الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري

مفاوضات الحسم في أزمة سد النهضة: بين التعنت الإثيوبى.. والتأنى المصرى: مفاوضات النفس الطويل

عَشْر سنوات مرّت، ولا تزال مفاوضاتُ سد النهضة مستمرةً، دون التوصل إلى اتفاق بين «مصر»، و«إثيوبيا»، و«السودان». وفى الوقت الذى قد يرى البعض أنها مدة زمنية طويلة؛ إلا أنها بالنسبة للمفاوضين الدوليين وخبراء السياسة، هى مدة زمنية طبيعية لمفاوضات بحجم قضية كتلك.. فمن المعروف أن عمليات التفاوض بين عدة أطراف- عادة- تستغرق فترة زمنية طويلة، من أجل تقريب وجهات النظر. ولكن، ما يُزيد الأمرُ تعقيدًا، هى القضية التى تدور حولها المفاوضات، فى وقت صارت فيه أزمة المياه قضية عالمية؛ خصوصًا مع تغير المناخ. 



وعليه؛ لا يزال الموقف بين الدول الثلاث متأرجحًا، إذ يهدأ تارة، ويشتعل تارة أخرى، وغالبًا ما يشوبه التوتر، الذى صار السمة الغالبة خلال الفترة الأخيرة؛ خصوصًا بعد أن أعلنت «إثيوبيا» عن إصرارها فى ملء المرحلة الثانية من السد، بغض النظر عن أى اعتراضات من جيرانها عند المصب، فى ظل مفاوضات حادة، وغير مثمرة فى كثير من الأحيان.

ومن جانبها، هددت «السودان» برفع دعوى قضائية أمام الحكومة الإثيوبية، وشركة البناء الإيطالية المسئولة عن المشروع، بسبب الأثر البيئى والاجتماعى، وكذلك مخاطر السد. فيما شددت «مصر» مرارًا وتكرارًا على أنها لن تتهاون فى تفريط قطرة مياه واحدة. 

تأتى تلك المواقف، بعد أشهُر من الاحتكاك المتزايد، بسبب آثار العملية العسكرية الإثيوبية فى «تيجراى»، بالإضافة إلى المشاكل على الحدود المتنازع عليها بين «إثيوبيا»، و«السودان» فى «الفشقة».

ومع ذلك؛ لا تزال الجهودُ الدولية مستمرة؛ من أجل إحراز تقدُّم ملموس بين أطراف التفاوُض، الذين تختلف استراتيچياتهم وتكتيكاتهم التفاوضية.

 الموقف الإثيوبى فى عمليات التفاوض

فى البداية، اعتمدت «إثيوبيا» على عنصر المفاجأة، عندما أطلقت مشروع سد النهضة فى عام 2011، ولم تستشر جارتيها «مصر»، و«السودان»، مستغلة عدم الاستقرار السياسى للدولتين خلال تلك الفترة. كما اعتبرت «أديس أبابا» أن المسألة تتعلق بالسيادة الإثيوبية. 

ورُغم انعقاد الاجتماع الأول للجنة الثلاثية، التى شملت أربعة أعضاء من كل من: «إثيوبيا»، و«مصر»، و«السودان»؛ لإجراء الدراسات فى 20 سبتمبر 2014؛ فإن الدراسات لم تكتمل أبدًا، شأنها شأن جولات التفاوض، التى تلت تلك المرحلة.

ومنذ 2014، اتبعت «إثيوبيا» استراتيچية يشوبها الغموض، كانت صراعية فى بعض الأحيان، معتمدة فيها على أسلوب المراوغة؛ حيث تشارك فى المفاوضات لتظهر أمام المجتمع الدولى بأنها متعاونة، فيما تحاول فرض سياسة الأمر الواقع على دولتَى المصب من خلال استمرار بناء، وملء السد، دون اتفاق. 

والدليل؛ هو إعلان «إثيوبيا» فى مايو 2016، أنها على وشَك الانتهاء بنسبة 70 % من بناء السد بعد جولات تفاوضية كثيرة مع مصر السودان. وبعدها بعام، اندلع خلاف بين الدول الثلاث جراء التقرير المبدئى لسد النهضة، لتعلن «مصر» فى نوفمبر 2017، عدم التوصل لاتفاق، بعد رفض «إثيوبيا»، و«السودان» للتقرير المبدئى، ومن ثم تعلن الحكومة المصرية أنها ستتخد الإجراءات اللازمة لحفظ حقوق «مصر» المائية.

وهكذا؛ استمرت جولات التفاوُض، لتدخل المفاوضات مرحلة جديدة استُخدم فيها الوساطة، لتتبع «إثيوبيا» موقفًا أكثرَ تشددًا، وهو التعنت، والتمسك بقراراتها؛ لتتصرف بصورة أحادية الجانب. ناهيك عن إضاعة الوقت، واستغلال أطول فترة ممكنة حتى تحقق أهدافها، ورفض كل المقترحات والحلول المصرية، والأجنبية ممن توسطوا فى الأزمة، واختلاق المفاوضين الإثيوبيين عراقيل تمنع الوصول لاتفاق. 

فكان ما حدث فى نوفمبر 2019 دليلاً، عندما قررت و«اشنطن» أن تتدخل كوسيط، بعد فشل دول النزاع للوصول إلى اتفاق.

وأصدر- حينها- الاجتماع الأول بواشنطن بيانًا مشتركًا، شددوا فيه على الالتزام المشترك للتوصل إلى اتفاق شامل وتعاونى، وقابل للتكيف، ومستدام، ومفيد للطرفين، بشأن ملء وتشغيل سد النهضة، وجاء هذا الالتزام وفقًا لـ«إعلان المبادئ لعام 2015». واتفق الأطراف على عقد أربع جولات من المفاوضات، وتحديد منتصف يناير 2020 موعدًا نهائيًا للتوصل إلى اتفاق.

لكن؛ فى فبراير 2020، رفضت «إثيوبيا» التوقيع على مسودة اتفاق صاغتها «الولايات المتحدة»، والبنك الدولى، بشأن قواعد ملء وتشغيل سد النهضة، كانت وقّعتها «مصر» بالأحرف الأولى.

وعلقت جريدة «فورين بوليسى»، فى تقرير نشر منذ أيام، أن سبب تخلى «إثيوبيا» عن محادثات «واشنطن»، هو رفض «أديس أبابا» لأى اتفاق مُلزم قانونًا، بشأن قواعد ملء وتشغيل السد الجديد، مطالبة بإطار عمل من المبادئ التوجيهية غير الملزمة، التى يمكن أن تغيرها الحكومة الإثيوبية حسب هواها. وهو يتعارض مع اتفاقية عام 2015، بشأن إعلان المبادئ بين الدول الثلاث.

وهكذا؛ استمرت أساليب «المراوغة، وإضاعة الوقت، والتعنت»، كأدوات تفاوضية بالنسبة للجانب الإثيوبى، بجانب أداة الادعاء، بأن «إثيوبيا» هى الطرف الذى يحاول الوصول لاتفاق يُنهى النزاع، حتى وصل الأمرُ، بأن تعلن منذ أسابيع قليلة عن بدء الملء الثانى فى موعده.

 الموقف المصرى فى عمليات التفاوض

أصرّت «القاهرة» منذ الأيام الأولى، ورُغم الاضطرابات الداخلية التى شهدتها فى 2011، على التفاوض كحل دبلوماسى، فى إطار ما يُعرَف بمنهج المصلحة المشتركة لجميع الأطراف..ففى البداية، لم تتخذ «مصر»، أو «السودان» على حد سواء أىَّ إجراءات رادعة عدوانية لمنع «إثيوبيا» من مواصلة بناء سد النهضة، رُغم اعتراضهما.

كما بادرت «مصر» فى سبتمبر 2011، بالاتفاق مع «إثيوبيا» على تشكيل لجنة دولية، تدرس آثار بناء سد النهضة. وفى مايو العام التالى، أنشأت لجنة خبراء دولية من عشرة أعضاء «اثنان من كل من: «مصر»، و«السودان»، «وإثيوبيا»، بالإضافة إلى أربعة متخصصين دوليين» لفحص جميع جوانب السد، وتأثيره على «مصر»، و«السودان». ومع ذلك لم تسفر هذه الجهود عن تقدُّم ملحوظ، ناهيك عن انشغال الدولتين بأوضاعهما الداخلية، والحملات الإرهابية المكثفة التى لحقت بمصر.

ومع ذلك، لم تردع هذه الأحداث «القاهرة» عن إكمال مشوارها التفاوضى؛ إذ عقد الاجتماع الأول للجنة ثلاثية 20 سبتمبر 2014، مثلما ذكرنا سابقًا.

كما تمتعت «مصر» بالمرونة خلال جولات التفاوض؛ إذ أظهرت الاستعدادَ للتعاون مع «إثيوبيا»، من خلال إسقاط طلبها بوقف بناء سد النهضة، والمطالبة بتعديله، بما لا يضر مصالحها.

ولم يتوقف الأمرُ عند هذا الحد؛ بل تمسكت «القاهرة» منذ اليوم الأول، بقواعد القانون الدولى، والاتفاقيات الدولية الموقعة، التى نادت بها خلال كل جولات التفاوض. واتباع خطوات قانونية تدريجية، من خلال البدء بالمحادثات بين الأطراف الثلاث المعنية بالقضية. ثم مناداة «مصر» بالوساطة بعد أن فشلت المفاوضات المباشرة، مثلما حدث فى ديسمبر 2017، عندما اقترحت الحكومة المصرية على نظيرتها الإثيوبية، مشاركة البنك الدولى فى أعمال اللجنة الثلاثية، التى تبحث فى تأثير سد النهضة على دولتَى المصب. لكن، الأخيرة رفضت الاقتراح بَعدها بشهر.

كما رحبت «مصر» بوساطة «الولايات المتحدة» فى عهد الرئيس الأمريكى السابق «دونالد ترامب»، مثلما ترحب الآن بالجهود الأمريكية فى ملف سد النهضة فى عهد الرئيس الأمريكى الحالى «چو بايدن». 

ومثلما أثبتت «مصر» حُسن نية فيما يخص قبولها مسودة اتفاق إدارة «ترامب» أثناء وساطتها لحل القضية، أثبتت حُسن النية مرّة أخرى مع إدارة الرئيس «بايدن»؛ إذ قال المتحدث الرسمى لرئاسة الجمهورية، السفير «بسام راضى»، فى نهاية الشهر الماضى، إن الرئيس «عبدالفتاح السيسى» تلقى اتصالًا هاتفيًا من الرئيس الأمريكى «چو بايدن»، تناول تبادُل الرُّؤَى بشأن تطورات الموقف الحالى لملف سد النهضة. 

وأضاف إن الرئيس «السيسى» رَحَّب بالجهود الأمريكية المتواصلة فى هذا الصدد، مؤكدًا تمسُّك «مصر» بحقوقها المائية من خلال التوصل إلى اتفاق قانونى منصف وملزم، يضمن قواعد واضحة لعملية ملء وتشغيل سد النهضة. 

وبجانب الوساطة الأمريكية، لجأت «مصر» للهيئات والمنظمات الدولية، مثل: محكمة العدل الدولية، ومجلس الأمن، الذى تقدمت له الخارجية المصرية بطلب فى منتصف العام الماضى، من أجل التدخل فى المفاوضات بعد أن شهدت تعثرًا خلال الفترة الأخيرة؛ نتيجة للمواقف الإثيوبية غير الإيجابية.

بالإضافة إلى ترحيب «القاهرة» بوساطة الاتحاد الإفريقى برئاسة «جنوب إفريقيا» أولًا فى يوليو 2020، التى لم يحالفها الحظ فى إبرام أى اتفاق، ثم برئاسة «جمهورية الكونغو الديمقراطية»، التى لا تزال تبذل جهودًا، من أجل تقريب وجهات النظر بين الأطراف الثلاثة.

على كلٍّ؛ فبَعد فشل المفاوضات فى جميع الجولات السابقة، بدأت «مصر» تعرب عن لهجة تحذيرية؛ إذ أكدت على عدم التفريط فى قَطرة مياه واحدة. ولكن، فى الوقت ذاته، أكدت على رحابة صدرها باستكمال عملية التفاوض للوصول إلى حل سلمى؛ إذ أعلن وزير الخارجية المصرى «سامح شكرى» منذ أسابيع قليلة، أن «مصر» تبحث خيارات أخرى لحل الخلاف، وذلك بسبب عناد «إثيوبيا»، الذى حال دون التوصل إلى تسوية عن طريق التفاوض.

 الوساطة الدولية

الوساطة، والمساعى الحميدة، هو ثانى أفضل حل للدول المتنازعة، عندما تكون عملية التفاوض المباشرة صعبة. وخلال السنين القليلة الماضية، أعربت عددٌ من الدول، والمنظمات عن تقديم يد العون فى حل هذه الأزمة بشكل سلمى، ومنها:

«الولايات المتحدة»، التى ذكرنا سابقًا توسطها فى الأزمة بين «مصر»، «إثيوبيا»، وموقف الأخيرتين من الوساطة. يُذكر أن الرئيس الأمريكى السابق «دونالد ترامب» نفد صبرُه سريعًا، بعد أن أحرجته «أديس أبابا» بعدم التوقيع، إذ قال حينها: «إن «إثيوبيا» خرقت اتفاقًا توسطت فيه «الولايات المتحدة» لحل النزاع»، مما دفعه إلى قطع أموال المساعدات لإثيوبيا فى سبتمبر، التى بلغت 100 مليون دولار.

لكن؛ فى مطلع العام الجارى، تغيرت الإدارة الأمريكية. ومع ذلك، لا تزال «الولايات المتحدة» منخرطة فى قضية سد النهضة.. فقد صرّح المتحدث باسم وزارة الخارجية الأمريكية «نيد برايس»، الذى نشرته وكالة «رويترز»، منذ أربعة أشهُر، بأن إدارة الرئيس الأمريكى «بايدن» ستراجع السياسة الأمريكية بشأن سد النهضة الإثيوبى، وستقيم الدور الذى يمكن أن تلعبه الإدارة الأمريكية فى تسهيل التوصل إلى حل بين البلدين.

ومنذ أيام، أوضح الرئيس الأمريكى، أثناء حديثه مع نظيره المصرى، تفهُّم «واشنطن» الكامل للأهمية القصوى لتلك القضية للشعب المصرى. مشيرًا إلى عزمه بذل الجهود، من أجل ضمان الأمن المائى لمصر. وقد تم التوافق بشأن تعزيز الجهود الدبلوماسية خلال الفترة المقبلة، من أجل التوصل إلى اتفاق يحفظ الحقوق المائية، والتنموية لجميع الأطراف.

أمّا وساطة «الاتحاد الإفريقى» فجاءت بناءً على توصية مجلس الأمن، الذى عَقَد بدوره، فى خطوة غير مسبوقة، جلسة مفتوحة حول نزاع سد النهضة؛ حيث شجع معظم الأعضاء الدول الثلاث على حل نزاعهم من خلال «الاتحاد الإفريقى».

كان «الاتحاد الإفريقى» حتى الآن مسئولًا عن التعامل مع جهود الوساطة الدولية للتوصل إلى تسوية سياسية؛ حيث أذعنت كل دولة من الدول الثلاث المعنية لشعار «الحلول الإفريقية للمشاكل الإفريقية».

ومع ذلك؛ تحت رعاية رئيس «جنوب إفريقيا»، «سيريل رامافوزا»، لم تسفر المفاوضات التى قادها «الاتحاد الإفريقى» عن اتفاق. ومع انتقال قيادة «الاتحاد» إلى «جمهورية الكونغو الديمقراطية»، ورئيسها «فيليكس تشيسيكيدى»، كانت هناك مناقشات جديدة حول مختلف أطر التفاوض الممكنة، ومشاركة مجموعة أوسع من الجهات الفاعلة الدولية. لكن؛ الجولة الأولى من المفاوضات فشلت.

يواصل «الاتحاد الإفريقى» أخذ زمام المبادرة فى هذه العملية.. فى أوائل أبريل، بعد أن أحبطتها «إثيوبيا». وقد أوضحت «فورين بوليسى»، أن تصرفات الأخيرة تقوض دور «الاتحاد الإفريقى». وقد تجلى ذلك من خلال رفض «إثيوبيا» القاطع، فى الاجتماع الأخير الذى عُقد فى «كينشاسا»، لمقترحات مشتركة متعددة من «السودان»، و«مصر» لتمكين العملية التى يقودها «الاتحاد الإفريقى».

أمّا «الاتحاد الأوروبى» فيشارك الآن كمراقب فى المفاوضات التى يدعمها «الاتحاد الإفريقى». ولم ينحاز «الاتحاد الأوروبى» إلى أى طرف؛ لأن «مصر»، و«إثيوبيا» هما من شركائه الرئيسيين فيما يتعلق بسياساته فى الجوار الجنوبى، والقرن الإفريقى. ومن جانبه، أعرب نائب رئيس الاتحاد الأوروبى «جوزيب بوريل» عن دعمه الكامل لجهود «الاتحاد الإفريقى» لدعم الأطراف إلى حل تفاوضى.

بشكل عام.. زاد الدعمُ الدولى خلال الفترة الأخيرة بشكل ملحوظ، من أجل حل قضية سد النهضة بشكل سلمى بين الدول الثلاث، فيما يتفق أغلب المحللين السياسيين والخبراء الأفارقة والغربيين على جملة واحدة، وهى أن فى مقدور الدول الثلاث-  فى حال الوصول إلى حل- أن يصبحوا مثالاً للتعاون سيذكره التاريخ.