الأربعاء 24 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
وأنَّ القُدس عاصمة أبدية لفلسطين

وأنَّ القُدس عاصمة أبدية لفلسطين

ماذا لو سألنا شابًا وُلد عام 2000، ما هى ثوابت القضية الفلسطينية؟ فى الأغلب لن يُجيب، هذا إن لم يسخر من صعوبة السؤال المُربك! هؤلاء الذين بلغوا من العُمر 21 عامًا أو أكثر بقليل، رُبما المشاهد الفلسطينية البطولية الأخيرة فى حى الشيخ جرَّاح بالقدس هى جديدة عليهم بالكلية، ورُبما غريبة!



أنا لا أدرى متى آخر مرة شاهدتُ فيها فيلمًا وثائقيًا يسرد حكاية بطل فلسطينى يسعى لتحرير أرضه، أو يتناول هذا البُعد الكفاحى المُشرف على هامش أى قصة وثائقية تدور أحداثها فوق الأرض المحتلة ولو من بعيد! أغلب الظن أن هذه المرة التى تعرضتُ فيها لفيلم من هذا النوع كان على الأقل قبل ما يزيد على عشر سنوات! وحتمًا كان هذا الفيلم على شاشة قناة النيل للأخبار التابعة للتليفزيون المصرى، تلك القناة التى وُلدت بآخر عامين من القرن العشرين، وكان لها من قلب القُدس مُراسلة اسمها «شروق أسعد»، هذا فضلًا عن عدد كبير من مراسلى القناة بالعواصم العربية والغربية، وكان المتاح للنيل للأخبار حينئذ، يسمح لها أن تصنع عددًا من الأفلام الوثائقية بالغة الأهمية، منها «القُدس خارج نشرات الأخبار».. الذى وثّق الوجه الآخر للمدينة المُقدسة بعيدًا عن المتعارف عليه عبر وكالات الأنباء، «رسائل فلسطين».. الذى وثّق عروبة فلسطين عبر طوابع البريد القديمة، «دير ياسين».. الذى وثق المجزرة الشهيرة التى أعملتها العصابات الصهيونية بالقرية الفلسطينية التى حملت ذات الاسم، وفيلم «مُبعدون».. الذى وثق مأساة الإنسان الفلسطينى الصامد المُبعد قسرًا عن مسقط رأسه، هذا الفيلم دمعتْ عينا وزير الإعلام الراحل/ صفوت الشريف أثناء مُشاهدته وهو الرجل القوى، كل هذا على سبيل المثال لا الحصر، فمكتبة النيل للأخبار تزخر بعدد كبير من الوثائقيات التى أنتجتها مصر دعمًا للقضية الفلسطينية من قلب الضفة والقطاع وسائر الأرض المُحتلة، والأهم أنها كانت تحمل بين طياتها رؤية الدولة المصرية ورسائلها المُشفرة إلى الكيان الصهيونى وأيضًا إلى بعض أشقاء الإقليم، ثم تركنا الساحة الوثائقية الفلسطينية للاعبين آخرين!

مع انتصاف العقد الأول بالألفية الجديدة، ولأسباب تخص الجسد السياسى المصرى المُضطرب فى خواتيم حقبة الرئيس الراحل «حُسنى مبارك»، ابتعد إعلام الدولة عن تناول شأن الجوار شيئًا فشيئًا، إثر ذلك كان من المنطقى أن تخفتْ صناعتنا الوثائقية الوطنية المُعالجة للشأن الفلسطينى رويدًا رويدًا حتى انعدمتْ، ليس هذا فحسب، بل ولأسباب مادية أو غير مادية، لم يعد للتليفزيون المصرى مُراسل من الأرض المحتلة، صار المتلقى المصرى يستقى أخباره العاجلة عن فلسطين وأحداثها من شريط أخبار القنوات العربية، فى تلك الفترة أيضًا أصبحنا نُشاهد أفلامًا وثائقية أخرى عن فلسطين ولكن من إنتاج قناة الجزيرة القطرية، والهدف لم يكن دعم الفلسطينيين والقضية على نحو خالص، بقدر ما كان دسًا دعائيًا داعمًا لفصيل فلسطينى بعينه، هو حركة المقاومة الإسلامية «حماس»، خاصة فى أعقاب صيف 2007 واحتدام الصراع فى مواجهة حركة فتح من أجل قضم تُفاحة سلطة زائفة لا وجود لها ولا شجرة، لكنَّ الكيان الصهيونى زينها لهم!! تزامن ذلك مع تواتر أخبار قادمة من العاصمة القطرية عن تغيرات بالتركيبة الأيديولوجية للقناة، رجحتْ إثرها كفة المتأسلمين على حساب القوميين، لتتم عملية اختطاف تدريجى للقضية على نحو دعائى ومنظم، انعكس ذلك بشكل مُباشر على الصناعة الوثائقية المُقدمة، مما أدى فى نهاية المطاف إلى اختزال الصورة الذهنية للمُقاوم الفلسطينى فقط فى سمت وهيئة أفراد حماس، الذين كانوا بالأصل فصيلًا مُقاومًا ضمن فصائل أخرى مُقاومة، كان هذا فخًا عميقًا انزلق إليه كثيرٌ من الليبراليين واليساريين فضلًا عن قطاعات عريضة من الجماهير غير المؤدلجة وذلك تحت وطأة مشاعر حلم تحرير الأرض المحتلة، وهكذا أصبح الحمساوى هو البطل الإسلامى الذى سيحرر بيت المقدس، أما غيره من الفلسطينيين فلا! ليس هذا فحسب بل تم تصوير المُنتمين لحركة فتح فى هيئة خونة القضية، وفى المُحصلة كانت الطامة، لقد تم فى سنوات قلائل اختزال فلسطين فى القطاع! ثم اُختزل أهلنا بالقطاع الصابر المقاوم فى أفراد حركة حماس، وذلك كله عقب أن اُختزلت المقاومة بأسرها خلف أقنعة أعضاء هذا التنظيم! وصارت العلكة التى يلوكها اللسان المتأسلم هى أزمة معبر رفح لا أزمة الاحتلال! ورُبما يذكر كثيرون كيف أن فتح وغلق المعبر أصبح موضوعًا يُناقش على الهواء مباشرة باستوديوهات «قناة الجزيرة الرياضية»! بدا أنَّ الذهنية الإخوانية التى سيطرتْ على مقاليد الصناعة الخبرية والوثائقية هناك فعلتْ بأكثر مما كان يحلم أى مُفكر صهيوني! لقد نُسيت القضية الأم!

ثم وصلنا إلى العقد الثانى من القرن الحادى والعشرين بسنواته الساخنة فى الشرق الأوسط، وفى اللحظة التى كانت تنوه فيها قناة الجزيرة بكثافة عن ملف وثائقى قوى ومناهض لحركة فتح، اندلعتْ ثورة يناير/ كانون الثانى 2011 وما تلتها من أحداث وصولًا لثورة الثلاثين من يونيو/ حزيران 2013 التى صحح المصريون فيها المسار، ليشهد القاصى والدانى كيف عمتْ أبصار وبصائر قيادات حركة حماس وانحرفتْ بوصلتهم فى الاتجاه المُعاكس دعمًا لجماعة الإخوان الإرهابية وغيرها من الجماعات القاتلة التى كانت تحارب الشعب المصرى وتسفك دم أبنائه، وكان من الطبيعى جدًا بل ومن الوطنى الخالص لعموم الناس فى تلك الأعوام وما تلاها، الإيمان بأنَّ مَن يُساند أو يدعم أو يُشارك أو يتعاطف مع الإرهابى هو «إرهابىٌ مثله»، هكذا استحالتْ حركة حماس فى الذهنية الجمعية والمخيال الشعبى المصرى، بسبب مواقفها المناهضة وأنفاقها المحفورة وأفعالها المنافية للسيادة المصرية ومُقدرات الأمن القومى، مُرادفًا للإرهاب وجماعاته المُسلحة، حدث هذا فى حقبة انشغل فيها الشعب المصرى وشعوبٌ عربية فى الجوار بموجات فوضى اجتاحت البلاد، وأدت لانخراط الجميع فى معارك كانت تعصف بالأوطان وتهدد وجودها من الأساس، حتى إنَّ دولًا عربية عريقة ذهبت وإلى الآن لم تعد، وكان على الجماهير التى انشغلتْ بالمعارك الوجودية لبلادها، أن يخفت ولو نسبيًا أو كليًا اهتمامها بالقضايا المصيرية للجوار، كان الجوار هذه المرة هو فلسطين، ولكن ها هى غُمة السنوات المنصرمة انجلت، والمشاعر الكامنة تجاه القضية الفلسطينية التى ظن البعض أنها قد توارت مع موجات التطبيع وتباين الأولويات، سرعان ما تفجرت مع أول مواجهة بين أبطال حى الشيخ جرَّاح وجنود احتلال القدس، وسرعان ما خفقتْ القلوب مع أول صاروخ انطلق من قطاع غزة فى اتجاهه الصحيح، ليصبح من المهم مجددًا فى الفترة المقبلة، تطويع الفيلم الوثائقى كسلاح إعلامى بعيد المدى، للتوكيد على حق الفلسطينى الحُر فى المقاومة المُسلحة وتحرير الأرض، وتبييض شاشة مما علق بها عمدًا أو خلطًا وسط صخب الأعوام الفائتة، وإصلاح كل ما عطب بالصورة الذهنية للمُقاوم الفلسطينى فى المخيلة الجمعية، لاسيما لدى هؤلاء ممَن هم الآن فى سن الطفولة والمُراهقة ومطلع الشباب من المصريين وغير المصريين ووفقًا للرؤية المصرية، هؤلاء حتمًا لم يُعاصروا حروب الصراع العربى/ الصهيونى، ولم يُدركوا كيف زلزلزل أطفال الحجارة مضاجع المُحتل بالانتفاضة الفلسطينية الأولى بدءًا من عام 1987، ولم يروا لحظة استشهاد الطفل الفلسطينى «محمد الدرة» فى حِضن أبيه الأعزل بالانتفاضة الثانية عام 2000، إنَّ الأطفال الذين وُلدوا يوم وثق الفرنسى «شارل أندرلان» مُراسل قناة «فرانس2» هذا المشهد، سيبلغون هذا العام سن الرُشد! من أجل هؤلاء الذين لا يعلمون ومن أجل القضية نفسها ومن أجلنا، يتحتم الحكى والتوثيق حتى لا يضل الحق أهله وحتى لا تذوب الحقائق فينصهر التاريخ وننصهر معه! إن العالم تغير، والأجيال جديدة حتمًا لن يُقص عليها فى المدارس الدولية وغير الدولية شىء عن حق الفلسطينى فى المقاومة، وبالأغلب هم لم يعلموا عن الفلسطينيين سوى ما تنامى لأسماعهم من شذرات عن سلوك حماس بالعقد الأخير، ورُبما كل معرفتهم عن فلسطين استقوها من مواسم المُسلسل الصهيونى «فوضى» عبر تطبيق Netflix، هذا فضلًا عن وثائقيات ذات التطبيق والتى تضع بحرفية المُقاوم الفلسطينى فى مربع الإرهابي! تلك الأجيال استرعى انتباهها الصخب الذى رافق الأحداث الأخيرة بحى الشيخ جرَّاح، وما استتبعه من أعمال مقاومة فى سائر الأرض المحتلة، صغار سن كثيرون توقفوا بالدهشة لمَّا شاهدوا آباءهم وأمهاتهم والكل من حولهم يُلاحق قنوات الأخبار، انهال بعضهم بتساؤلات ساذجة، نرى أن الإجابات عنها من المسلمات، فى حين أنها خفية عنهم وغامضة، مثل: لماذا الفلسطينيون غاضبون؟! أكل هذا الدم من أجل حى صغير؟! هل نحن مثل الفلسطينيين نكره الإسرائيليين؟! وما أزمتنا معهم؟! بدا ولأسباب كثيرة أن هوة واسعة صارت تفصل بين مَن هم أصغر منا وما استقر فى وجداننا من حقائق! ومن أجل تلك الهوة ومن أجل أمننا القومى كانت أهمية إنتاج فيلم سينمائى مثل «الممر»، ومن أجل تلك الهوة يجب أن تدور عجلة الصناعة الدرامية والوثائقية أكثر فأكثر لسد أى هوة ناشئة، نحن إزاء جيل مختلف صار يتعرض لدعاية الناطق باسم جيش الكيان الصهيونى مباشرة عبر جدران مواقع التواصل! إنَّ الفلسطينى المُقاوم بطلٌ وليس إرهابيًا، وله الحق فى المقاومة المُسلحة حتى تتحرر أرضه، هذه حقيقة جلية يجب أن يراها العالم عبر أفلام وثائقية محترمة الصنعة ومؤثرة، ولو أن صناعة الأفلام الوثائقية ترفٌ أو غير ذات أهمية فى الصدد، لما أُنفقت كل تلك الملايين على صناعتها وبثها عبر تطبيق Netflix وغيره، لذا يجب أن نستثمر أكثر وأكثر فى هذا الحقل حفاظًا على أمننا القومى الذى يبدأ من ترسيخ الحقائق البديهية فى وجدان القادمين الجدد إلى الدنيا. وفى النهاية، ورُبما لو طوعنا من جديد سلاح صناعة الفيلم الوثائقى فى الصراع العربي/ الصهيونى، كواحد من آليات قوة مصر الناعمة، فى ظل هواتف ذكية مُشرعة على فضاء مفتوح وسيولة مصطلحات وموجات تطبيع تخص الحكومات لا القلوب، فإن هذا سوف يكون على المدى البعيد أكثر أمنًا لنا قبل غيرنا، وحينها لو سألنا شابًا وُلد عام 2000، ما هى ثوابت القضية الفلسطينية؟ فإنه حتمًا سوف يجيب: حق العودة، حق المقاومة، حق تقرير المصير، وأنَّ القُدس عاصمة أبدية لفلسطين.