الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري

قراءة فى رحلة الدم - القتلة الأوائل - لإبراهيم عيسى "الحلقة الرابعة".. كان بن العاص لا يستطيع التيقن من حقيقة اشتغال من حوله عيوناً رقيبة عليه لصالح الخليفة

يكمل إبراهيم عيسى رحلته فى سلسلته «القتلة الأوائل»، ليسرد فى جزئها الأول «رحلة الدم» تفاصيل حياة العرب فى مصر بعد الفتح الإسلامى، وأسرار الخلاف بين أمير المؤمنين عمر بن الخطاب وعمرو بن العاص، بلغة بديعة تحمل تعبيرات وتشبيهات تزيد السرد جمالًا وعمقًا، وتنقل المواقف وانطباعاتها وانفعالاتها لنراها أمامنا كأننا جزء منها؛ نشاهدها عن كثب ونتشارك فى الحكم عليها، ليشعر القارئ بأنه يعيش فى أجواء وأرجاء الفسطاط بين أمرائها وجنودها.



خطاب «الخطاب» الغاضب

يرسم إبراهيم عيسى صورة روائية للفسطاط، وأبعاد حياة المسلمين فيها، ومنها إلى كل بر مصر، ساردًا: «ابن عديس يطلى داره بالبياض، والزبير يعلق سلمًا، ومعاوية بن حديج بعدما عاد من المدينة وقد بشر ابن الخطاب بفتح الإسكندرية يرسم الخطط ويحدد الشوارع فى الفسطاط ويقسم الأحياء على القبائل والعائلات؛ فلكل قبيلة مساحة من الأرض تنبى فوقها، وكل واحد منهم بنصيبه وبغناه وثرائه وماله الذى تحصّل عليه من رواتب الجيش التى يحددها ويصرفها بمقررات من ابن العاص يبنى بيته حسب طاقته. وكلما ظهر اكتمال بناءات حى  واخنط وسيع  الشوارع كانت الفسطاط تعلن عن تقسيمها بين القبائل التى تقاربت مساكن أفرادها ودنت دورها. وكان لكل قبيلة مشرف وحارس على منطقته، وها هم أهل الراية أولئك القريشيون وقرابة ابن العاص يسكنون وحدهم منطقة، بينما وزع ليفصلهم عن قلب قريش الجنود من المسلمين ذوى الأصل الرومى، فأسكنهم فى طرف بعيد عن الفسطاط، صار العرب يسمونه الحمراوات لاحمرار وجوه ساكنيها، وهم بعض ممن أسلم من الشوام وأهل فلسطين، وانضموا لجيش ابن العاص خلال عاميه من الغزو. أما الفرس فذهبوا بهم إلى أبعد منطقة فى الفسطاط؛ حيث يجتمع جند كسرى الذين أسلموا فى اليمن وقَدِموا من صنعاء أو من ما وراء العراق فيمكثون وحدهم».

كان هذا هو الحال فى الفسطاط حتى قدوم خطاب ابن الخطاب الذى أرسله إلى عمرو بن العاص يستبطئ فيه الأموال القادمة خراجًا من مصر، ويستقل غلة البلد عن حصيلة زروعه فى عامه الفائت: «من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى عمرو بن العاص، سلام عليك، فإنى أحمد إليك الله الذى لا إله إلا هو، أما بعد فإنى فكرت فى أمرك والذى عليه، فإذا أرضك أرض واسعة عريضة رفيعة، قد أعطى الله أهلها عددًا وجلدًا وقوة فى بر وبحر، وأنها قد عالجتها الفراعنة، وعملوا فيها عملًا محكمًا، مع شدة عتوهم، وكفرهم، فعجبت من ذلك وأعجبت مما عجبت أنها لا تؤدى نصف ما كانت تؤديه من الخراج قبل ذلك على غير قحوط ولا جدوب».

كانت عيون عمر بن الخطاب فى مصر حول عمرو بن العاص، وكانت تفد له بيانات من هؤلاء عن كل ما يفعله بن العاص ويُقْدمُ عليه، وظل ابن عديس وجبلة يزعمان أن أبا أيوب الأنصارى والزبير وعبادة من هؤلاء الذين يراقبون تصرفات ابن العاص ويبعثون بتقديرهم لابن الخطاب فى المدينة. وكان ابن العاص على اعتداده بعقله وعلى تمكُّنه ومكانته فى مصر لا يستطيع التيقن من حقيقة اشتغال من حوله عيونًا رقيبة عليه لصالح الخليفة، فلم يكن سهلًا على ابن العاص أن يشعر أن شيئًا ينفلت من قبضة أصابعه فى ملكه، خصوصًا بتلك التفاصيل التى يوردها عمر بن الخطاب عمدًا فى رسائله ليظهر له أنه عليم بشأنه كأنه ساكن فى بيته، فيقول فى رسالته:

• ولقد أكثرت من مكانتك من أموال الخراج ولمن معك، وظننت أنك سترسل لنا أخبار ذلك فاستأذن لتؤذن، ولقد رجوت فترفع إليّ ذلك، فإذا أنت تأتينى بمعاريض وأسباب ملفقة، لا توافق الذى فى نفسى، ولست قابلًا منك دون أو أقل من الخراج الذى كان يؤخذ من مصر قبل ذلك.

 «تبريرات ابن العاص»

يرفض ابن الخطاب أن يقبل تبريرات ابن العاص وهى التى يتصورها عمرو حججًا ملجمة، فيلقيها ابن الخطاب طوح ذراعه ويصمه بالاقتراب من الوقوع فى الكذب، فالمعاريض كأنها أنصاف الحقائق والالتفافات عن الخبر الحقيقى بحكايات تعرض للحقيقة لكن لا تقترب منها ولا تقولها.

«كان عمر بن الخطاب يحدد لأمير مصر الحد الأدنى من الخراج الذى يريد حصيلته، خصوصًا وقد رفع عمرو بن العاص فعلًا من قيمة ما يتحصله من أهل مصر؛ بل وكان يستنكر ابن الخطاب رد ابن العاص الممتعض المنزعج، ويهجم عليه فى خطاب أخير شديد كأنما صياح ابن الخطاب ينقض عليه من سطوره:

• وقد وافقت على أن أبتلى ذلك منك فى العام الماضى رجاء أن تفيق ولكنك لم تفق، وقد علمت أنه لم يمنعك من ذلك إلا عمالك عمال السوء، وما توالس عليه وتلفف، اتخذوك كهفًا وعندى بإذن الله دواء فيه شفاء عما أسألك عنه، فلا تجزع أبا عبد الله أن يؤخذ منك الحق وتعطيه.

كان ذكاء ابن العاص يحميه من تكوين حصوات فى عروق خصومه، حاول أن يوزع المال على من تتوزع عندهم القدرة على الشكوى إلى حد الرغبة فى الإطاحة به، كان الآلاف الذين كانوا جيشًا قد تسلموا أراضى السكن ورفعوا البيوت وفرشوا الأسرّة وانتشر منهم من سكن فى الفيوم وفى الإسكندرية والجيزة وبلبيس وفى مصر الصعيدية، ومن ظل فى الفسطاط يحيط بالمسجد، لكن لا شغل لأحد، ممنوع عليهم زراعة الأرض، ولا فلاحة الخصب الذى يجرى بين بيوتهم، هم جنود تحت الاستدعاء، وكانوا يعيشون هذه الحياة التى أعطتهم نعمة رغد الانتظار حتى يأتى موعد غزو إن جاء، تدريبات عسكرية فى الأفنية المحيطة بالمسجد، وجرى بالخيل، وركض بالرماح فى معسكرات الخلاء بصحراء جبل المقطم.

كان طبيعيًا أن يدرك عمر بن الخطاب إذن ما أدركه من سعة الحياة، فأراد أن يُضيِّق على هؤلاء حتى يتنبهوا لآخرتهم بدلًا من أن ينتهبوا فى دنياهم.. وجاء رد عمرو بن العاص فى خطاب:

• إلى عبد الله عمر أمير المؤمنين من عمرو بن العاص، سلام عليك، فإنى أحمد إليك الله الذى لا إله إلا هو، أما بعد فقد بلغنى كتاب أمير المؤمنين فى الذى استبطأنى فيه من الخراج، والذى ذكر فيه من عمل الفراعنة قبلى وإعجابه من خراجها على أيديهم، ونقص ذلك منها منذ كان الإسلام، وإنك تزعم أن الخراج للخراج يومئذ أوفر وأكثر، والأرض أعمر، لأنهم كانوا على كفرهم، وعدوهم أرغب عن عمارة أرضهم، فلا يبنون جسورًا ولا يشقون قنوات ولا يعمرون أراضى كما فعلنا منذ كان حكم الإسلام».

«مفاجأة أمير المؤمنين»

كانت الفسطاط على موعد مع مفاجأة مدوية، لم يتوقعها ابن العاص، فقد «عرفت الفسطاط قدوم الصحابى الأنصارى محمد بن مسلمة، مندوب عمر فى مراقبة ومحاسبة أمرائه على الأمصار، وصل مصر ليتقاسم مال عمرو بن العاص ويقتص من نصف ثروته.. كان محمد بن مسلمة محملًا برد ابن الخطاب على ما أرسله ابن العاص إليه، وجاء رد عمر واضحًا فى سوطه على ظهر الرجل فقد كتب له:

• من عمر بن الخطاب إلى عمرو بن العاص، سلام عليك، فإنى أحمد إليك الله الذى لا إله إلا هو، أما بعد، فقد عجبت من كثرة كتبى إليك فى إبطائك بالخراج وكتابك إليّ بأنك تبنى طرقًا، وقد علمت أنى لست أرضى منك إلا الحق المبين، ولم أقدمك إلى مصر أجعلها لك طعمة ولا لقومك، ولكنى وجهتك لما رجوت من توفيرك الخراج، وحسن سياستك، فإذا أتاك كتابى هذا فاحمل الخراج، فإنما هو فيء المسلمين، وعندى من قد تعلم قوم محصورون. والسلام.

لكن فى صحن المسجد لم يكن هذا هو الجواب الذى سمعه الناس، فقد جلس ابن مسلمة عند محراب الصلاة، وخطب فى الجموع التى كانت تتابع نظرات ابن العاص فى فرش المسجد وفى منبر الخطبة وفى أسقف وثريات الجامع، بينما تتجاهل وجوه الناس والمكان الذى يقف فيه محمد بن مسلمة حيث يخطب. يقلب ابن العاص عصا فى حصير الأرض، ويهز رأسه بميل من ظهره إلى صدره، بينما كل العيون تكاثفت وتكالبت على وقفة محمد بن مسلمة الذى أمسك جلود الرسائل بكفه ولوح بكفه الأخرى ناحية ابن العاص:

• يا أهل مصر، حين قدمت مكلفًا من أمير المؤمنين إلى هنا، لقينى ابن العاص فأحسن مقابلتى، وقد قرأت له كما أقرأ لكم خطاب عمر بن الخطاب الذى أرسلنى به لأقيم الحق وأضبط الميزان وأنصف الدين من الدنيا وهذا نص الرسالة.

أفرد طى الصحيفة وقرأ بعلو الصوت الذى يرن صداه من أسقف المسجد وأركانه:

• أما بعد، فإنكم معشر العمال قعدتم على عيون المال فجبيتم الحرام وأكلتم الحرام وأورثتم الحرام، وقد بعثت إليك محمد بن مسلمة الأنصارى ليقاسمك مالك فأحضره مالك والسلام.

ضج الجامع بمن فيه صياحًا وصراخًا وهتافًا وحوقلة وهمهمة وتمتمة ونهنهة وتأوهًا وتأهبًا.. لكن أبا أيوب الأنصارى وقف وقال فصمت الكل منصتًا: • إن كان هذا قرار أمير المؤمنين فالسمع والطاعة، لكننا ما نرى على ابن العاص نقيصة ولا اختلاسًا، ولا نظن أمر عمر بن الخطاب إلا درءًا لشبهات وضبطًا لمصروفات.

شكر عمرو بن العاص بنظراته التى رفعها لأول مرة إلى وجه من وجوه الناس ملتفتًا إلى أبى أيوب الأنصارى، لكن محمد بن مسلمة قال بحروف ضخمة: • ولكن ابن العاص بمجرد قدومى أهدى لى هدية!

لم يتبين القوم كنه القصة، فزاد صمتهم، ولا شىء نطق إلا همسات أنفاسهم:

• ولقد رددت له هديته.

إذن، كان ابن مسلمة يتهم ابن العاص بمحاولة رشوته، هكذا فهم عموم المسجد المحتشد. وهنا هب ابن العاص مستندًا على نجله عبدالله، وشب فوق الروؤس رافعًا رأسه كأنها تعلو أكتاف الجميع:

• ولماذا رددت لى هديتى يا محمد وقد أهديت إلى رسول الله حين مقدمى من غزوة ذات السلاسل هدية فقبلها مني؟

رد ابن مسلمة:

• رسول الله كان يقبل بالوحى ما شاء ويمتنع عما يشاء، ثم لو كانت هدية الأخ إلى أخيه لكنت قبلتها يا عمرو، ولكنها هدية شر من أمير وقبولها أشر. زاد الصخب، لكن صوت عمرو بن العاص بان واضحًا حانقًا:

• قبح الله يومًا صرتُ فيه لعمر بن الخطاب واليًا، فلقد رأيت والدى العاص بن وائل يلبس الديباج المزرر بالذهب، بينما والد عمر الخطاب بن نفيل، ليحمل الحطب على حمار بمكة.

كان الصمت يقتل آذان الجميع حين صرخ محمد بن مسلمة فى عمرو بن العاص:

• أبوك وأبوه فى النار، وعمر خير منك. 

سارع عمرو وقد هزته نفرة ابن مسلمة المتفلتة، فنهض واقترب من محمد بن مسلمة، ثم مسح رأسه بكفه، ثم قبّله على رأسه واعتذر:

• إنها غضبة لنفسى لا لله، فاقبل اعتذارى.

ثم تجاوز عمرو هذه الخصومة التى تركت سخونتها فى حلوق الناس.. وأكمل: «لقد كتبت لعمر بن الخطاب أقول له إننى يا صحبى لم أحجز مالًا، بل امتنعت عن جمع ما  للأقباط قبل الحصاد حتى تزيد غلتهم وغلتنا، فالمسعى كان زيادة ومضاعفة المال، ثم إننا نوزع ذلك عليكم، فهل رأى منكم أحد منكرًا فى قسمتنا ورواتبنا؟ ثم إن البلاد واسعة وفسيحة تحتاج احتجازًا لمال وفوائد للإنفاق، ثم إعداد الخيول والسلاح والحديد استعدادًا لمواصلة الجهاد فى برقة وفى البحر، لكن أمير المؤمنين يريد مالًا كان محصولًا فى عهد من سبقونا، وهم ظلمة تعسفوا مع أهل المصر حتى كرهوهم وأعانونا على قتالهم والروم لا تزال عند حد البحر، وهؤلاء المصريون أكثر منا عددًا وأدرى منا ببلدهم، فلو زدنا عليهم الضغوط وضربنا عليهم الضرائب ما ضمنا لهم عهدًا.

كانت كلمات الموافقة تربت من البعض على كلمات ابن العاص، لكن محمد بن مسلمة قطع القول بالفعل:

• ما هذا وقت المجادلة والمحاججة يا ابن العاص، اذهب إلى بيتك وأحضر مالك ها هنا أمام المسلمين فلنقسمه معك، فلن تهنأ به وعمر حى.

قرعت هذه الجملة (لن تهنأ به وعمر حي) أجراسها فى مسامع الناس شهورًا طويلة، جاءهم فيها عبد الله بن سعد أبى سرح أميرًا للجباية تحت يد ابن العاص، فنغص عليه إمارته، لكن احتملها عمرو وهو يعرف أنه لن يهنأ وعمر حى، كما صرخ بها ابن مسلمة فى المسجد فى أكثر أيام ابن العاص كآبة، حتى ضرب أذنيه هذا الصياح فى شوارع الفسطاط، طل من نافذة داره فرأى جميل بن معمر يجرى بما لا يتفق بالمائة عام التى يحملها على كتفيه ويذكر شيئًا عن عمر بن الخطاب، تذكر ابن العاص يوم سمع جميلًا نفسه فى شوارع مكة ينبئ الناس بإسلام عمر، ما الذى يحكيه الآن عن ابن الخطاب فى شوارع الفسطاط يا ترى؟ أطرق سمعه وانتبه لصياح الرجل صارخًا هائجًا يقف على باب جامعها أن عمر بن الخطاب قد قتل!».

فى الحقلة القادمة، نستكمل رحلتنا فى «رحلة الدم»، لنستمتع سويًا باللغة البديعة والسرد المتناغم، ونقترب أكثر من الخبايا والكواليس التى يكشفها لنا إبراهيم عيسى.