الأربعاء 17 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري

قراءة فى رحلة الدم القتلة الأوائل - لإبراهيم عيسى "الحلقة السابعة".. هل أصابع ابن العاص هى التى تقلب الجمر تحت مقعد والى عثمان فى مصر عبد الله بن أبى سرح؟

كلما تعمقنا فى «رحلة الدم»؛ رائعة إبراهيم عيسى، والجزء الأول من سلسلة «القتلة الأوائل»، زاد شغفنا بالاقتراب من المناطق المسكوت عنها فى التاريخ الإسلامي، فالكاتب البارع يغوص فى تفاصيل الخلافات كاشفًا لأدق زواياها، محاولًا تأصيل أسبابها، ليقدم لنا وجبة إبداعية دسمة، مُزيّنة بالتشبيهات البليغة والتعبيرات الدقيقة، ومحملة بكم هائل من المفردات والترادفات والتركيبات اللغوية المبتكرة، لنستمتع بتاريخنا وفصحتنا، ونتعمق أكثر فى الأحداث المفصلية، ونكتشف الكثير من الأبعاد، وما ورائها من أحقاد.



«رسول الخليفة»

كانت الفسطاط تحترق دون نار، فالمؤامرات بلغت ذروتها بعد وصول ابن أبى حذيفة وابن أبى بكر إلى مصر، إذ يروى إبراهيم عيسى فى راويته تفاصيل تحركاتهما ضد الأمير، ومحاولات الخليفة عثمان بن عفان للسيطرة على الموقف، ساردًا: «هى أرضك إذن يا عمرو بن العاص.. قالها سعد بن أبى وقاص وهو يريح تعبه بالنظر إلى هذا البحر اللجي. وقفت قافلته الصغيرة عند جبل يطل على بحر مصر من فوق صحراء كلم الله فيها موسى وكلم فيها عمرو بن العاص طموح نفسه، أن يضع اسمه على بلد يغزوه، عندما قيل له إن ابن العاص فض فى هذه البقعة خطاب ابن الخطاب الذى بعث به مستدركًا إذنه له بفتح مصر، آمرًا إياه بالعودة عن هذه المغامرة العجولة إن لم يكن قد دخل حدودها، حين أنصت عمر بن الخطاب لمن حذره اندفاع ابن العاص وراء حلمه، وخوف الناصحين من عدم اختبار عمرو بن العاص فى قيادة الحروب واختماره فى خوض غمار المعارك. لكن لما اطمأن ابن العاص أنه فى جنح مصر فتح الخطاب؛ حيث وصل إلى فتحه المؤمل، هو هكذا دهاء الداهية الذى يريد يسمع عن علو نفسه من جوف غيره، الاعتراف بما يملك أهم مما يملك. هذا ابن العاص، لم يكن يومًا بطلًا فى معركة ولا محاربًا فى نصال قتال، هو طيلة عمره فى مكة وسنوات الإقامة فى المدينة، وفى رحله معه فى صحبة جهاد الحروب فى العراق والشام ليس إلا عمرو بن العاص نفسه، ذلك الفتى المولع بإمارة لم تأت والباحث عن سلطة لم تتح. لهذا كان يعرف جرحه من عثمان بن عفان حين نحاه عن مصره وصار عمرو بن العاص الأمير بلا إمارة والفارس دون سرج والحاكم دون حكم.

سأل سعد بن أبى وقاص نفسه: هل أصابع ابن العاص هى التى تقلب الجمر تحت مقعد والى عثمان فى مصر عبد الله بن أبى سرح؟ لقد جاء إلى هنا ليطبب جرحًا انفتح ونزفًا سال ويوئد فتنة ويطفئ نارًا، هكذا طلب منه الخليفة عثمان فأثقل ظهره. لا يجد فى نفسه الهمة للوقوف حائطًا يصد السهام بين الرماة، ولا يجد عزيمة أن يعلن خطأ أحد أو يتحمل نقمة واحد عليه لموقف اتخذه، يتجنب هجير المواجهة. وها هى مصر تسحبه من مضجعه استجابة لإلحاح عثمان الذى لم يرد سعد أن يلبى رغبته بقدر ما أراد أن يدرأ عتابه.

مدد سعد بن أبى وقاص ساقيه راضيًا على تعبه. هذه المرة يخرج من المدينة لا ليحكم ولا ليحارب بل ليصالح ويصلح، ليس هدنة بين غاز ومغزو أو منتصر ومستسلم، ليست نصوص جزية ولا بنود عهد تلك التى سيصوغها أو يدقق غايتها؛ بل إنقاذ مصر من صراع بين أخو عثمان بالرضاعة وابن عثمان بالتربية، اثنتا عشرة ليلة فوق سرج فرس وسط عشرة من رجال المدينة الذين أوفدهم عثمان معه كى يصلح بين ابن أبى سرح وابن أبى بكر وابن أبى حذيفة».

«صراع فى الفسطاط»

يكشف إبراهيم عيسى أسرار تحركات ابن أبى حذيفة وابن أبى بكر ضد بن أبى سرح، راويًا: «انتهى أمير مصر عبد الله بن أبى سرح من صلاته بالناس، كان متعبًا فقصرت منه السور، وكان متلهفًا على تحسس ردة فعل ابن أبى حذيفة فى أول اختبار صباحى بعد أقل من ساعة من تدفئة صدره باحتضان ثلاثين ألف درهم مرسلة مختومة بختم عثمان ومحبته. التفت فى المسجد يبحث عن ذات المشهد اليومى الذى ضاق به بعدما ضيق قبضته على عنقه، حين يفرغ من صلاته إمامًا إذا بمحمد بن أبى بكر وحائطه الساند ابن أبى حذيفة يدخلان للجامع يحيط بهما رجال ابن عديس وأهله فيؤذنون لإقامة الصلاة ويصلون تحديًا جهورًا فخورًا بقدرتهم على شل قدرته، لو فعلها ابن أبى حذيفة اليوم والدراهم العثمانية تحشو بطنه فلن يسكت عليه ولن يصبر على حلم عثمان به، فإما هو أو ابن أبى حذيفة فى هذا المصر.

لحظات عبرت حتى دخل ابن أبى بكر المسجد وحده بعدد أقل ومصاحبين فرادى. شعر فى قلبه راحة وفى باله هدوءًا. قام من قرفصته وقد وقف بجواره هانئ وحرسه ونهض فى صحبته معاوية بن حديج ومسلمة بن مخلد راحلين معًا يستعجلان من كآبة المنظر اليومي. لم يحدث شيء فى صلاة الصبح البكرية، بل لم يظهر ابن أبى حذيفة، فهل تعقل؟ هدوء فرش رداءه على المكان والمدينة وزقاقاتها وشوارعها وبيوتها حتى جاءت صلاة الظهر. ذهب فأم فصلى وتكرر الغياب بعد انتهاء صلاته، همّ أن ينهض ويرحل وقد بدأ رجاله يكررون مشهد صلاة الصبح إذ ينصرفون راحلين إلى أشغالهم ومشاغلهم، لكن شيئًا أجلسه وأوقفهم، ثبته وجمدهم.

كان ابن أبى حذيفة داخلًا وسط حشد محشود لا يعرف كيف جاء به كأنه نفير حرب، ظلوا يتوافدون حتى ملأوا المسجد، فتقدم هانئ ورجاله يحيطون بالأمير ابن أبى سرح فى جلسته يدفعون عنه الأقدام والسيقان خشية أن يطأوه، جذبوه من إبطيه وقادوه لباب جانبي، لكنه عاد فقاوم مشيتهم ونظر لهم كأنه يذكرهم بأنه أمير مصر وأنهم شرطته التى تبدو فزعة من تكالب وجزعة من زحام. كان فحيح نار يرتع فى جوفه فقد لمحها على كتفه، تلك الصرة بذات اللون والاستدارة والنتوءات هناك على ظهر ابن أبى حذيفة، الذى اندفع بين الصفوف يمشى عند كتفه اليمنى كنانة وسودان ومع كتفه اليسرى ابن ملجم وجبلة، ثم يصل برشاقة إلى المنبر يثب فوق درجاته فى حركة فاجأت ابن أبى بكر الذى يهم بالوقوف إمامًا لصلاة الظهر، لم يلتفت أحد كى يؤذن لإقامتها فقد كانت العيون شاخصة محدقة فى ابن أبى حذيفة الذى رفع الصرة بين يديه ثم أمام صدره ثم أعلى رأسه وهو يصيح فى الناس:

• يا أهل الفسطاط، يا فاتحى مصر، يا صحابة رسول الله، يا شيوخ الإسلام.

ملك الرجل بنداءاته اهتمام الحشد المشتعل فضولًا، بينما كان عبد الرحمن بن ملجم عند ساقى ابن أبى حذيفة مبهور الأنفاس يتلقف كلماته كثمرات شجرة، وينظر إلى جبلة كأنما حانت اللحظة.

أدرك ابن أبى حذيفة أن آذان الناس صارت ملصوقة بشفتيه، رمى شرر نظرته هناك حيث وقفة مختفية لعبد الله بن أبى سرح يرى وجهه بين أكتاف وأعناق حراسه، قال:

• هذا خليفتكم عثمان بن عفان يخادعنى عن دينى ويرشونى عليه، ويرسل لى ثلاثين ألف درهم من بيت مال المسلمين، من مال الفقراء والمساكين، من مال الجند فى الثغور، ليردنى عن وقفة الجهاد ضد تحرفه عن دين نبينا المصطفى.

كانت الأصوات تتصاعد بالكلمات المتداخلة المتدافعة المتشابكة المتخالطة، زن ودوى وطنين انفجر حين صرخ ابن أبى حذيفة:

• هذا خليفتكم الراشى شارى ذمم أقاربه وأصهاره، يريد أن أسكت عن حقكم وعن حق المسلمين وأسلم نفسى له ولطغمته الفاسدة، وها أنا أبلغها له الآن حالًا.

فك ابن أبى حذيفة الصرة ثم أخذ يقذف بالدراهم من جوفها على رؤوس الناس تخبط وترن وتحاول الأيدى الإمساك بها وتنحنى الظهور بحثًا عنها وتتخبط الأكتاف التقاطًا لها، وتتعالى الصيحات والآهات المعجبة المتعجبة المهللة لشجاعة ابن أبى حذيفة اللاعنة عثمان ورشوته.

كان ابن ملجم ثابتًا فى وقفته يتابع اندفاع الناس على الدراهم، بينما ينظر معتزًا متباهيًا بهذا الفتى الذى عرى هذا الخليفة من ستره. كان ابن ملجم محتقرًا للمال وللساعين له والراشين به، مستعدًا وجاهزًا الآن كى يمشى وراء ابن أبى حذيفة وابن أبى بكر إلى الطريق الذى يختارانه له، فهو طريق الجنة ولا شك.

انصرف مسرعًا وقلقًا عبد الله بن أبى سرح وهو يغلى حنقًا».

«طبول الحرب تدق»

يواصل إبراهيم عيسى كشف ما كان يدور فى الفسطاط، ساردًا: «كان عبد الله بن أبى سرح قد ضج بمسالمة عثمان لربيبه العاق الذى أزهق كرامته مرتين حين رمى المال تحت أقدام الناس، وحين شج سعد ابن أبى وقاص صاحب رسول الله وداس رجاله عمامته وطردوه من مصر. بينما ابن أبى سرح غافل كما يرى نفسه، مغفل كما يراه خصومه، سكت عن تكاثر المتمردين فى شوارع الفسطاط والناقمين الخارجين عن إمامته فى جامعها، كان معاوية بن حديج بعينه العوراء بصيرًا حين أنقذه من عماه. فقد قام بين جماعة من الفسطاطيين وخطب فيهم أن ابن أبى حذيفة كذاب أشر، فالمال ليس هدية ولا رشوة، بل خصه به الخليفة عثمان بن عفان لأرض كان قد اقتطعها له فى المدينة كرامة وكرمًا، فلما بيعت أرسل له ثمنها فى مصر لعله يقيم بها أمرًا أو يتصدق بها على المسلمين كما تصدق عليه عثمان، فانتهزها العاق العاص فرصة فتقول على عثمان وادعى أنها رشوة، ولماذا يرشو الخليفة ربيبه وفردًا من رعيته وجندًا من جنوده؟ وممّ يخافه ليرشوه؟ ومتى كان كرم الخليفة رشوة؟

لم تؤثر خطبة ابن حديج فى رجال ابن أبى حذيفة وابن أبى بكر، لكنها أثرت كثيرًا فى القوم جميعًا، شقت بطولة ابن أبى حذيفة المنتفخة، وشككت فى ذمته وضميره، وجعلت لخصوم ابن أبى حذيفة حجة يرددونها وكلامًا يردون به على غيرهم. لكن واقعة سعد بن أبى وقاص كانت قد ضربت موجعًا فى الخليفة وأميره، وكانت نذير خطر محدق يوشك أن يحط عليهما لو تركاها تعبر دون مغبة.

 

أنكر ابن أبى بكر معرفته الحدث، ونفى ابن أبى حذيفة صلته بها جهارًا نهارًا، فما كان من معاوية بن حديج إلا أن اقترح على أمير مصر أن يقبض على الرؤوس التى يشك فى اشتراكها فى الجريمة ويسجنهم حتى لو لم يمتلك دليلًا، فيكفى هذا لردع ابن أبى حذيفة، فضلًا عن أنه يعرى قدرته على حماية مناصريه وشركائه أمام رجاله ثلة العصاة والخارجين. وافق ابن أبى سرح على الاقتراح فورًا، لكنه زاد عليه أن وقف فى منبر الجمعة خطيبًا فى الناس:

•وإنى لخائض معكم حروبًا ضروسًا ضد ابن هرقل الذى يتربص بمصر ويهم بغزو ثالث للإسكندرية، وسنخرج لملاقاته فى جزيرته ولن ننتظره عند ساحل نجده قافزًا فيه بدسائس رومه وعيون جواسيسه، سنجاهد فى سبيل الله فى ظلمات البحر وأمواجه المتلاطمة، وسنرفع رايات الدين فوق سفن أعدائه، ولن أترك واحدًا منكم يتقاعس عن الحرب أو يقعد عن القتال، ومن يعتذر لن نعذره، ومن يتردد لن نتركه.

ثم ذهب بنظراته متحدية نحو صفوف خلفية من متسمعى عبد الرحمن بن عديس:

•وأقول لمن يشق صفوفنا فى الفسطاط الواحد، نحن سنقاتل عدوًا لنا وللإسلام، وليس منا من يشتت الجمع ويمزق الصف فى هذه المعركة، ولن نترك بيوتنا لمن يخون أمانتنا ويركب ظهر دعة خليفتنا.

فى الصبح التالى رأى الناس فى بيوتهم صفوف الجند يخرجون من معسكر التدريب المجاور للمسجد ويمرون بخيولهم وأسلحتهم من دروع ورماح وسيوف وسهام وأقواس، يجلجل صليل حديدها، وتضرب حوافر الأفراس الأرض فترجها، وترتفع الرايات مرفرفة فوق الصاريات، وتخرج الرؤوس من الشرفات والأبواب تطل مبهورة على الآلاف الذين أقبلوا تباعًا فى خطوط منتظمة وصفوف متراصة، وتحرك العابرون فالتصقوا بالأسوار والحوائط للنجاة من هرولة الخيل. وفى منتصف الموكب كان عبد الله بن أبى سرح أميرًا يركب أعلى الخيول فوق سرج منتفخ تبرز رأسه بين الرماح وتتحرك ببارقة أمامه وحوله السيوف. كانت فكرة ابن حديج الذى أخبره بعدها راضيًا وسعيدًا أنه مدين له، كانت رسالة أمض فى قسوتها من سابقتها، فلا تزال الفسطاط فسطاطى ومصر مصرى والجند جندى والحرب حربى يا محمدى يثرب الغريرين».

فى الحلقة القادمة، نواصل رحلتنا فى رائعة إبراهيم عيسى «رحلة الدم»، لنكشف المزيد من خبايا وأسرار التاريخ الإسلامي.