الثلاثاء 23 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري

كنوز آمال العمدة.. يوسف إدريس: أرفض فكرة إحالة الأدباء للمعاش!

الأسبوع الماضى نشرنا فى الحلقة الثانية من الحوار مع الأديب الكبير يوسف إدريس كيف كان عشقه للموسيقى حيث إنه استمد معظم أفكار قصصه منها، وتحدث عن الأزمات التى تواجه الصحافة الأدبية فى مصر وحبه الكبير للمسرح واختلافه مع أنيس منصور ورأيه فى العديد من الأديبات المصريات.. وإلى باقى الحوار.



 

درست الطب كثقافة وليس كحرفة

آمال: وماذا أضاف الطب إلى يوسف إدريس الأديب؟ وهل نجحت من خلال الطب فى تشريح شخصيات رواياتك؟

- يوسف إدريس: درست الطب كثقافة وليس كحرفة، وهو موجود بداخلى كثقافة حتى الآن، وأنا مارسته لفترة كحرفة، لكنى أدركت بعد فترة أن اهتمامى بالطب يجب أن يأخذ شكل الشمولية التى أهتم بها بالعلم ككل.

آمال: كيف تُقَيّم يوسف إدريس كطبيب؟

- يوسف إدريس: كنت ممتازًا فى التشخيص لكن المشكلة أننى كنت أنسَى دائمًا أسماء الأدوية مما كان يؤثر على اختيارى للعلاج.

آمال: هل هذا بسبب سيطرة شيطان الأدب عليك؟

- يوسف إدريس: لا.. فالتشخيص عند الأطباء ينقسم إلى نوعين وهما تشخيص الطبيب المجتهد، وتشخيص الطبيب الذى يملك الفراسة، وأنا كنت من النوع الثانى الذى يُشَخّص بالفراسة حتى دون أسباب عقلية لهذا التشخيص.

آمال: لماذا لم يقدك الطب إلى شكل من أشكال الأدب العلمى؟

- يوسف إدريس: لسبب بسيط وهو أننى لم أكن أرغب فى كتابة الأدب العلمى، فأنا كنت أسعى للتحول نهائيّا عن ممارسة الطب كمهنة إلى الأدب والكتابة وأسعد فترة فى حياتى هى التى كنت أعمل فيها تزاوجًا بين الطب والأدب، فكنت أعمل بالطب وأكتب الأدب ثم وجدت أن عملى كطبيب يحتاج لتفرغ كامل، وأيضًا عملى بالأدب، فكان لا بُدَّ أن أختار بين الطب والأدب، وسألت نفسى إن كنت سأسعد باختيارى الطب كمهنة أو الأدب كمهنة فوجدت أنى سأكون أكثر سعادة إن عملت بالأدب.

آمال: فى الدول النامية يثرى الطبيب من مهنته، فهل أثريت من الأدب؟ وهل أنت نادم على اختيار الطريق الذى يصعب فيه تحقيق الثراء؟

- يوسف إدريس: لا شَك أن مكاسب الطب المادية أكبر بكثير، وأن مَن يختار الأدب فإنما يختار طريقًا صعبًا، والحقيقة أننى لم أحقق الثراء من الأدب.

آمال: ما رأيك فى الأديب الذى يحقق الثراء من الأدب؟

- يوسف إدريس: يجب أن تكون اللغة التى يكتب بها لغة عالمية، وحتى فى هذه الحالة يصعب عليه تحقيق الثراء، والحقيقة أننى أشعر بالغيظ من الكُتّاب الإنجليز الذين يكتب الواحد منهم مسرحية واحدة ويعيش عليها طوال عمره، فى حين أننا كتبنا الكثير ولم نحقق مكاسب مادية تُذكر، فأنا حتى الآن لا يمكن أن أعيش إطلاقًا معتمدًا على أجرى ككاتب، ولولا أنى أعمل فى قسم التحرير بالأهرام وأتقاضى راتبًا جيدًا لصعب علىَّ الأمر جدًا.

تُرجمت قصصى لـ 33 لغة

آمال: إذا تحدّثنا عن المترجمات.. كم عدد ما تُرجم من إنتاجك؟

- يوسف إدريس: تُرجمت قصصى لنحو 33 لغة رئيسية ومحلية وحتى إنها ترجمت للغات محلية فى الهند وروسيا وإفريقيا، وأنا سعيد لأن الأدب العربى بدأ يجذب اهتمام العالم وبدأوا يحرصون على ترجمة إنتاجنا لكى يتعرفوا على العقلية العربية.

آمال: تم اختيارك للتحكيم فى جائزة الأدب العالمى.. فكيف حدث ذلك؟

- يوسف إدريس: جائزة الأدب العالمى تشبه جائزة نوبل ولكنها ليست بالقيمة المادية لنوبل، لكن لها قيمة أدبية كبيرة، فهى تعادل جائزة الأوسكار، وأنا اخترت من بين لجنة التحكيم، وسعدت بذلك لأنى اخترت ضمن عشرة كُتّاب فى العالم كله، وطبعًا القاضى فى هذه الجوائز أعلى مكانة من الفائز لكن الحقيقة أننى كنت أرغب فى أن أكون فائزًا بهذه الجائزة أكثر من رغبتى فى أن أكون مُحكّمًا فيها، لكن الجيد فى الأمر أن الغرب بدأ يشعر بالكاتب العربى المعاصر ويطلبه فى لجان تحكيم المسابقات العالمية.

آمال: وماذا تتمنى أن تكون أيضًا؟

- يوسف إدريس: أتمنى أن أكون عالمًا بالحقيقة فهو المجال الوحيد الذى يمكن أن أبدع فيه، أن أكون عالمًا يبحث فى العلم لكى يجد الحقيقة.

آمال: هل يمكن تصنيفك بين الأدباء على أنك تبحث عن الحقيقة من خلال ممارستك للأدب؟

- يوسف إدريس: أنا لم أمارس الأدب إلا لكى أبحث عن الحقيقة وهذه هى الحقيقة الشاملة والقصوَى فى حياتى.

آمال: هل تتصور أن كلماتك ستستمر كجسر يوصل لقلب القارئ أمْ أن أجيالًا جديدة ستأتى للتخاطب مع الشباب بلغة أقرب لهم؟

- يوسف إدريس: الأمر ليس كذلك، فأنا لا أعرف لماذا توجد فكرة الأجيال فى الأدب العربى وحده دون أن توجد فى الآداب العالمية، وقد يكون هذا لأن عمرنا الفنّى قصير، فأنا أعتبر أن أى قصيدة للمتنبى معاصرة أكثر من أشعار الكثير من شعراء العصر الحالى.. لكن من المؤكد أن هناك فترات لا يمكن أن أتخطى فيها الشباب لأنه لا توجد اللغة المشتركة بيننا، لكن على الأقل سيكون هناك تعبير عن هذه السن فى كتاباتى، والحقيقة أنه من الصعب معاملة الكاتب على سنّه فقد يستطيع كاتب فى الخمسين من عمره أن يُعبر عن تجربة لا يتمكن كاتب فى العشرين أن يُعبر عنها.

آمال: إذن فأنت ترفض فكرة إحالة الأدباء للمعاش؟

- يوسف إدريس: أرفضها رفضًا مطلقًا، فإخضاع الموهبة الأدبية لعناصر الشباب والنضج والشيخوخة أمرٌ خاطئٌ، فهناك أعمال كل مجدها أنها صدرت فى عام بعينه فتشهد مجدها من ارتباطها بالزمن الذى كُتبت فيه، وهناك أعمال أخرى يصل الكاتب فيها لدرجة من العمق يتخطى بها حاجز الزمن لأنها تكون حقيقة إنسانية، فتكون لديه القدرة على الاستمرارية خلال الأجيال المتلاحقة من خلال فكره المعاصر والمتجدد دائمًا.

حينما أكتب أكون نرجسيًا

آمال: هل تتصور أن الأديب فيه شىء من النرجسية؟

- يوسف إدريس: لا أعتقد ذلك، فكل شخص يختار مهنته على هيئة طبيعته والنرجسية ليست شيئًا خاصّا بالكاتب، لكنى لا أنكر أننى حينما أكتب فأنا أكون نرجسيًا بشكل ما، بمعنى أننى أشعر بأننى أريد أن أضع كلماتى فى أحسن صورة للوصول إلى القارئ.

آمال: فى رأيك.. كيف يشارك المثقفون وينزلون من الأبراج الفكرية إلى الشارع؟ مع العلم أن هناك رأيًا لمثقف آخر هو الأستاذ نجيب محفوظ قال فيه إن المثقفين كانوا مشاركين بالفعل طوال الوقت فى الحركة الفكرية والسياسية ولكن كان البعض منهم معزولًا لاعتبارات سياسية عكس المرحلة الحالية التى تتسم بالحرية.

- يوسف إدريس: مع احترامى لرأى نجيب محفوظ، فأنا أقول إن سبب عزل المثقفين عن الحركة الوطنية والقومية لم يكن لأسباب سياسية فقط؛ وإنما كان لأن الدولة لم تكن مؤمنة بما يستطيع أن يصنعه المثقف من أجل النهوض بالأمة، فكانوا يعتمدون أساسًا على ما نسميه التكنوقراط مثل المهندسين والأطباء والمحامين لا على المثقفين الشاملين الذين يملكون نظرة شاملة لمجتمعنا وكيفية إصلاحه وإدارته، فلم تكن الدولة مؤمنة بدور المثقفين ولا بقدرتهم على فعل أى شىء؛ بل أكثر من هذا فقد مرّت فترة كانت الثقافة فيها محل سخرية على المسارح وفى أفلام السينما وأجهزة الإعلام، وكلمة مثقف كانت تقال على شخص لا دور له فى الحياة ويعيش على هامشها، إلى آخره من الصفات التى توحى بأن المثقف لا يقوم بدور فعّال مطلقًا.

آمال: قلت من قبل إنك تخشى الحديث عن الثقافة خوفًا من أن يغلق الناس الراديو أو التليفزيون أو الواجهة التى تتحدث فيها عن الثقافة؛ فهل تعتقد أن المواطن المصرى البسيط يمكن اليوم أن ينصت أو يفتح عيونه للثقافة؟

- يوسف إدريس: هذا يرجع لتصور المثقفين من الجيل السابق للثقافة، فكان المثقف عندهم يضرب أمثالًا تفوق إدراك المواطن العادى، وعلى الفور كان مقاله يعزل عن اهتمامات الشخص المصرى البسيط، فى حين أن الثقافة تتعامل مع أبسط الأشياء حتى مع إعداد الطعام وتنسيق الزهور والسير فى الشارع وطريقة التصرف، والسلوك فى السينما والمسرح، فكلها أنواع من الثقافة، وهكذا فإن الثقافة ليست مواضيع متخصصة وعلمية لا يفهمها إلا المثقفون؛ بل هى رؤية للحياة تتسم بطابع حضارى متطور وعلى المثقفين أن يُبَسّطوا الموضوعات، وكلما قاموا بتبسيط الأمور وتناولوا مسائل أكثر بساطة وصلوا إلى مدى ثقافى أعلى، فالثقافة هى الحياة بكل متطلباتها، والبدايات الثقافية الحقيقية هى أبسط الأشياء وليست أعقدها، لهذا فحينما أسمع سخرية من المثقفين فى أجهزة الإعلام والروايات والمسرحيات يُهَيّأ لى أنها سخرية الجاهل من العارف وليست سخرية الشخص العادى من المثقف؛ لأنه من المفروض أن يكون المثقف عارفًا وله وجهة نظر محددة، فالثقافة لا تُخيف والمثقفون لا يُخيفون أحدًا، لكن أطلقت عليهم هذه الافتراءات لإبعادهم عن مجرَى الحياة الواسع فى مصر لكى يتحكم فيه ليس قليلى الثقافة؛ بل خريبى الذمة؛ لأن الثقافة فى أحد جوانبها المهمة تعنى بالقيم ولكنّ الكثيرين فى حياتنا المصرية كان يهمهم إبعاد القيم فى حياتنا؛ سواء كانت قيمًا ثقافية أو أخلاقية أو تربوية، فكانوا يَسخرون من المثقفين لإبعاد هذا المنغص عنهم.

آمال: كلامك يذكرنى بنقطتين؛ الأولى هى تبسيط المفاهيم أو الفكر ووصوله إلى أبسط الناس وإلى المواطن المصرى البسيط الذى يسير فى الشارع، وأنه ليس من المفروض أن يتعالى المثقف بكلماته على الناس ويقطع جسور التواصل بين فكره وبين الناس.. - يوسف إدريس: من المفروض أن جزءًا أساسيّا من الثقافة هو التعليم المستمر المتجرد للناس لكى يصلوا إلى المفاهيم العليا، فأنا حينما أستخدم كلماة «فريچيدير» فقد لا يفهمها البعض وهذا يدفعهم للبحث عن معناها، وهناك الكثير من الأشياء التى عرف الناس معنى أسمائها بالبحث بنفس هذا الأسلوب وهذا البحث يكسبهم المعرفة والتعليم.. فقد كان عندنا أستاذ علم وظائف أعضاء فى كلية الطب وكان تلميذًا للعالم الروسى الكبير «بابلوف» وكان هو أستاذًا متخصصًا فى شرح فسيولوچيا الجهاز الهضمى، وكان حينما يدخل لإلقاء المحاضرة كنا نشعر بأن علم وظائف الأعضاء هو أسهل علم فى العالم، أمّا حينما كنا نتلقى المحاضرة عن طريق المعيد أو عن طريق مدرس آخر، كنا نخرج من المحاضرة وأننا نشعر أنه لا علم أصعب من علم وظائف الأعضاء، وأنه لا سبيل إلى معرفته أو إلى فهمه رُغم أن المعيد شرح نفس الدرس.. إذن فإنه كلما ارتفعت درجة ثقافة المثقف قام بتبسيط الأمور إلى الناس..

فالمثقف هو ذلك الذى يُبسِّط الصعب والجاهل هو الذى يُصعِّب البسيط، بدليل أن المثقف يفشل فى حل مشاكله الشخصية؛ حيث يجيد حل المشاكل العامة بشكل أكبر؛ لأنه متبحّر فيها أكثر من تبحّره فى مشكلاته الشخصية، فالثقافة تعنى البساطة أو تعنى الفهم الجماعى البسيط للمسائل بشكل يُسَهلها على الناس.

آمال: والدليل على صحة ما تقول هو أنك لا تستخدم فى كتاباتك ألفاظًا صعبة على القارئ؛ بل تحاول أن تيسّر عملية الفهم، وإذا استخدمت كلمة جديدة فقد يكون ذلك لكى تستفز شهوة القارئ للتعرف عليها بالبحث عن مدلولها ومعناها.

- يوسف إدريس: إذا استخدمت كلمة صعبة جديدة فهذا يحدث عن قصد لأنه ليس من المفروض أن تكون الثقافة حكرًا على المثقفين، فهذا يُعتبر قمة فشل الثقافة؛ بل الثقافة مِلْكٌ للجمهور والشعب كله، فهى تخاطب الأشياء المشتركة العامّة بينه وبين الناس، ولهذا فلا بُدَّ أن تخاطبهم بلغة تصل لهم لكى يفهموها بسهولة، وليس معنى هذا التبسيط المخل؛ بل معناها الوصول إلى المعنى، فقد استخدم تعبيرًا يبدو أنه ليس بسيطًا لكن فى الوقت نفسه يصل بالمعنى للقارئ أكثر من التعبير البسيط.

آمال: إذن فالمطلوب من المثقفين المباشرة فى التعبير لكى تصل أفكارُهم للناس والتبسيط حتى لا ينعزل المثقفون بعيدًا عن المتلقى العادى الذى يجب أن يعرف من خلالهم ومن خلال فكرهم.

- يوسف إدريس: يمكن أن ألخص المطلوب فى شيئين، عدم التقعر من ناحية بمعنى عدم الغرَق فى الغموض، وفى الوقت نفسه مطلوب أيضًا من المثقف ألا يحاول أن يُظهر ثقافته للمتلقى، فعلى العكس كلما أخفى ثقافته وأوضح وأظهر بساطته زادت سرعة وصوله للناس.

المطلوب من المثقفين عدم الخيانة الفكرية

آمال: قلتَ من قبل إن المثقفين كانوا بعيدين عن الساحة وبالتالى فقد كانت القدوة بعيدة وكانت الطهارة فى اليد بعيدة أيضًا، باعتبار أن قيم المثقفين وسلوكياتهم تسمو عن الدنيويات البسيطة التى يمكن أن تجذب أى إنسان بعيد عن حقل الثقافة، فلنقف عند كلمة طهارة اليد وهى أمرٌ مهم وضرورى.. وأسألك هل هى أمرٌ مستحيل؟ 

- يوسف إدريس: طهارة اليد ليست مهمة بالنسبة للمثقفين لأنهم لا يعملون مقابل المال أو فى مسائل تتعلق بالذمة، لكن المطلوب من المثقفين هو عدم الخيانة الفكرية؛ لأن الخيانة الفكرية أكثر ضررًا بكثير من السرقة المادية، فأن يكون المثقف على علم بالحقيقة ويقول غيرها كاذبًا، فهى جريمة لا تُغتَفر فى حين أن جرائم السرقة والاختلاس يمكن أن تُغتفر، وهكذا فالمطلوب من المثقف هو طهارة الذمة، فلا يصح أن يعرف الحقيقة وينكرها أو يكتب عكسها، وأن يكون له رأى معين ويخفيه خوفًا من أحد أو طمعًا فى منصب أو مكانة أو مكسب.

آمال: حينما تحدّثتَ عن طهارة اليد أسقطت الأمر على المثقفين الذين يَسْمُون عن الانحرافات فى الذمة المالية على أساس أن المثقفين قدوة لكل مواطن يتطلع لأن يقتدى بهم.

- يوسف إدريس: أنا شخصيّا أعتقد أن عدم طهارة اليد هو نوع من قلة الثقافة والجهل؛ لأنه لو كان هذا الشخص قد فكر فى الأمور بشكل صحيح لوجد أنه يعيش ويأكل ويشرب ويلبس فما الداعى لأن يطمع فى الملايين؟!.. فمَهما أنفق هو وأولاده فلا يمكن أن ينفقوا هذا المبلغ.. إذن فمَن يدمر عمره ويضيّع شبابه وشخصيته لكى يحصل على هذه الملايين، فهو إمّا أحمق أو جاهل أو متخلف عقليّا، وهذا هو ما يجعله يسرق، فهو يسرق نفسه ويتسبب فى خسارة أناس آخرين ويصبح مضرًا على مجتمعه.

آمال: كيف تحقق هذه الضرورة المنشودة بإيجاد القدوة والمثل أمام شباب مصر اليوم؟

- يوسف إدريس: فلنرجع عدة سنوات إلى الوراء حينما كان نجوم هذا المجتمع هم الممثلين والراقصين والمغنين، وهذا كان يمنح الشباب والبنات نموذجًا غريبًا جدّا فالأولاد كانوا يرغبون فى العمل بالتمثيل والبنات بالرقص، فى حين أن الجيل السابق عليه كان كل شاب يرى فى طه حسين مَثلًا أعلى وكل امرأة كانت تريد أن تكون مثل هدى شعراوى أو درية شفيق، فإدخال المثقفين كنماذج أمام الشباب سيحوّل التيار الفكرى العام من الاتجاه نحو الحصول على المال بأى طريقة نحو الثراء السريع الذى يسببه فقدان الذات وفقدان النفس وبيعها إلّا أنه بدلًا من تحصيل الفلوس فإنه يُحَصِّل ثقافة وعلمًا ومكانة فكرية عالية، وكذلك بالنسبة للبنات، فبدلًا من تعليم جسدهن كيف يتلوّى فإنهن يُعلمن عقولهن الذكاء والحكمة والرجاحة.

آمال: فى حوار سابق معك سألتك عن شباب اليوم من الأدباء، قلت لى إن المشكلة تكمن فى أن الشباب كلهم يريدون أن يكونوا نجيب محفوظ ويوسف إدريس وليس مندور أو على الراعى أو عبدالقادر القط، فهم يريدون الوصول بسرعة إلى النجومية من خلال إبداع الأدب وليس نقد الأدب.. فهل مازلت عند رأيك؟

- يوسف إدريس: أنا لم أصل بسرعة بالشكل الذى تصفينه، فأنا أكتب منذ ثلاثين عامًا لكى أتمكن من الحديث فى هذا البرنامج، وفى بداية طريقى كنت أضع لنفسى جدولًا يقضى بألا أنشر إلا بعد خمسة عشر عامًا من التجارب التى أختص بها نفسى.

آمال: هذا الكلام يجب أن يقتدى به شباب اليوم من المتطلعين لإبداع الأدب.

- يوسف إدريس: أتمنى ذلك لأننى أعتبر أنه إذا كان طالب الدكتوراه العادى يستغرق نحو خمسة عشر عامًا لكى يصبح طبيبًا؛ فإن الكاتب على الأقل يأخذ الكتابة بنفس الجدية التى يأخذها الباحث والمكتشف أو الساعى للدكتوراه، فالأدب ليس عملية سهلة وليس عملية تكفى فيها الموهبة فقط؛ إنما الأدب عملية جادة جدّا وخطيرة لأن معناه أن الأديب يقوم بدور الداعية فى بحثه ولهذا فلا بُدَّ أن يعرف شيئًا عن علوم مجتمعه مثل الجغرافيا والرياضة والتاريخ، أى لا بُدَّ أن يكون موسوعيّا لأنه يكتب لجمهور مثقف لا يمكن أن يخدعه كما يحاول الشعراء الحداثيون خداع القراء بتشبيهاتهم السيئة غير المفهومة.. وعندنا من الكُتّاب الشبان الموهوبين والممتازين الكثير، لكن مشكلتهم أنهم يضعون النشر والانتشار نُصب أعينهم مما يعوق نمو موهبتهم، لكن لو طرح أحدهم عملية النشر جانبًا، ووهب نفسه كاملًا وصادقًا لأن يصل إلى القصة التى يجب أن تكون أو يضع يده على نبض الشعب بحيث يشعر بما يريده الشعب فيصل دون أى جهد، لكن العائق الذى يواجهه هو أنه يريد أن ينشر لا أن يصل إلى عمق الشعب، وعليه أن يعرف أن عملية النشر ستحدث إن عاجلًا أمْ آجلًا، وسيكون فى يوم من الأيام مطالبًا بالكتابة ليلاحق على طلبات النشر، فأحد الكُتَّاب المشهورين فى الوقت الحالى جاءنى فى ذات مرّة فى بداياته يشكو لى من قلة النشر، فقلت له: «يا إسماعيل ستبحث بعد ذلك عن قصص لتنشرها فلن تجد ما تفى به طلبات النشر التى ستنهال عليك»، وهذا هو ما حدث فعلًا، فأنا واثق من أن المادة المطلوب نشرها كبيرة جدّا على طاقة الناشرين، ولكن الإنتاج الجيد قليل لهذا فكل الإنتاج الجيد لا بُدَّ أن ينشر، لكن على الكاتب أن يكرّس كل قواه فى البحث عن حقيقة ذاته وحقيقة شعبه والرسالة التى يرغب فى توجيهها عبر كتاباته.

سلامًا لروح صلاح عبدالصبور

آمال: انتقدت شعراء الحداثة.. فلمن تقرأ من الشعراء؟

- يوسف إدريس: أنا أعتبر أن أعظم شعر قيل فى اللغة العربية إلى الآن هو ما قاله أحمد شوقى باللغة العامية وغناه عبدالوهاب، وأعتبر أن هذا أفضل كثيرًا من قصائده الفصيحة، كذلك فإن ذوقى الشعرى الحديث متوقف عند صلاح عبدالصبور وأحمد عبدالمعطى حجازى لأن واحدًا منهما يحمل هموم الحكمة وهموم الكون والثانى يحمل عاطفته فوق يده ليقدمها لأصحاب العواطف المتقدة.

آمال: هل يمكن أن تقول كلمة لروح صلاح عبدالصبور؟

- يوسف إدريس: الغريب أننى بكيت كل أصدقائى الذين توفوا إلى رحمة الله عدا صلاح عبدالصبور فلم أبكِ عليه مطلقًا لأنى لم أشعر بأنه قد مات؛ بل هو اختفى عن عالمنا فى سن الخمسين، وهذه هى سن الشباب، فلقد كان صلاح الإنسان أكبر كثيرًا من صلاح الشاعر، وكان صلاح الشاعر أكبر كثيرًا من كل الشعراء الذين جاءوا فى العالم العربى عقب الحرب العالمية الثانية.

آمال: رُغم اعترافك بأنك لم تبكِ عليه إلا أن صوتك يتهدّج وأنت تتحدث عنه بعد رحيله.

- يوسف إدريس: أنا أعتبر أن البكاء تعبير ساذج عن الحزن، فأنا أتمنى أن أبكى صلاح عبدالصبور ولكن بشكل كبير يليق به، فهو لم يكن مجرد صديق؛ بل لقد كان رفيق جيلى وكنا متلازمَين فى حياتنا، فهى رفقة مشوار فى الفكر والكينونة وأخلاقياتنا كانت متشابهة، وكنت كلما رأيت عبدالصبور أتصور من فرط طيبته أننى شرير، والمضحك أنه قال لى مرّة العكس، أى أنه كلما  يرانى يتصور أنه الأقل طيبة منّى، والحقيقة أننى حتى الآن أعترف بأننى لم أتمكن من صياغة أفكارى عنه لأنى حتى الآن لا أزال  أعانى من كارثة اختفائه، والكثير من الأصدقاء يتعجبون من عدم كتابتى عنه، لكن صلاح عبدالصبور لم يكن بالنسبة لى مجرد إنسان عابر لأكتب انطباعى عنه لكنه شاعر قدّم للشعر العربى الكثير جدّا، وقدّم لى أنا شخصيّا كصديق الكثير أيضًا.

آمال: هذه الشخصيات القممية مثل صلاح عبدالصبور وأقرانه.. ألا توجد لهم قطع غيار وبدائل من شباب واعد من الممكن أن يملأوا مكانهم؟

- يوسف إدريس: بل عندنا شعراء شبان رائعون مثل أمل دنقل ومحمد إبراهيم أبو سنّة وفؤاد قاعود وصلاح جاهين وسيد حجاب وعبدالرحيم منصور وغيرهم، لكن صلاح عبدالصبور لم يكن يصدر شعره فقط عن شعرية؛ وإنما كان يصدر عن طبيعة إنسانية نقية جدّا، وهى أصل الفن، وكأنما يأخذ شعره من أصل الفنون، فبعض الشعراء الشبان يكتبون شعرًا أكثر فصاحة إنما لا يمكن أن يكون أكثر نقاء منه، فقد كان يمتلك الشاعرية الجامعية، فلم يكن يعبر عن صلاح عبدالصبور كشخص إنما كان يعبر عن الشعب المصرى الشاعر.