الإرهاب جريمة: (وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِى الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ)، البقرة 205، فمن نتائج الإفساد خراب الأرض وقتل الناس، وهما نفس ما ينتج عن الإرهاب.

ومواجهة تلك الجماعات لا يتم أمنيًا فقط؛ لكن يجب مواجهتها فكريًا من داخل الدين، والمواجهة تتم بإصلاح الفكر الدينى وليس بإصلاح الخطاب الدينى فقط، وأيضًا ليس بالإصلاح الدينى، فلا يوجد إصلاح دينى فى الإسلام؛ لأن القرآن الكريم الذى تعهد الله تعالى بحفظه: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ)، الحجر 9، يضمن سلامة وصحة الدين، وإصلاح الخطاب الدينى وحده ليس كافيًا؛ لأن الأفكار غير الصحيحة ستظل موجودة وستتم صياغتها فى شكل جديد ويبقى المضمون هو نفسه.

ولذلك نحن بحاجة لإصلاح الفكر الدينى؛ لكشف أفكار المتطرفين من كراهية وتكفير وقتل، وكلها من منابع الإرهاب، فإصلاح الفكر الدينى هو إصلاح ما تم إفساده من فكر وممارسة عملية للدين، فالإصلاح سيهدم المفاهيم الفاسدة ويبنى مفاهيم تتفق مع مقاصد القرآن لتصحيح العلاقة بين الفرد ونفسه، ومع الله تعالى، ومع الآخرين، مع توضيح الفرْق بين مَظاهر التدين وبين حقيقة الدين. 

وفى مواجهة الإرهاب يجب البحث عن المَصدر الحقيقى لفكر الإرهابيين ومعالجته، ومنها مراجعة الفكر الدينى، فالإصلاح لن يتم باستبعاد الدين كما حدث فى الغرب؛ لأن الدين عندنا مكوَّنٌ أساسىٌ للثقافة، والمشكلة أن أصحاب الفقه التراثى التقليدى يقاومون أىَّ محاولة للإصلاح والتصحيح فى الفكر الدينى.

وحتى يحدث التغيير: (..إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ..)، الرعد 11، وكلمة (بِأَنْفُسِهِمْ) تشمل المجموع والفرد فى العمل على التغيير المستمر للأفضل، ولذلك فليس علينا أن ننتظر أن يغير كل الناس ما بأنفسهم حتى يغير الله حالنا إلى الأفضل.

وعندما تصبح نسبة الذين غيّروا ما بأنفسهم من الباطل إلى الحق نسبة مُعينة فى المجتمع يحدث التغير للآخرين، أو ما يسمى علميًا بالكتلة الحرجة لبداية التغير فى المادة، وتلك النسبة تبدأ من  15 % إلى 25 % من مجموع التغيرات المطلوبة، وعندها يتحقق التغير على مستوى الفكر والفعل.

والإصلاح يتضمن تهيئة الدعاة ورجال الدين ليكونوا علماء فعلاً: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ)، فاطر 28، فالعالِم ليس بحفظ النص؛ بل العالِم هو واسعُ المعرفة والثقافة بالدين والدنيا، ويتم ذلك بخطة مدروسة طويلة الأمد، تضمن قبول المجتمع للتحوّل التدريجى من الاعتماد على النقل إلى الاعتماد على العقل. 

لقد تعدّى الأمرُ حدودَ التكفير الفكرى، كما حدث فى قضية د.«نصر حامد أبوزيد»؛ حيث تم رفع أمْر التكفير إلى القضاء؛ ليسجل حكمًا بالتفريق الزوجى، وهو فعل عقابى له طبيعة عائلية، تتجاوز حدودَ الفاعل، وليس حكمًا خاصًا بمصير المدّعى عليه كفرد، وبمسئوليته الفكرية الشخصية.

ولذلك فطريق الإصلاح يحتاج إلى أجيال متتابعة، من أجل خَلق حالة فكرية جديدة لتحقيق إصلاح ثقافة المجتمع، فعندما ندرك أن مشكلتنا بدأت من تغييب العقل والمنطق والموضوعية، وعندما ندرك أن العدو الأول للإسلام هو الفهم غير الصحيح للإسلام؛ نكون قد بدأنا الخطوة الأولى باتجاه إصلاح الفكر الدينى.