الثلاثاء 23 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري

قراءة فى رحلة الدم - القتلة الأوائل - لإبراهيم عيسى "الحلقة الخامسة"..كيف تخلى عثمان الخليفة عن حلم عثمان القديم الراضى بالصمت والقانع بالقبع خلف أبى بكر وعمر وعلى؟

يواصل إبراهيم عيسى ببراعة؛ الإمساك بخيوط التاريخ الإسلامى وغزلها بلغة راقية، وسرد شيق لا يخلو من المفاجآت؛ فى روايته «رحلة الدم»، كاشفًا عن أوجه الحياة التى تغيرت فى المدينة المنورة بعد رحيل عمر بن الخطاب، وتولى عثمان بن عفان الخلافة، وكيف تخلى الناس عن التقشف واستبدلوه بالرغد، كما يصف الأبعاد النفسية والسياسية التى كانت وراء قرار الإطاحة بعمرو بن العاص من ولاية مصر وعودته إلى المدينة، ليكمل الكاتب رحلته الشيقة والكاشفة للكثير من الأسرار، ببلاغة لا ينقصها التشبيهات البديعة، ووصف لا يترك شاردة أو واردة.



 

«المدينة بعد الخطاب»

يرصد إبراهيم عيسى بإتقان معالم الحياة التى تغيرت فى المدينة بموت عمر بن الخطاب، ساردًا: «فعلها الخليفة عثمان بن عفان، فقد ترك للناس رحابة النعم، وأطلق لشهواتهم حلال النهم، لم تعد تلك البيوت كما كانت منذ سنوات عمر بن الخطاب.. انفتحت مغاليق الدنيا أمام مسلمى المدينة، بيت المال سخاء رخاء، والرواتب زادت وتضاعفت وتدفقت، والجبايات تفد كل يوم فوق سنام الإبل القادمة من فجاج الأرض إلى حدود المدينة. يستقبل الناس هلة قافلة الخراج من مصر أو الكوفة أو البصرة أو من خزائن شام معاوية. قبل أن تستقر قوائم الإبل وترتاح صهوات الخيول يهب عثمان بن عفان المال ويوزع الهبات، حتى أن بيت المال يعج عجيج المتزاحمين المتكالبين من فرط الكرم.

بعد مقتل عمر وقدوم عثمان، ومع كل شهر وسنة كان أهل المدينة يرون ما لم يكونوا يعرفون أنهم يريدونه بل وينتظرونه، القبائل ببطونها وقريش بعائلاتها حين سافرت وهاجرت ورأت، فعادت بالذهب والفضة والعباءات المقصبة والحرير والمنسوجات المصرية وفاكهة للزرع وعنبًا للتنوع وثمرات غريبة للغرس وأخرى تأتى فى سلال وأسبتة ونسوة من كل صنف. لم يكن ما وصل يخص عشرة أو عشرين من وجهاء قريش وبنى أمية، بل طال ذوى الطول والقوة والأصل».

«التآمر على عثمان»

لم ينعم عثمان بن عفان بالخلافة حتى بدأت المؤامرات فى حصاره، وهو ما يكشفه إبراهيم عيسى فى رحلته مع التاريخ الإسلامى، محاولًا رسم تفاصيل تلك المؤامرات منذ بدايتها، ودور عمرو بن العاص فيها، ساردًا: «كانا طفلين يتلهى بإشعال النار فى صدريهما ضد عثمان. هكذا يخبر عمرو بن العاص نفسه عندما تسأله عن هذه الجلسة مع المحمدين، ابن أبى حذيفة وابن أبى بكر. هنا فى بسطة الدار المطلة على طريق يؤدى فى نهايته لمنزل الخليفة شخصيًا يجلس ابن العاص ليلعب ألعابه النارية ضد خليفته، عندما سأله ابنه عبد الله هل يحب عثمان؟ رد عليه بابتسامة الرجل الذى يرد ببلاغة الصمت أكثر من فخامة اللفظ: كان على عبد الله أن يسأل نفسه ومتى كان أبوه يحب ويكره؟

عمرو بن العاص يدير مشاعره، ولا يفعلها أبدًا ويسمح لمشاعره أن تديره. رجع إلى المدينة، لكنه ظل فى مصر وظلت معه هذه المصر تتلبس روحه. كانت مملكته، هو فاتحها وجاعلها أرضه التى شهدت حلم حياته، السلطة، لم يكن مغرورًا أبدًا فهو يستحقها تمامًا، لم يحصل عليها كما تمناها إلا هناك ولا يجدها إلا هناك، ليست الفكرة فقط أنها مصر التى لا يدرك بعضهم هنا فى صحراء لا يرون أبعد من خيامهم وغنائمهم قدرها، بل لأنها كانت مصره، سلطة عمرو بن العاص التى تمكنت وأتاحت أخيرًا لهذا العقل الذى لا يجد حيز سطوة دهائه ولا عبقريته وسط هذه الصحراء التى تتنازعها الأنساب أن يتعرش العرش الذى يليق به، حتى هذين الشابين على حنقهما على عثمان لا يدركان أنه يقلبهما وقود شواء لشاة لن يأكلوها أبدًا، بل لا يستسيغان مذاقها:

• عثمان يزعم أننى غاضب عليه يا إخواتى.

ثم ليكسب خسارة عثمان لهما أضاف:

• بل يا أبنائى، فأنتما أصغر من ولديّ عبد الله ومحمد، ولكنى لست غاضبًا عليه ولا منه، بل مشفق على المسلمين أن يحكمهم رجل لا يثق إلا فى أهله ونسبه، ولا يمشى على درب خطّه له والد هذا الرجل (وأشار إلى محمد بن أبى بكر فتلقى محمد الإشارة بإيماءة أقل مما كان ينتظرها ابن العاص) وابن الخطاب.

ثم نظر ليرى هل غلا قِدر هذين الغلامين».

«الإطاحة بابن العاص»

يكشف إبراهيم عيسى معالم اللقاء الذى دار بين عثمان بن عفان وعمرو بن العاص، والذى انتهى بالإطاحة بالأخير من ولايته لمصر، مكملًا: «منذ وقت عبر ومر مريرًا على عمرو بن العاص سمع صراخ عثمان فى وجهه مستنكرًا مستنكفًا طلبه:

• أوَتطلب منى أن أعزل عبد الله بن أبى سرح وقد ولاه عمر بن الخطاب الصعيد وليس بينه وبينه حرمة ولا خاصة، ثم تطلب منى أن أعزله الآن وأنت تعلم يا ابن النابغة أنه أخى فى الرضاعة، فكيف أعزله عما ولاه غيرى؟

ملأت كلمات عثمان وجه ابن العاص بالخدوش، كان يريدها شافية له، مصر تلك التى أوجعه تعيين ابن سعد واليًا لصعيدها وجابيًا لخراجها. كان قرار ابن الخطاب أمضى عنده من نصل سيف فى عنقه، لكن ها هو عمر قد رحل، فما بال عثمان لا يكمل عليه دولته.

تحسس لحيته وكظم غيظه وهو يكتم دهشته من تخلى عثمان الخليفة عن حلم عثمان القديم، الراضى بالصمت والقانع بالقبع خلف أبى بكر وعمر وعلى. غاب عنه ما كان يجب أن ينتبه له، فقد جاء إلى عثمان متصورًا أن لينه سيجعله فى حاجة إلى دهائه، وأنه التاجر الذى يدرك أنه فى حاجة إلى صفقة مع سياسى داهية مثله يتمكن بها من درء خطر وتمكين إمارته وتحصين خلافته، لكن عثمان فاجأه بضيق صدر واستقواء بما يعرف عما يجهل، فأراد ابن العاص أن يمتحن قدرة احتمال عثمان على خسارته:

• اسمع يا ابن عفان، أنا لن أرجع مصر إلا واليًا على كل ترابها وأطرافها.

كسر عثمان آخر عمود يستند عليه ابن العاص، فقد قام من جلسته منتفضًا حتى إنه خبط فى آنية بينهما سكب لبنها وكسرت قدمه خزفها:

• إذن لن ترجع إلى مصر يا ابن النابغة.

ونادى مروان وهو يحدق واقفًا فى ابن العاص الذى ظل جالسًا لم يرفع مقعدته عن الأرض ولا عينيه عن عثمان:

• لتكتب كتابًا بخاتمى إلى أخينا عبدالله بن أبى سرح لتعينه واليًا على مصر كلها».

«والى مصر الجديد»

يصف «عيسى» تلك الليلة التى تولى فيها ابن أبى سرح ولاية مصر، وكيف انتقل إلى الفسطاط ليعلم القاصى والدانى بقرار توليه الصادر من الخليفة، ومفاجأة عبد الله بن عمرو بن العاص عند علمه بالنبأ فى مسجد الفسطاط، ساردًا: «وكأن عثمان أراد أن يحشو الجرح ملحًا، فقد وصل الكتاب إلى ابن أبى سرح، كما عرف عمرو بعدها، وابن أبى سرح فى الفيوم بعيدًا عن الفسطاط حيث مقر بيت الحكم والحاكم، فلم يطق ابن أبى سرح أن يطوى ليلة حاكمًا لمصر دون أن يعرف أهلها ويأمر فى فسطاطها، فأغرى أهل الفيوم وكبارها بمنحة خمسة دنانير لكل فرد فيهم مدى حياته لو أوصلوه قبيل صلاة الصبح إلى الفسطاط بمراكبهم، فعلت الخمسة دنانير فعلها، وأطلق عثمان سهمًا بيد ابن أبى سرح فى صدر عمرو حيث كان المؤذن قد أقام أذان صلاة الصبح، وبينما عبد الله بن عمرو بن العاص فلذة كبد أبيه وأنقى رقعة فى نسيج عمرو قد تقدم لإمامة الصلاة ممسكًا بشمعته تضيء طريقه للمحراب، إذا بابن أبى سرح وقد اندفع مع صحبة رافعين شموعهم وقد احتشدوا فمنعوا عبد الله بن عمرو من الاقتراب من المحراب، وأعلنوا أن من يصلى بنا هو والينا وأمير مصر عبدالله بن أبى سرح.

بعدها، كان عمرو يأتمن من يقابلهم حين يأمن أنهم غاضبون على عثمان فيقول لهم:

• يا وجعى على ابنى يومها وهو ملكوم مصدوم بهذا المرتد يقف مكان أبيه ليصلى ويحكم. فقال له: هذا بغيك ودسك يا ابن أبى سرح. فإذا بالوالى الجديد وقد رفعت الولاية عنقه فى مواجهة آل العاص يرد: لم أفعلها ولم أطلبها، بل أبوك من حاول طردى وعزلى، فقد كنت أنت وأبوك تحسدانى على الصعيد. ثم سمح لنفسه أن يتعالى هذا الفسل علينا فيقول لولدى كأنه أمير يمنح رعية تطلب: تعال يا ابن العاص حتى أوليك الصعيد وأولى أباك أسفل الأرض ولا أحسدكما عليه. أعمرو بن العاص من يحكم ريفًا وفلاحين ويرسل بأموالهم لأميره عبد الله بن أبى سرح، لشلت يدى ولا أفعلها أبدًا!

أكثر ما يؤلم ابن العاص أنه لا مهمة، فلا أهمية له هنا أو هناك، أوَمثله من يبعد عن كرسى الحكم والولاية؟ عمرو بن العاص بعد سنوات فى حكم مصر يجلس فى بيت لا بحرس ولا حراسة، ولا وفود تأتى ومفاوضات تجرى وقرارات تؤخذ وخراج يوزع وتدابير تقرر واتفاقيات تنعقد ومندوبو ملوك تفد وكتب تحرر. ما معنى حياة ابن العاص دون ملك أو مملكة؟ بل ما معنى حياة ابن العاص بدون مصر؟

أجاب عمرو على نفسه حين أجاب على وردان:

• سنظل نرتحل فى حياتنا حتى نستقر فى مصر ثانية يا عزيزى.

• أهى مصر المشبوكة فى عقلك؟ فلماذا لو توليت العراق أو الشام؟

• أما العراق فلا حاجة لنا بها، فهى مصروفة للمنازعة، وأما الشام فلن يبرحها معاوية إلا إلى قبره، وأما مصر فهى لي!».

يكمل إبراهيم عيسى نقله للصورة فى المدينة بعد الحياة الجديدة التى بدأت فيها برحيل عمر بن الخطاب، متابعًا: «اتسعت المدينة، لم تعد تلك التى تركها النبى مغادرًا لربه. تباعدت أطرافها عن المسجد، وزادت بيوت ضواحيها حتى تشابكت مع حدودها، ولم تعد تلك النائية المتطرفة، وارتفعت مع سنوات عثمان بيوت تقارب قصور الشام ومصر بطابقين ونوافذ مطلة وأسيجة وبوابات. السعة والدعة التى جاءت المدينة مع الغنائم والمغانم وقدمت مع الجوارى والشقراوات والسمراوات والنحيفات والبدينات والمغنيات. وكثر فى شوارعها العبيد القادمون مع حراب النصر أو المشترون من صرر الدراهم الموزعة على الصحابة وأبنائهم والمقاتلين والمحاربين فى أرض السواد. تخلت المدينة عن تقشف عمر وجلده، وتنعمت بيسر عثمان ولينه. طقطقات النار فى الحطب تلقى نور شعلاتها على مسارات الخطوات فى الشوارع والأزقة، وأسرجة البيوت تنير بعضًا من جوانب الأركان والنواصى فى الطرقات. لكن المسجد النبوى الذى أنفق عثمان على توسعته عشرة آلاف درهم كان هو قبلة النور الوضيء والبهيج من عشرات الأسرجة ذات النور المشتعل فى صحون الزيت الموضوعة فوق الأبسطة والحصر وعند المنبر وأمام الشبابيك، رغم بناء مساجد فى أطراف المدينة وفى أحياء بعيدة عن المسجد النبوى إلا أن أبوابه ظلت تستقبل هذا الحشد فى صلاة العشاء التى يؤمها الخليفة، رغم تراجع الإقبال وضعف التزاحم فى توقيت صلاة الليل، حيث بات الكثيرون يؤدونها فى المساجد القريبة خصوصًا مع ليالى البرد والقيظ.

«مصر بلا عمرو»

اختلفت الحياة فى مصر بعد الإطاحة بعمرو بن العاص، وهو ما يرصده إبراهيم عيسى فى روايته، ساردًا: «ابن أبى سرح ملأ مركزه وساد سادات الجيش وبنى علاقة وثيقة بمعاوية بن حديج ومسلمة بن مخلد أقرب رجالات ابن العاص وأعلى خيلًا ممن تبقى من غزاة مصر من الجيش الإسلامى. وبات ابن حديج الرجل الأهم فى قصر الجن، حيث جعل أمير مصر قصره فخامة وضخامة ما يثير جنان الناس من بذخه وزخمه، فأطلق عليه الناس قصر الجن، وقيل إن ابن أبى سرح هو من سماه بهذا الاسم كى ترهبه الناس ويهابه القبط والعرب. وكان معاوية بن حديج وراء كل قرار يخرج من قصر الجن، فإذ كان جيشًا جهزه، وإن كان بناء مدن وضع قواعدها، وإن كانت رحلة رسم مساراتها، وإن كان خراجًا وزعه، وإن كان مالًا قسمه.

كان آلاف الجنود قد استطابوا الفسطاط وسكنوا الفيوم وبلبيس وخربتها ونعموا بالارتباع، كانوا يتدربون ويتحامون كل يوم لكن طال بهم وقت التدريب فى الرخاء فتراخت السواعد والزنود، وبدأت الوجوه تطلب الراحة وتتصارع على الأعطيات وتتوسع فى بيوتها ومساكنها ويتزوجون ويتناسلون، فكان لا بد من الانشغال بالحرب وجلب موارد للمال وغنائم وأسلا للاستزادة والإفاضة ثم لتمكين عبد الله بن سعد بن أبى سرح من إمارته بمصر وتعظيم مكانته فى قلب الخليفة. ابن حديج خرج على رأس الجيش إلى أفريقيا حيث أراضٍ متسعة منبسطة بعد ساحل الإسكندرية فغزاها وفاز بها، بل قتل ملكها الأسود وعاد وتاجه وعباءته وسيفه وذهبه معه.

فى الحلقة القادمة، نكمل رحلة إبراهيم عيسى الشيقة والممتعة بين صفحات التاريخ الإسلامى.