الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري

أفكار منحرفة (3) اقتحام لأفكار كُتّاب خرجت عن التقليدى والمعتاد.. ابن قرناس

جرت هذه الواقعة فى العام 2010.. حدثنى صديق من الناشرين عن كتاب مهم، أكد أنه مختلف، وحتمًا سيُثير حوله الكثير من العواصف، ولأنه يعرف أنى أطارد العواصف وتطاردنى فى كل مكان، فقد أخبرنى أن مؤلفه اختار لنفسه اسمًا مستعارًا، فما يكتبه لا يمكن التسامح معه أو السماح له بالانتشار، ويبدو أنه آثر السلامة، حتى لا يجعل نفسه فى مرمى السهام.. كان اسم المؤلف هو « ابن قرناس».



والكتاب هو «أحسن القصص.. تاريخ الإسلام كما ورد من المصدر مع ترتيب سور القرآن».

أما دار النشر فقد كانت «منشورات الجمل» التى كان - ولا يزال - اسمها، يعنى أننا أمام كتاب ليس عاديًا ولا اعتياديًا. 

أدركت من العنوان أننى أمام قنبلة سرعان ما ستنفجر، وتأكدت من ذلك بعد أن انتهيت من قراءة الكتاب الضخم 722 صفحة، الذى يُمكن تلخيص ما جاء فيه بأنه أكبر انقلاب فى كتابة تاريخ الرسول صلى الله عليه وسلم، وكلمة انقلاب فى محلها تمامًا، فما فيه يخالف كل ما استقرت عليه كتب السيرة المعروفة، والتى نعتمد عليها فى التعرف على حياة النبى صلى الله عليه وسلم.

قمت بتلخيص ما جاء فى الكتاب ونشرته على صفحتين بجريدة الفجر التى كنت أعمل نائبًا لرئيس تحريرها وقتها، وتوقعت بعدها أن تنقلب الدنيا، وحتى تعرف سبب توقعى، فعليك أن تطالع العناوين التى قدمتها بين يدى العرض وهى:

أولا: «اقرأ».. ليست أول آية تنزل من القرآن.. وجبريل لم يتجسد للرسول أبدا. 

ثانيًا: الرسول لم يُولد فى عام الفيل.. ولا أحد يعرف متى ولد.

ثالثًا: الرسول لم يعرف أنه سيكون رسولاً من السماء قبل الوحى لا بصورة مباشرة ولا غير مباشرة.

رابعًا: الرسول مات فى الخمسينيات من عمره.. وتم تكليفه بالرسالة وهو فى العشرينيات.

خامسًا: السيدة خديجة لم تكن ثرية والرسول لم ينجب منها.. والسيدة عائشة هى أم بناته. 

سادسًا: الرسول لم يتزوج إلا أربع نساء فقط فى حياته.. واحدة فى مكة وثلاث فى المدينة.

توقعت أن تقوم الدنيا ولا تقعد.

أن يخرج علينا حراس التراث بما له وما عليه ليقطعوا أوصال الكتاب والمؤلف.

أن تتصدى المؤسسة الدينية لما جاء فى الكتاب، وتفنده لمخالفته السائد والمعروف عن تاريخ النبى صلى الله عليه وسلم.

لكن شيئًا من هذا كله لم يحدث، فلم يقترب أحد من الكتاب ولا من صاحبه، اللهم إلا برنامج تليفزيونى واحد، تحدثت فيه عما جاء فى الكتاب، لكن حتى الظهور التليفزيونى لم يشفع للقنبلة التاريخية التى وردت فى الكتاب، فلم أخرج من البرنامج إلا بدهشة مطلقة أبداها المذيع، وكان غير مصدق طوال الوقت لكل ما ذكرته، وكاد يطالبنى أن أستغفر الله العظيم وأتوب إلى الله وأنوب إليه مما اقترفه قلمى.

رحت أبحث عن تفسير لما جرى.

فقبل ما يقرب من ثلاث سنوات، وفى العام 2007، عندما عرضت بعض الكتب التى تنتقد صحيح البخارى وروايات أبو هريرة وطالبت بإعادة النظر فى الأحاديث التى بين أيدينا، فمن كثير منها تأتى المطاعن التى تطارد الإسلام ونبيه الكريم، واجهت حملة عاتية وصلت إلى تكفيرى، وقادتنى إلى قاعات النيابة وساحات المحاكم، ودخلت على الخط القنوات السلفية تكفّرنى وتحرّض علىَّ وتحل وتستحل دمى، ووصلتنى بالفعل تهديدات بالقتل وتعليق رأسى على باب الجريدة التى أعمل بها.

لكن فى 2010 لم يحدث شىء، بل بدا الأمر وكأن أحدًا لم يقرأ ما كتبت، أو أن من قرأ لم يهتم ولو حتى بتعليق عابر، وهو ما كان مثيرًا للدهشة بالنسبة لى، وبالنسبة لمن قرأوا، وأدركوا خطورة الطرح الجديد الذى جاءنا به ابن قرناس.

حاول من اندهشوا مثلى من حالة الصمت التى قوبل بها الكتاب أن يبحثوا عن تفسير لما حدث، فليس معقولاً أن من قرأوا اقتنعوا، وليس منطقيًا أن يرضى كهنة الدين والتاريخ بما قاله الباحث المجهول.

قال لى أحدهم: الظروف تغيرت تمامًا، وحاول أن تقرأ المشهد من حولك، فالحراك السياسى على أشده، والمطالبة بالتغيير لا تتوقف، والحركات السياسية فى الشارع تنظم كل يوم وقفات احتجاجية ضد النظام السياسى، ولا أحد يمكن أن يلتفت إلى هذه القضية المعقدة الآن، فالناس يتحركون من الحاضر إلى المستقبل، والكتاب غارق فى الماضى الذى يبدو أنهم اقتنعوا أنه لن يفيدهم بشىء.

وقال لى ثانٍ: يبدو أن حراس السنة الذين يشنون حربا كاسحة على القرآنيين أيقنوا أن هذا طعم جديد، فالكتاب يستند فى إعادته لكتابة تاريخ الرسول صلى الله عليه وسلم إلى القرآن فقط، متجاهلاً كتب السنة والسيرة، وقد يكونون فهموا أن هجومهم على الكتاب يمكن أن يمنحه أهمية وتعريفًا به، فقرروا أن يتجاهلوه، ليقتلوه بالصمت، بدلاً من إحيائه بالهجوم عليه.

وقال لى ثالث: لن يرد أحد على ما كتبت، فالذين كانوا يقودون الحملات الساخنة على مثل هذه الكتابات، وكان أغلبهم من شيوخ السلفية وجماعة الإخوان، يعملون الآن بالسياسة، ولا يشغلهم الدين فى شىء، فمعركتهم مع النظام السياسى أولى بجهودهم، من معركة يعرفون أنهم لن يصلوا فيها إلى شىء، فحجة الكاتب قوية، ولن يستطيعوا التشكيك فيه، دون التشكيك فى القرآن الكريم، وهو ما لا يقدرون أو يجرأون عليه.

كان لدىَّ تفسير آخر تمامًا، وهو ما أرتاح إليه حتى الآن رغم مرور كل هذه السنوات.

فقد كان سبب هذا التجاهل كله لأن كاتب الكتاب لم يذكر اسمه، اكتفى بأن كتب على كتابه -كما كتبه السابقة واللاحقة جميعها- اسم ابن قرناس.

من اللحظة الأولى وأنا أعرف أن «ابن قرناس» هذا ليس إلا اسمًا كوديًا للمؤلف الحقيقى لكتاب «أحسن القصص»، وبدا لى أن السبب الذى من أجله فعل ذلك واضح جدًا بالنسبة لى على الأقل، فهو يعرف أن الرؤية التى يطرحها فى كتابه لن تروق لأحد، ولن يقف خصومه ومعارضوه عند تكفيره وإخراجه من الملة تمامًا، ولكن يمكن أن يغرسوا أظافرهم فى لحمه.

بحثت وراءه، فوجدت أن هناك أكثر من كتاب يحمل اسم ابن قرناس، وهى معروضة فى المكتبات العربية والمصرية، ويقبل على شرائها عدد كبير من القراء، وكلها من إصدار منشورات الجمل فى بيروت التى يملكها خالد المعالى.

عرفت من بعض الناشرين أن ابن قرناس تواصل خلال العام 2005 عبر البريد الإليكترونى مع صاحب منشورات الجمل، وتمت طباعة كتابه الأول «سنة الأولين» الذى صدر فى العام 2006، وكان الشرط الذى وافق عليه المعالى ألا يعلن الاسم الحقيقى للمؤلف، وهو الشرط الذى يحافظ عليه حتى الآن.

حالة السرية التى ارتبطت بابن قرناس، جعلت سوق النشر العربى تحاول البحث عنه، وتخمين من هو، فهناك من أكد أنه كاتب وباحث سورى، لكن كل الشواهد كانت تؤكد أنه كاتب وباحث سعودى، وقد انحزت إلى ذلك، ففى كتابه «أحسن القصص» بطلنا هنا شواهد عديدة على البيئة التى تربى وتعلم فيها، بل إنه يشير كثيرًا إلى أماكن وأسماء فى جزيرة العرب.

كانت هذه هى المعلومة الوحيدة والحقيقية عن مؤلف كتاب «أحسن القصص» بالنسبة لى، وعرفت بعدها أن عددًا من الناشرين المصريين الذين شاركوا فى معارض للكتاب بالسعودية، وفيها معارض كثيرة، كانوا قد زاروا ابن قرناس فى بيته بإحدى المدن السعودية، لكن من تحدث معى طلب أن أخفى اسم المدينة حتى لا يتعرض للأذى، لأنه يتخفى إلى أقصى درجة حرصًا على حياته من ناحية وحماية لعقله من ناحية ثانية، فهو لا يريد أن يدخل فى جدل لا فائدة منه.

ابن قرناس - وكما قال لى من يعرفه -  باحث فى الإسلاميات ومتخصص فى هذا المجال منذ سنوات بعيدة، وهو متفرغ تمامًا لدراساته وأبحاثه، ويعتمد على مناهج علمية جادة ومنضبطة، لكنه لا يريد أن يقحم نفسه فى حالة النقاش العامة التى يمكن أن تصادف كتبه، لأنه يعرف جيدًا أن المناقشات لن تكون عاقلة بالمرة، ولكن سيكون هناك تكفير وسباب لن يفيد أحدًا، ولذلك فإنه يقول كلمته ويمضى.

وحتى يبرئ نفسه يقول فى مقدمة كتابه «أحسن القصص»: «ابن قرناس لا يمثل دين الله، وأضعف من أن يتقول على الله، لكنه سمح لعقله بالتفكير، فوجد أن دين الله لا يمكن أن يمثله غير كلام الله، وما عداه من أقوال فهى رأى شخصى لقائلها، ودين الله لا يقوم على الآراء الشخصية، أرجو أن تقرأوا وتفكروا بما يقرأ، فإن كان صوابًا فليس لأنه كلام الكاتب، ولكن لأن الكاتب اهتدى للصواب، وإن كان خاطئًا فلأن الكاتب بشر يخطئ، وبحاجة للعودة إلى الصواب».

بعد كل هذه السنوات عدت مرة أخرى إلى ابن قرناس، فما زال ما كتبه فى أحسن القصص حيًا طازجًا، وأعتقد أن حوارًا حوله، يمكن أن يساهم فى رغبتنا الملحة فى إعادة النظر فيما ورد فى تراثنا، ويمكن أن يدعمنا فى مسيرة تجديد الخطاب الدينى، فما فعله مغامرة فكرية وبحثية لا يقدر عليها إلا أولو العزم من الباحثين والمفكرين.

لم يكن هذا هو السبب الوحيد لعودتى إلى ابن قرناس، فأثناء بحثى الذى لا ينقطع عن الأفكار المفارقة للمعتاد والخارجة عن المألوف، والذى يروق للبعض أن يعتبرها منحرفة، قابلت صوت ابن قرناس، ويمكنك أنت أيضًا أن تقابله.

على اليوتيويب يمكنك أن تستمع إلى سلسلة لقاءات بصوت ابن قرناس فى تدبر القرآن، وهى سلسلة تقوم بتغطية سور القرآن كلها بترتيب السور حسب النزول، وفيها أيضًا حديث عن كل ما يهم المسلم معرفته عن دينه كما ورد فى القرآن الكريم.

رغم مرور كل هذه السنوات، لا يزال ابن قرناس محتفظًا بسره، فهو يكتفى بأن يمنحنا صوته، ويحجب صورته، لا يريد لأحد أن يتعرف عليه، ربما ليقينه بأن شخصه ليس المهم بل ما يكتبه، وهو أمر أختلف معه تمامًا، فالهوية المعلنة مفتاح للحوار والاشتباك، ومعرفة من يكتب تفيدنا كثيرًا فى معرفة لماذا يكتب وماذا يريد.

وقد يكون هذا ما دفعنى لمزيد من البحث عن ابن قرناس، مع احترام رغبته فى إخفاء نفسه.

على صفحات مختلفة عبر شبكة التواصل الاجتماعى، سنعرف أن ابن قرناس من أسرة معروفة جدًا فى السعودية، ومتدينة أبًا عن جد، عكف على القراءة منذ كان فى المرحلة الابتدائية، كما أنهى دراسته الجامعية من جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض.

قضى ابن قرناس ما يقرب من خمسة وعشرين عامًا فى البحث فى كتاب الله وعصر الرسول، ولم يتردد عن القراءات فى مجالات عديدة فى حقول المعارف والعلوم المختلفة باللغتين العربية والإنجليزية، مع الإلمام بعقائد المذاهب والفرق المختلفة للمسلمين، وما كتب عنها كثير من أهلها وكثير من مخالفيهم وما كتبه عدد من أشهر المستشرقين، إضافة إلى دراسة مستفيضة للكتاب المقدس على يد قس أمريكى لمدة عام ونصف العام، واطلاع عام وغزير حول تاريخ معتقدات بنى إسرائيل واليهود وتاريخ ومعتقدات المسيحية، مع الاطلاع على المعتقدات الأخرى.

بحسبة زمنية بسيطة يمكننا أن نعرف تاريخ ابن قرناس فى البحث والكتابة.

ففى العام 2005 انتهى من أول كتبه «سنة الأولين» وقد سبقه بما يقرب من 25 عامًا من البحث والقراءة، قبل أن يكتب أول أعماله، وهو ما يشير إلى أن رحلة البحث لديه بدأت من العام 1980، ورحلة الكتابة والتأليف مستمرة على مدار ما يقرب من 16 عامًا، أنتج خلالها بحوثًا ودراسات مهمة منها  «سنة الأولين.. تحليل مواقف الناس من الدين وتعليلها» و«الحديث والقرآن» و«الشرعة والمنهاج.. نافذة للتعرف على الإسلام من مصدره» و«مسيحية بولس وقسطنطين» و«رسالة فى الشورى والإنفاق.. قوانين قرآنية تضمن حقوق الفرد وحرية الجماعة» و«حياة الرسول.. رواية شاهد عيان» و«رسالة حول الخلافة وحكم الله».

فى العام 2005 كان ابن قرناس فى الخمسين من عمره، وهو ما يعنى أنه فى الغالب من مواليد العام 1955، وتشير المصادر التى تعرفت عليه إلى أنه بدأ القراءة من أجل المعرفة الشخصية، ولم تخطر على باله فكرة تأليف الكتب فى البداية، ولكنه لجأ إليها لتوثيق ما توصل إليه من حقائق قرآنية، وهو ما جعله يميل إلى إخفاء اسمه الأصلى، واختيار التوقيع باسم ابن قرناس، الذى لا يعرف أحد لماذا اختار هذا الاسم بالذات..  لكن حتمًا هو يعرف.

ثقافة ابن قرناس لم يستمدها من الكتب فقط، فقد كان محبًا للسفر، حيث زار بلادًا كثيرة فى كل القارات، فقد ساح فى الأرض ليتعرف على الناس كما هم فى بيئاتهم بعيدًا عن الإقامة فى الفنادق الفخمة، وهو ما ساعده كثيرًا فى التعرف على ثقافات الشعوب المختلفة من مصادرها الأصلية.

فى العام 2004 كانت هناك محاولة لتوثيق بحوث ودراسات ابن قرناس، فأنشأ منتدى على الإنترنت أسماه «طريق الهدى»، نشر من خلاله بحوثه ، لكن بعد 11 شهرًا قرر وقف المنتدى، وكانت حجته أنه لا يريد أن تتعرض دراساته للسرقة أو النشر المشوه.

المفارقة التى لابد أن نتوقف عندها، أن ابن قرناس ورغم نشأته وتعليمه فى السعودية، فإنه لم ينتمِ فى أى يوم من الأيام للمذهب الوهابى، بل لم ينتمِ إلى أى مذهب.

يمكننا التعامل معه على أنه مفكر مستقل، استقر على مذهبه من مجمل قراءاته الحرة.

لقد عاش ابن قرناس حياة بحثية متفردة، انقطع خلالها عن المجتمع الذى يعيش فيه، حيث نسج لنفسه عالمًا خاصًا به، وهو ما مكّنه من أن يظل بعيدًا عن مجتمعه وعاداته وطقوسه التى لم يعشها ولم يتبعها فى أى يوم من الأيام، وهو ما نراه فى نتائج دراساته وأبحاثه.

بهذه الروح يمكننا أن ندخل إلى منهج ابن قرناس فى كتابه المهم « أحسن القصص».

فهذا كتاب لابد أن تقرأه بقلبك، قبل أن تطالع سطوره بعقلك، استبعد العاطفة قليلاً، واستند فقط إلى أن التاريخ الإسلامى كما قرأناه وتعلمناه فى المدارس، فيه الكثير من التناقضات والأحداث غير المنطقية، التى التقطها المستشرقون، وبالغوا فيها، وجعلوا منها تكئة للإساءة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم.

تقوم فلسفة الكتاب على تدوين تاريخ الإسلام مباشرة من القرآن الكريم، دون الاستعانة بأى كتاب بشرى، سواء كتبه محدث أو مفسر أو قاص أو مستشرق قديمًا أو حديثًا.

لكن لماذا يلجأ المؤلف إلى القرآن الكريم وحده ليكتب من خلاله تاريخ الرسول صلى الله عليه وسلم؟

هل كتب السيرة الكثيرة التى بين أيدينا لا تكفى؟

 أم أن ما ورد فيها ليس صحيحًا بالمرة؟

أترك المؤلف قليلا يبرر اختياره وانحيازه للقرآن الكريم كمصدر لكتابة تاريخ الإسلام.

يقول «ابن قرناس»: الأحداث التى وقعت فى زمن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يصلنا منها أى سجل بشرى من شهود عيان على الإطلاق، وكل ما قيل عن تلك الفترة هو قصص مختلقة تعكس ميول من كتبها أو من اعتمدها وأقرها، وقد كتبت بعد الأحداث بعشرات السنين فى العصر الأموى، وعدلت وبدلت فى عصر العباسيين بعد مئات السنين من وقوعها فى عصر الرسول صلى الله عليه وسلم، ولأن العباسيين استمروا فى الحكم لقرون طويلة، فقد ترسّخ كل ما كتب فى عصرهم، وصبغ به تاريخ الإسلام، وكأنه هو بالفعل ما وقع، ولم يعد للتاريخ الحقيقى أى وجود.

ويعلى ابن قرناس من قيمة الاعتماد على القرآن الكريم وحده كمصدر لتاريخ الرسول بقوله: ما يؤسف لدرجة الحزن والأسى، عدم وجود كتاب واحد عن التاريخ الإسلامى اعتمد كتاب الله كمصدر، سواء ألفه مسلم أو غير مسلم، لأنه حتى عند من لا يؤمن بأن القرآن كتاب إلهى، فلا ينفى كونه الكتاب العربى الوحيد الذى كتب فى عصر ميلاد الإسلام، ولم يعترض معاصروه على ما سجله من أحداث، فقريش وغيرها ممن لم يؤمنوا اعترضوا على ما يدعو إليه القرآن من إيمان بالبعث ورسالة محمد صلى الله عليه وسلم، لكنهم لم يعترضوا أبدًا على ما يتناوله القرآن من أحداث حدثت عند نزول السور، وهو ما يجعل القرآن الكريم المصدر الوحيد الموثق والموثوق فيه لتلك الفترة، أما كل كتب السير والتاريخ التى وصلتنا، فقد اعتمدت قصصًا شفوية من مصادر يهودية ومسيحية ومجوسية وقرشية ووثنية لكتابة تاريخ الإسلام، وهى ثقافات أهل بلاد جزيرة العرب والشام والعراق وفارس وما حولها فى زمن الفتوح.

لكن ما الذى جعل «ابن قرناس» يشكك فى كتب السيرة النبوية التى اجتهد أصحابها فى سرد أحداث ووقائع حياة الرسول صلى الله عليه وسلم؟

إجابة السؤال الذى لابد أنه تبادر إلى ذهنك تأتى فى عدة أسباب فصلها ابن قرناس فى كتابه على النحو التالى:

أولاً: الأمية والفتوح.. فبما أن العرب أمة لا تقرأ ولا تعتمد التوثيق الكتابى لتسجيل الأحداث، فقد حرمنا من التعرف على تفاصيل الأحداث اليومية المصاحبة لدعوة الرسول، ولو استقرت الأوضاع السياسية بعد وفاة الرسول، فسيتناقل الناس قصص الأحداث التى وقعت فى زمنه عن طريق المشافهة، كما اعتاد العرب، ومتى انتشرت الكتابة فستوثق تلك القصص بشكلها الأخير الذى أصبحت عليه قبيل التدوين، ومن الطبيعى أنه كلما تم توثيق هذه القصص فى وقت مبكر، كلما قلت نسبة التشويه والاختلاف الناتجة عن النقل الشفوى، ولو كان حدث هذا بالفعل، لوصلنا تاريخ مختلف عن التاريخ الذى بين أيدينا عن الأحداث التى صاحبت دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم.

ثانيًا: السياسة السائدة.. فقد استمر التاريخ الإسلامى يكتب بقلم الأمويين الذين لا يقرون للإسلام بالتبعية، إلا بمقدار ما يخضع لهم رقاب الناس، ولما انقلب عليهم أبناء عمهم العباسيون أعادوا كتابة التاريخ الذى كتبه الأمويون، ليس من أجل كتابته بدقة، ولكن لكتابته بطريقة تتوافق مع سياستهم، وتطمس كل ما كتبه الأمويون، وما يمجد وجودهم، وإن اتفقوا على مسخ التاريخ.

وربما لهذا لم تصلنا كتابات أقدم مدونى السير المستقلين، مثل عروة بن الزبير، وأبان بن عثمان بن عفان، وشرحبيل بن سعد، وهى الكتابات التى قد تكون أقرب للحقيقة مما كتبه الآخرون، لتظل أشهر كتب السيرة التى بين أيدينا هى كتب المغازى والسير التى كتبها الواقدى الذى توفى عام 207 هجرية، والبلاذرى الذى توفى عام 279 هجرية، والطبرى الذى توفى عام 310 هجرية، وسيرة ابن هشام الذى توفى فى 218 هجرية، وهو عبارة عن كتاب معدل ومنسق لكتاب سبقه لابن اسحاق الذى توفى عام 151 هجرية.

رابعًا: الإسرائيليات.. وهى قصص مختلقة يحكيها رجال الدين اليهود للعامة، كتشريعات دينية لم يأمر بها الله، ولأحداث ووقائع تاريخية خيالية لم تحدث، ولأن هذه القصص أسرع وسيلة لتحول الناس عن الدين إلى تشريعات بشرية، فقد نزلت الآيات القرآنية على الرسول منذ وطأت قدماه يثرب التى كانت أرض بنى إسرائيل تفضح ممارساتهم «ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون».

لم يكتفِ القرآن بذلك، بل بين للمسلمين أساليب أصحاب الإسرائيليات «فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلاً، فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون».

والسبب فى التحذير من صناع الإسرائيليات أن بنى إسرائيل حرصوا منذ ظهور الإسلام فى يثرب على غواية المسلمين ونشر قصصهم بينهم «ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارًا حسدًا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق»، فجاء تحذير القرآن للمسلمين بعدم الإصغاء لهذه القصص أو تناقلها، لأن نشرها وتصديقها يكون على حساب نصوص الدين القويم وتشريعاته.

لكن يبدو أن تحذيرات القرآن ضاعت أدراج الرياح بعد عصر الرسول صلى الله عليه وسلم، وتكاثر أعداد من أعلنوا إسلامهم من اليهود والنصارى والمسيحيين، لغرض فى نفس يعقوب، وأصبح رءوس الكفر والفتنة من نسل قوم موسى، أمثال كعب وابن سلام وابن جريج والدارى والقرظى ووهب بن منبه أئمة يهدون بالحق وبه يعدلون، فهم أول من غرس بذور الفقه والحديث والتفسير وكل علوم الدين، وهم من أخذنا منهم قصص تاريخ الإسلام، وسيرة رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم، بعدما حوروه ليتواءم مع ما يريدون غرسه عن الإسلام.

كل هذه الأسباب جعلت «ابن قرناس»  لا يطمئن لكتب الرواة فى تاريخ الرسول، مما جعله يلجأ إلى القرآن وحده، يأخذ منه مصدرًا لكتابة تاريخ الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم، وهو مصدر لابد أن يطمئن المسلمون إليه، فهو كتابنا الأعظم الذى تعهد الله سبحانه وتعالى بحفظه، فلا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.

إننا أمام عمل بحثى فذّ، أنفق صاحبه سنوات طويلة من عمره ليكتب تاريخ الرسول صلى الله عليه وسلم من جديد، وهو تاريخ يتخلص من كثير مما رسخ فى عقولنا، وليس معنى عرضنا لهذا العمل البحثى الجاد، أننا نقول إنه هو الحديث الفصل، ولكن رأينا أن نفتح باب النقاش حوله.

لا نقصد النقاش المتشنج الذى يفتقد العقل والحكمة، ولكن النقاش العلمى الجاد والمحترم، فنحن نفتح بابًا جديدًا لكتابة التاريخ الإسلامى، ينصف الرسول صلى الله عليه وسلم، وينفى عنه كثيرًا من الضلالات التى ألحقت به فى كتب السيرة التى نتداولها، وأعتقد أن هذا هدف يسعى له المسلمون جميعًا، وكل ما أرجوه أن تتسع قلوبكم قبل عقولكم لما جاء فى هذا الكتاب الجامع.

الأسبوع القادم

وقائع أكبر انقلاب فى كتابة تاريخ الرسول- صلى الله عليه وسلم.