الجمعة 26 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري

قراءة فى رحلة الدم - القتلة الأوائل - لإبراهيم عيسى "الحلقة السادسة".. على بن أبى طالب لـ«الخليفة»: إنى أحذرك الله وأحذرك سطوته ونقماته فإن عذابه شديد أليم وأحذرك أن تكون إمام هذه الأمة المقتول

بلغة بديعة وسرد مبدع، يواصل إبراهيم عيسى كشفه لأسرار التاريخ الإسلامى فى رائعته «رحلة الدم»، ليزيح الستار عن الوقائع المسكوت عنها، والخلافات التى لا تكد تهدأ حتى يتجدد اشتعالها، مستمرًا فى نقل صورة الحياة فى المدينة المنورة والفسطاط، بربط لا تنقصه السلاسة والبلاغة، لنعيش وسط الأحداث ونتابع تطورها عن كثب، مستمتعين بالتشبيهات الرائعة والتركيبات اللغوية الرائقة، لتتضاعف روعة الحكى والتشويق.



 

«اللقاء المنتظر»

يروى إبراهيم عيسى تفاصيل اللقاء الذى طال انتظاره بين الخليفة عثمان بن عفان وعلى بن أبى طالب، بعد أن اشتعلت الفتن وباتت كالنار تحت الهشيم، ساردًا: «الأيام مرت وها هما يجلسان وحدهما هذه المرة وهمهمات نقمة وغمغمات فتنة تتكاثر فى بيوت أصحابهما ضده، وكما أوصته زوجته نائلة فليس هناك مثل على ليصارحه ويواجه به ومعه هذه الحلقة الحديدية الصدئة من النوايا العكرة التى تضيق حول بيته.

تنهد عثمان وسأل عليًا:

•هل هناك جائع فى المدينة يا علي؟

أدهش السؤال عليًا، لكنه فهم ما بعده فأجاب:

•الناس لا تشكو الجوع يا عثمان بل تشكو الظلم.

•وهل يظلم الناس من يطعمهم ويسقيهم ويكفيهم مؤونة الحياة وصعوبتها ويسد رمقهم ويغنى بيوتهم ويرعى بهائمهم ويغذى إبلهم ويوفر لهم المرعى والسكنى؟

•ما لهذا ينصحك صحبك.

ابتسم عثمان متأسيًا:

•من هؤلاء الذين ينصحونني، الطامع لإمارة والطامح لولاية، أو الناقم لشيء لم يحصل عليه وحصل عليه غيره، أو الحانق لأننا نقرب إلينا ناسًا ونبعده عنا أو نعين من يعينوننى لا من يعينون علينا؟ هل ترى يا على إلا عدل نبى الله الذى نجريه على الكافة؟ وهل فعلنا ما لم يفعله ابن أبى قحافة وابن الخطاب حتى تتغير قلوب أصحابنا علينا ويكثر العيابون الطعانون فينا؟

قرر على ألا يكون إلا عليًا، فقال وقد أنصت لعثمان يدافع عن نفسه بدفع التهم إلى غيره:

•ما أقول لك وما أعرف شيئًا تجهله ولا أدلك على أمر لا تعرفه إنك لتعلم ما نعلم، ما سبقناك إلى شيء فنخبرك عنه، ولا خلونا بشيء فنبلغه لك، وما خصصنا بأمر دونك، وقد رأيت وسمعت وصحبت رسول الله ونلت صهره.

• إذا كان ذلك كذلك، وهو ما نرجوه من المولى عز وجل، فلماذا لا تكف لسان أصحابك عني؟

• هم أصحابك أنت يا عثمان، فهم الأقربون لك وشركاؤك وأصدقاؤك، وهم طول الوقت لحم لك وعظم لي.

• إذن أنا أشد الناس معرفة بهم وفهمًا لهم يا علي، فأنت رجل عادل تقى نقى تبحث عن العدل فإن لم تجده أوجدته، أما هم فالمال والبنون والولاية والإمارة والمنافسة والمباغضة، أنت لا ترى فقراء ينقمون على عثمان ولا أهل حاجة ولا مسلمين ينشغلون فى أعمالهم وصلاتهم، بل كل دخن يخرج من أفواه شبعه نهمة، وكل دخان ينبعث من بيوت عز وقصور المدينة الجديدة، لا العبيد ولا الموالى ولا الفقراء ولا السابلة ولا العامة ولا الدهماء ضدى يا علي، بل سادة يصرعون الإنصاف يوم يعيبون فى وحين يطعنون فى شخصى وفى حكمي.

• ولكنهم كانوا معك دومًا، بل هم ناصروك وبايعوك للخلافة ومن قبلك ناصروا وبايعوا أبا بكر وعمر، وما ابن أبى قحافة بأولى بعمل الحق منك، ولا ابن الخطاب بأولى بشيء من الخير منك.

•صدقت يا صادق اللهجة والعبارة، فمن الذى تغير إذن، أنا أم هم؟

•الله الله فى نفسك فإنك والله ما تبصر من عمى ولا تعلم من جهل، وهذا أهلك وأصحاب رسول الله وأصحابك وقد رأوا منك ما لم يروا من سابقيك.

زام عثمان وقام، ثم لما رأى حزم على فى نبرته وصدقه فى عينيه هدأ وعاد فجلس ثم أطرق وتنفس بحنجرة مجروحة بالأسى: •أنا أسمعك يا على فأكمل.

لم يغير على لهجته ولم يحرك عنه نظراته:

• إن الطريق لواضح بين، وإن أعلام الدين لقائمة.

• أما الطريق فلم تغمض عيناى عنه ولم ينغلق دوني، وأما أعلام الدين فقائمة فى كل ركن فتحه الله لنا بنعمته وبجهاد المسلمين وخليفتهم يا علي.

تجاوز على عن جملة عثمان الاعتراضية وواصل وهو يرى ملامح عثمان تتبدل ووجهه يكظم الغيظ ويمسك لحيته الكثيفة فيمسدها ويقبضها فى كفه، يدير عصاه ويلفها، ويومئ برأسه ويربت بيده على مسند أريكته ويملأ عينيه بوجه على السادر فى عظته:

• تعلم يا عثمان أن أفضل عباد الله عند الله إمام عادل، هدى فأقام سنة معلومة وأمات بدعة متروكة. وإن شر الناس عند الله إمام جائر ضل وضُل به، فأمات سنة معلومة وأحيا بدعة متروكة، وإنى سمعت رسول الله يقول: يؤتى يوم القيامة بالإمام الجائر وليس معه نصير ولا عاذر فيلقى فى جهنم، فيدور فى جهنم كما تدور الرحى ثم يرتطم فى غمرة جهنم. وإنى أحذرك الله وأحذرك سطوته ونقماته، فإن عذابه شديد أليم، وأحذرك أن تكون إمام هذه الأمة المقتول، فإنه يقال يقتل فى هذه الأمة إمام فيفتح عليها القتل والقتال إلى يوم القيامة وتلبس أمورها عليها ويتركهم شيعًا فلا يبصرون الحق ولعلو الباطل يموجون فيها موجًا ويمرجون فيها مرجًا.

انتفض عثمان ناهضًا:

• أما وعمر قد قتل يا على ولست بأحسن منه ولا أبعد منه عن يد الغدر وغيلة القتل، وما كان عمر إلا فاروقًا، ثم وهل أبدعت أنا فى الإسلام بدعة يا على وأنت معى فى كل صلاة وتقضى فى كل أمر؟ وهل قررت فى الفقه شيئًا لم تكن أنت فيه وتوافق عليه بل تقضى به؟ وهل قلت فى الإسلام قولًا لم تقله أنت ولم يقله قبلنا نبى الله؟ وهل خنت أمانة أو نكثت عهدًا أو حرمت حلالًا أو حللت حرامًا؟ هل ترانى أطير رؤوسًا وأهتك أعراضًا لتذكرنى بالأئمة الذين يلقون فى جهنم يا رجل؟ إنك أنت لا أحد غيرك يا على من جلد أمامى شارب الخمر من أهلى وصهري، أما والله لو كنت مكانى خليفة يحيطك أصحابك بالمعيبة والنقيصة ويبحثون لك عن زلل فلا يجدونه فيخترعونه لأنفسهم، وعن جرم فلا يعثرون عليه فيصنعونه على أعينهم، ما عنفتك ولا أسلمتك ولا عبت عليك ولا جئتك منكرًا عليك عملك!».

«الخليفة والمتآمرين»

وكأننا نشاهد ما يجرى صوتًا وصورة، يواصل إبراهيم عيسى سرده الممتع للمفاجأة التى جمعت بين عثمان بن عفان والمتآمرين عليه، بحضور على بن أبى طالب، راويًا: «قام على ولم يقاوم ومشى معه ولم يعاند، فخرج به من باب إلى باب ومن مساحة إلى باحة إلى ساحة إلا حيث جلسة معقودة فى سقيفة بيت الزبير الذى يتصدر جلستها، بينما عمرو بن العاص وطلحة وعمار ووجوه من أبنائهم ورجالهم، فلما رأوا عثمان مقبلًا فى صحبة على تهيبوا وفوجئوا، أدرك على أن عثمان يعرف بهذه الجلسة وإلا فكيف يتوجه لها هكذا وهو يدرك مقصده ويبصر مسعاه، وقد أحس على أنها جلسة لا يحبها ولا يريد الوجود فيها، لكنه مع رفقة عثمان واهتياجه ما أراد أن يغاضبه، وفهم على من ملامح المجتمعين أنهم كرهوا معرفة عثمان باجتماعهم، بل الأنكى مجيئه لهم وكأنه يُشهد عليًّا عليهم. ولما رأوا عثمان يدق بعصاه الأرض ويتأبط ذراع على أفسحوا لهما مكانًا فى احتفاء بدا مرتبكًا ومصطنعًا تمامًا، حيث أحسوا أن عثمان يتوعدهم بهرولته وقد تخلى عن ذراع على ثم صعد سلم السقيفة مستندًا على عصاه التى كادت من قبضته أن ينخلع مقبضها ثم لم يتقدم خطوة من فوق السلم إلى داخل جلستهم وصاح بصوت مبحوح مشقوق من الانفعال الغضوب:

• اسمعوا فإن لكل شيء آفة، ولكل أمر عاهة، وإن آفة هذه الأمة وعاهة هذه النعمة عيابون طعانون يُشهدون الناس ما يحبون ويسرون ما يكرهون، يتقولون للناس حتى يدفعوه ليصبحوا نعامًا يتبعون أول ناعق، لا يشربون إلا نغضًا ولا يردون إلا عكرًا.

أخذت الجميع لهجة عثمان ضيقة الصدر نافذة الصبر فصفعتهم كلماته التالية:

• ألا فقد والله عبتم على بما أقررتم لابن الخطاب بمثله ولكنه وطئكم برجله وضربكم بيده وقمعكم بلسانه فدنتم له على ما أحببتم أو كرهتم، لا ناقشتم ولا رفضتم ولا غضبتم ولا واجهتم ولا تلاسنتم ولا هجتم ولا أشعلتم فتنة الناس ضده. ولنت وأوطأتكم كتفى وكففت يدى ولسانى عنكم فاجترأتم عليّ.

لم ينطق واحد فيهم مأخوذًا بعثمان الذى لا يعرفونه، فقد تخلى عن حلمه ولينه ورمى به فى وجوههم:

• أما والله لأنا أعز نفرًا وأقرب ناصرًا وأكثر عددًا، وإن قلت هلم أُتى إليّ. ولقد أعددت لكم أقرانكم وأفضلت عليكم فضولًا وكشرت لكم عن نابى وأخرجتم منى خلقًا لم أكن أحسنه ومنطقًا لم أنطق به، فكفوا عليكم ألسنتكم وطعنكم وعيبكم عليّ، فإنى قد كففت عنكم من لو كان هو الذى يكلمكم الآن لأنصتم وسكتم وأطعتم ولرضيتم منه ولا كان قد بذل لكم شرحًا لتفهموا ولا إنذارًا لتحذروا.

ثم التفت إلى على وقد هدأت روحه واستكانت لهجته:

• والله يا على ما قصرت فى بلوغ ما كان يبلغ ابن أبى قحافة وابن حنتمة، ولا خالفت ولا أبدعت ولا تصرفت إلا كما تصرف من لم تكونوا تختلفون عليه.

ثم أشار إلى جلستهم:

• ولا واحد من هؤلاء يملك أن يحاججنى فى مسألة أو يعيب عليّ فى قرار اتخذته ولا مال أعطيته له ولا منعته عنه ولا أرضًا اقتطعتها له ولا نزعتها منه ولا بيتًا منحته له ولا بيتًا أخذته منه ولا إمارة كلفته بها أو أعفيته منها ولا أعرف ماذا يملكون ليقولوا وما يجرؤون ليعيبوا!

ثم نظر إلى عمار الذى كان عند نظرة على الذى رجته منذ وصل الصمت والسكون:

• أما هذا الشيخ فقد آذيته فعلًا، وها أنا أمامك أعتذر له وأطلب منه أن يعفو ويصفح أو يقتص إن شاء مني.

لم يرد عمار غير أنه أطرق فى الأرض متأثرًا، ثم أومأ برأسه كأنه قبل ما سمع، فتنهد عثمان راحة ونزل عن درجة سلم السقيفة ثم انتقل من نظرة إلى على إلى إشاحة للزبير مع طلحة وعمرو بن العاص فقال:

• لكن أحدًا منهم ليس له عندى شيء يا ابن عم نبيي.

ثم مضى متوكئًا على عصاه وئيد الخطو متمهل المشي، كأنما أفرغ حممه فى وجوههم:

• السلام عليكم يا أصحابى أصحاب رسول الله.

 «ثائرون فى الفسطاط»

فى الفسطاط، لم تكن الفتن أقل تأثيرًا مما كانت عليه فى المدينة، حيث يكشف إبراهيم عيسى أسرار التحرك ضد أمير مصر، ساردًا: «رسائل بن العاص القادمة على أجنحة جوارحه التى تنقر ستر الأمير وترسل أخبار مصر لابن العاص وتتلقى نصائحه الممهورة بدهاء الطامح ومرارة المعزول. وكان ابن أبى سرح قد وصلته ذات الأخبار، حاول أن يمنع قدوم محمد بن أبى بكر ومحمد بن أبى حذيفة فأوفد عاجلًا برسله إلى عثمان أن يأمرهما بالعودة أو بالذهاب إلى معاوية فى الشام، لكن عثمان أبى أن يسمع وعزف عن أن يقتنع، حبه لابن أبى حذيفة ربيبه اللعين وضعفه تجاه هذا الفتى غامض لا ينفك طلسمه أبدًا، غفر له عصيانه فى المدينة وتعصيه على الانصياع، بل تركه يرتع فى مخططه حين وافق بل شجع على سفره لمصر بل زوده بنفقات السفر مع ابن أبى بكر وأرسل إليه يأمره بحسن الوفادة وتعامل العم من ابنه.

يا لهذا العثمانى الطيب، يرى فى الناس خيرًا لا يراه الناس فى أنفسهم، ويكرم الخلق رغم شح الامتنان. حاول ابن أبى سرح أن يطبب الجراح مع ابن عديس قبل أن ينضم للمحمدين القادمين فتثقل الحمولة على عيشه وعرشه.

وصل ابن عديس عتبة المسجد فوجد ما توقعه كما كل يوم منذ حضر المحمدان، ينتهى ابن أبى سرح من إمامة الصلاة، يلتفت بالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، يتحرك الحراس خلفه بصليل النصال، بينما ينهض المئات من المصلين وراءه فى صفوف متتالية، فينهضون تباعًا من يتحلق حوله ومن يقترب منه ومن يرقبه ومن يتبع حركته ومن يهم بصلاة النفل، فإذا بصوت جبلة رائقًا يصدح بصدعه يؤذن لإقامة الصلاة نفسها، فإذا بمحمد بن أبى حذيفة يمسك بيد محمد بن أبى بكر يدخلان من باب المسجد خلفهما وفود مئات، يتقدم ابن أبى بكر إلى المحراب ويقف خلفه مصلون منتصبين مصفوفين صفوفًا كأنها فى ساحة حرب لا باحة جامع، ثم يبدأ ابن أبى بكر الصلاة فيطيل فيها والقوم يقدمون وراءه صفوفًا خلف صفوف، بينما ابن أبى سرح يبتعد فى مضيه ناحية باب الخروج يحاول أن يبدو متماسكًا، فتنفك نظرات القلق من قبضات عينيه، معاوية بن حديج ومسلمة وابن أبى أرطأة ينفرون من فراره من المواجهة وينقمون على هانئ رجل الشرطة سلبيته التى تسلب منهم ومن الأمير قوة البطش.

لا يبدأ ابن عديس الصلاة إلا عندما يرمى ابن أبى سرح بشرر شزر النظر، يتأكد من رعشة فكى الأمير المضطرب ومن حيرة رجاله يكبلهم تردده عن الإتيان بفعل يعلن الضعف حين يريد به القوة ويُغضب الخليفة حين يظن أنه يرضيه.

فى الحلقة القادمة، نواصل رحلتنا فى رائعة إبراهيم عيسى «رحلة الدم» لنزيح الستار عن المزيد من أسرار الفتن التى اشتعلت من الحجاز حتى الفسطاط.