الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري

أفكار منحرفة.. اقتحام لأفكار كُتّاب خرجت عن التقليدى والمعتاد قصة الدكتور داهش نبى القرن العشرين

قليلة هى الكتب التى تجبرنى على الاستسلام لها راضيًا مرضيًا، صحيح أننى لا أغادر أى كتاب يقع بين يدى دون أن أنتهى منه، لكنَّ هناك كتابًا لا يجبرك عليه فقط؛ بل ما يثيرك ويغريك، فتمنحه نفسك تمامًا، فلا تغادره إلا بعد أن تحصل منه على كل ما توفر فيه من معرفة ومتعة.



على أرفف واحدة من المكتبات العامة توقفت أمام غلاف رواية « رابطة كارهى سليم العشى» لكاتبها الروائى الشاب سامح الجباس (مولود فى يناير 1974 وله أعمال روائية وقصصية سابقة أهمها حى الإفرنج وكريسماس القاهرة ونادى النيل الأسود السرى). تتوسط الغلاف صورة لما يبدو أنه بطل الرواية، تحيط به خمس صور ليوسف السباعى ونجيب محفوظ وتوفيق الحكيم ويوسف إدريس ويوسف وهبى.

لا بُدّ أن يحدثك قلبك – كما حدثنى قلبى - أن فى الأمر شيئًا. 

الرواية تأتينا فى 428 صفحة من القطع المتوسط، وبمجرد أن تدخل بابها، لن تستطيع مقاومتها، فكأنها نداهة، تجعلك تغوص فى صفحاتها، تحتاج إلى ضبط نفسك، حتى لا تسبقك عيناك لتتطلع إلى النهاية، فتفسد على نفسك الطريق، الذى يمنحك كثيرًا من التشويق والإثارة وحتمًا المتعة.

الحكاية بسيطة، مؤسسة أمريكية تتواصل مع كاتب روائى شاب، تمنحه فرصة تفرُّغ لكتابة رواية عن سليم العشى المعروف فى أوساط ثقافية وعربية باسم الدكتور داهش، ينتقل على نفقة المنظمة إلى بيروت، ترافقه شابة لبنانية اسمها فاطمة ليجمع المعلومات من المكان الذى عاش فيه داهش، وتضع تحت أمره كل الإمكانيات التى يمكن أن تساعده فى إنجاز عمله.

يترك الروائى الشاب نفسه للتجربة التى بدأت فى العام 2012، وقبل أن يصل إلى السطر الأخير فى روايته، يكتشف أنه ما جاء ليكتب الرواية، ولكن ليدخل بيت داهش ليكون الجسد الذى تسكنه روحه، فداهش ليس مجرد كاتب أو مفكر أو شخص روحانى عَبَرَ إلى الحياة وانتهى به الأمر؛ بل هو روح تتقمص أجسادًا أخرى عبر الزمن. 

إذا كنت لا تعرف شيئًا عن داهش، فحتمًا ستتخيل أن سامح الجباس ينسج من خياله الحكاية كلها، وحينها ستترك نفسك له، لكن إذا كنت تعرف شيئًا عن سيرة الدكتور داهش، فسيكون لديك شغف لمعرفة كيف يعالج الروائى الشاب حياة شخصية أسطورية يطلقون عليها «نبى القرن العشرين».

الدكتور داهش من مواليد العام 1909 فى بيت لحم، وتُوفىّ فى أحد مستشفيات نيويورك فى العام 1984، وما بين هذين العامين استطاع أن يكون محل جدل ونقاش وخلاف، وتحديدًا بعد أن أعلن فى العام 1942 عن تأسيسه لـ«الداهشية»، وهو ما يمكننا أن نعتبره مذهبًا جديدًا، أو فكرة فلسفية يفسر من خلالها موقعية الأديان السماوية والأرضية فى حياتنا.

أتباع «الداهشية» لا يتوقفون عند اعتبارها مذهبًا أو طريقة تفكير؛ بل يذهبون بها إلى أنها دين، وأن داهش ليس إلا نبيًّا، ويعرفون ما بين أيديهم بأنه: «خلاصة ما أنزل على الأنبياء والمرسلين، لأنها تحترم جميع العقائد الدينية التى أوحى بها الله على أيدى رسله الأمناء، ولكنها لا تعترف ببعض الطقوس الدينية المسيحية كعبادة الصور الدينية والاحتفاظ بالأيقونات والمتاجرة بها، والقيام أثناء الصلوات العامة فى الكنائس بالتبخر أمام الهيكل، والتمتمة والتعزيم، ثم لا يسلم مطلقًا بما يسمونه «سر الاعتراف المقدس، فجميعها بدع ابتكرها رجال الدين لمآرب ذاتية، وغايات دنيوية، إذا لم يوص السيد المسيح أو رسله بوجوب السير على هذا الطريق».

حياة الدكتور داهش وكل شىء عنه، أفكاره ومؤلفاته التى تصل إلى 150 كتابًا فى مختلف فنون الأدب يمكن أن تعثر عليها بسهولة عبر شبكة الإنترنت، وكان يمكن أن يركن سامح الجباس إلى هذه السيرة، ويكتب عملاً روائيًا توثيقيًا، وساعتها كنا سنشكره عليه، لكنه أخذ من الرجل المريب الغامض طريقًا لصنع أسطورة خاصة، استعرض من خلالها فكرة أعتقد أنها مهمة جدًا، وهى تذويب الفوارق بين الأديان، وهدم كل الجدران التى تفصل بينها، فهى فى النهاية دين واحد.

لا تشغلنى تفاصيل حياة داهش – يمكنك أن تشغلك أنت وتسيطر عليك عندما تقرأ الرواية – لكننى سأتوقف معكم عند الفكرة التى نبحث عنها هنا.

لن أسلم لأتباع داهش وهم بالمناسبة من النخبة المثقفة، لا يسير وراءه أحد من العامة، بأنه نبى، ولا بأنه جاء بدين جديد، لكن من المهم أن نبقى فى ظلال فكرته الكبرى، وهى أن الأديان ليست فى النهاية إلا نوافذ نطل منها على الله.

من بين ما قاله الدكتور داهش ويمكننا أن نعتبره مفتاحًا لحل أزمات البشر التى يقف وراءها الفهم الخاطئ للأديان: ما دُمت تعتقد أن كتابك المقدَّس ودينك هو الحقيقة الوحيدة، فسيبقى من الصعب أن تفهم كيف تؤمن بجميع الأديان.

أسطورة الدكتور داهش بنيت على أساسين:

الأساس الأول أنه كان يأتى بالمعجزات التى لا يستطيع العقل البشرى استيعابها، وهو ما جعل أتباعه يسيرون خلفه دون سؤال. من أشهر أتباع الدكتور داهش كانت «ماجدا حداد» وهى ليست شخصية روائية؛ بل شخصية واقعية، فهى ابنة « مارى حداد» شقيقة السيدة « لور حداد» زوجة الرئيس اللبنانى «بشارة الخورى» فى الفترة من 1943 إلى العام 1952، ولها كتاب معروف عن الدكتور داهش هو «معجزة الدكتور داهش وظاهراته الروحية».

تقول «ماجدا حداد» عن الدكتور داهش كما ينقل عنها سامح الجباس فى روايته: عرفته فتغيرت حياتى تمامًا، عرفت أن اسمه الأصلى هو سليم موسى العشى، وأنه وُلِد فى بيت لحم عام 1909، كان هذا قبل أن يختار اسم الدكتور داهش، بعد أن أدهش الجميع بخوارقه الروحانية، التى شهدت الكثير منها، لم أهتم بأن أعرف الكثير عن أسرته، لكنى عرفت أنه تربى يتيم الأب، حكت لى أمى «مارى حداد» عن طفولته حكاية لا أنساها.

لم تنس « ماجدا حداد الحكاية» لأنها كانت من معجزات الدكتور داهش.

كان عمره لا يزيد على  السنوات  الثلاث عندما أصابه مرض عضال، فاستدعى الوالد لعلاجه طبيبًا من المستشفى الأمريكى ببيروت، اسمه الدكتور سميث، وجد الطفل فى غيبوبة، عالجه بالعقاقير حتى يسترد وعيه، لكنه لم ينجح، وإذْ تسرب اليأس إلى قلب أمه، وهَمّ الطبيب بالانصراف، نهض الطفل فجأة ثم أخذ يتحدث إلى الطبيب بالإنجليزية بطلاقة عجيبة، ذاكرًا له الدواء الذى عليه أن يعالجه به.

 ذهل الوالدان من تكلم طفلهما بالإنجليزية، وسأله الطبيب مستغربًا: كيف عرفت الداء والدواء؟

فأجابه الطفل: أنا دواء لكل داء.

سألت «ماجدا حداد» سليم العشى: لماذا تخلى عن اسمه، واختار أن يكون الدكتور داهش؟

قال لها أنه ألهم سنة 1929 بأنه يجب أن يُغيِّر اسمه، ويتخذ اسمًا روحيًا، وسيعطى الاسم الجديد عن طريق القرعة، فأخبر تلاميذه بذلك، فعمدوا إلى كتابة أسماء كثيرة على قصاصات من الورق، ثم طووها وخلطوها، واختار منها واحدة، فإذا فيها اسم داهش. لدينا هنا رواية أخرى، ترتبط بأسطورة داهش أكثر.

فبعد أن اتسعت شهرة سليم موسى العشى، وصلت أخباره إلى المحافل العلمية فى باريس، أرسلت له جمعية المباحث النفسية الفرنسية لتستضيفه، سافر بصحبة شقيقته «أنطوانيت» التى كانت وسيطته الروحية.

طلبوا منه فى الجمعية أن يريهم معجزة من معجزاته، فأخبرهم بأنه سيريهم آية النبى يونس عليه السلام، طلب منهم أن يضعوه فى صندوق حديدى، ويحكموا إغلاقه، ويدفنوه فى قعر نهر السين سبعة أيام تحت الحراسة.

تردد أعضاء الجمعية، لكنهم سرعان ما وافقوا على طلبه عندما كتب لهم إقرارًا بأنه هو المسئول عما يمكن أن يحدث له.

بعد سبعة أيام وأمام 150 شاهدًا من المهتمين بالأمور النفسية، رفعوا الصندوق ولما فتحوه وجدوا الجثمان الساجى يتحرك، والوجه الواجم يبتسم.

بعد هذه المعجزة منحوا سليم العشى شهادة العلوم النفسية من قبل «الجمعية النفسية الدولية» فى 6 مايو 1930، وبعد خمسة عشر يومًا وفى 22 مايو 1930 منحوه شهادة الدكتوراه من معهد «ساج الإنجليزى» بباريس، ومن يومها اقترن اسمه العلمى باسمه الروحى، وأصبح الناس يعرفونه باسم «الدكتور داهش».

كان الدكتور داهش يوحى لأتباعه بأنه مرسل من الله، أو على الأقل مختار من قبله، لم يكن يتعامل على أنه صاحب فكرة أو فلسفة. استمع إلى «ماجدا حداد» وهى تقول: ذهب الدكتور إلى المطبخ فتسللت خلفه دون أن أشعر أو أفكر، وجدته يشرب كوبًا من الماء، وقفت على باب المطبخ صامتة، وقلبى يدق فى صدرى كطبول قبيلة إفريقية، دون أن يلتفت إلىّ رأيته يضع الكوب من يده ويقول لى: فى صدرك سؤال يا ماجدا.

سألته: لماذا أنت؟

التفت إلىّ ورمقنى بنظرته الثاقبة التى كانت تشيع الرجفة فى أوصالى - رجفة الحب والإخلاص والإيمان – وقال بصوته الهادئ: يقول القرآن: «رفيع الدرجات ذو العرش يلقى الروح من أمره على من يشاء من عباده لينذر يوم التلاق».

شعرت بالذهول، فهذه هى المرة الأولى التى أسمع فيها هادينا يستشهد بكتاب المسلمين المقدس.

المفتاح الأهم لشخصية الدكتور داهش هو أنه كان يبشر بفكرة «التقمص».

يقول: أنا أومن بأنه توجد عدالة سماوية، وأن جميع ما يصلنا فى الحياة الدنيا من منغصات، إن هو إلا جزاء وفاق لما اجترحناه فى أدوارنا السابقة من آثام وشرور، ولهذا يجب علينا أن نستقبل كل ما يحل بنا من آلام الحياة ومآسيها غير متبرمين ولا متذمرين، بل قانعون بعدالة السماء ونظمها السامية.

يقتحمنا الدكتور داهش أكثر بحديثه عن التقمص.

يقول: للحياة الروحانية أشكال لا تعد ولا تحصى، أما التقممص فهو حقيقة راهنة، وهو يعمل على هذه الأرض كما فى غيرها من العوالم، ويُسمى حسب اصطلاحنا درجات سماوية أو درجات جهنمية.

لا يتركنا داهش لاعتبار ما يقوله وكأنه اجتهاد شخصى منه، فهو يستشهد بالكتاب المقدس الذى يقول: «لأن جميع الأنبياء والناموس إلى يوحنا تنبأوا، وإن أردتم أن تقبلوا، فهذا هو إيليا المزمع أن يأتى».

وما يثبت التقمص أيضًا ما جاء بالكتاب المقدس.

وسأله التلاميذ: إيليا ينبغى أن يأتى أولًا.

فأجابهم: إن إيليا قد جاء ولم يعرفوه، بل عملوا به كل ما أرادوا.

حينئذ فهم التلاميذ أنه قال لهم عن يوحنا المعمدان.

يقتحمنا الدكتور داهش أكثر، عندما يقول: إن الحياة على هذه الأرض هى دور التجربة، وجميع الأديان متفقة على ذلك، لقد جئنا مرارًا إلى هذه الحياة ونحن موجودون منذ الأزل.

وعندما سأله رجل مهيب: كيف نفسر التقمص بشريًا؟

قال له: إن الروح تشبه مجرى الكهرباء، فالنور هو الروح، والمصباح الذى يتكسر ويستبدل هو الجسد، ولو لم يكن هناك تقمص، فكيف نستطيع أن نفسر العدل الإلهى؟

فى مقدمة كتابه «قصص غريبة وأساطير عجيبة» يقول الدكتور داهش: القصص التى ذكرت فيها حوادث التقمص ليست خيالية، فأنا أومن بالتقمص إيمانى بوجودى، أى أن الإنسان يتكرر مجيئه إلى الأرض ليتطهر من أوشابه، ويتخلص من أوزاره.

فالتوارة تذكر فى سفر الخروج أن القضاة كانوا يحاكمون الحجر إذا سقط على رجل فأماته، ويحكمون عليه بالتحطيم حتى يصبح كالدقيق ثم يذرون رماده فى الفضاء، كما كانوا أيضًا يحكمون على البهيمة إذا ضاجعها رجل بعقوبات مختلفة، كما يحكمون على الفاعل، فكيف يمكن أن تحاكم بهيمة غير عاقلة، وكيف يحاكم جماد، ويحكم عليهما لو لم يؤمن القضاة بأنهما مسئولان عن عملهما مثلما يحاكم ابن حواء، لأنه يفهم مسئوليته عندما يُقْدِم على عمل غير شرعى، فيحاكم ويحكم عليه بعقوبة شديدة أو مخففة بالنسبة لعمله الإجرامى؟

والسيد المسيح سأله تلاميذه عن إيليا النبى قائلين له: إن النبوءات تؤكد أن إيليا النبى سيعود إلى الأرض ثانية، فمتى تكون عودته؟ فأجابهم: إن إيليا النبى قد عاد إلى الأرض وهو يعرف الآن باسم يوحنا المعمدان.

والدين الإسلامى يذكر بآيات القرآن الكريم عن التقمص فيقول فى سورة البقرة: «كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتًا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون».

وفى سورة الانفطار: «يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم، الذى خلقك فسواك فعدلك، فى أى صورة ما شاء ركّبك». 

وفى سورة غافر: «قالوا ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين، فاعترفنا بذنوبنا، فهل إلى سبيل من خروج».

وفى سورة الواقعة: «نحن قدرنا بينكم الموت وما نحن بمسبوقين، على أن نبدل أمثالكم وننشئكم فى ما لا تعلمون».

ويجمل الدكتور داهش نظريته فى التقمص بقوله: إن الأديان قاطبة تقول، بل تؤكد، أن الإنسان يولد على هذه الأرض، وفى أثناء حياته الأرضية يقوم بأعمال صالحة وأخرى طالحة، وعندما يتوفاه الله يذهب إلى النعيم إذا كانت أعماله صالحه، أو إلى الجحيم إذا كانت أعماله شريرة.

وبالنسبة لما أكده مؤسسو الأديان – كما يرى داهش - سيذهب بشر إلى جهنم النار المتقدة، ويمكثون مخلدين فيها من دهر إلى دهر، ومن أزل إلى أبد، وهذا أمر غير جائز إطلاقًا وظلم رهيب، فرحمة الله عظيمة وعميقة، لهذا أعطانا فرصة إصلاح أنفسنا والارتقاء بأرواحنا، فمنحنا نعمة التقمص، وربما أعطانا إياها ستة آلاف مرة، نعود فيها إلى عالم الأرض لنتغلب فى خلال هذه التقمصات على ضعفنا البشرى، ارتقاء بأرواحنا لنبلغ جنة النعيم، ففى خلال هذه التقمصات ممكن لأى بشرى أن يحسن سلوكه خلال دوراته الحياتية وتكرار ذهابه وإيابه.

هذه تقريبا النقطة الفاصلة فى «الداهشية».

لكن الدكتور داهش كان يمتلك رؤية غامضة بعض الشىء عن ماهية الكون.

سأله أحد أتباعه: هل ينبغى إيلاء أمر الخلق على أنه رغبة الله فى تجربة نفسه، رغبة الله فى رفقة، أو رغبة الله فى التعبير عن نفسه؟

فأجابه داهش: فى الحقيقة لا أحد يعلم ما الهدف من خلق الكون، وما هو فيه.

هذه النظرة تحديدًا هى التى تجعلنى أضع الدكتور داهش فى خانة المفكر أو الفيلسوف، وهى التى جعلت أحد أخلص أتباعه يحدد ماهيته عنده.

يقول: إننا لا نؤمن به إلهًا، بل نؤمن بأنه هاد من الله، طبقا للآية القرآنية الكريمة «ولكل قوم هاد».

لا أعرف لماذا أطلق سامح الجباس على روايته اسم «رابطة كارهى سليم العشى»؟ 

كان الأولى به أن يسميها «رابطة محبى سليم العشى»... فنحن لا نجد على طول الرواية إلا إيمانًا وتصديقًا واقتناعًا بالدكتور داهش، بل إن بطلة الرواية فاطمة التى تصطحب الروائى الشاب إلى بيروت ليكتب روايته عن نبى القرن العشرين كما يطلقون عليه، ما فعلت ذلك إلا من أجل أن تحل روحه فيه.

لكن الحالة الإبداعية عند سامح الجباس تظهر لى من محاولة ربط الدكتور داهش بمفكرين مصريين وضع صورهم على الغلاف هم يوسف السباعى ونجيب محفوظ وتوفيق الحكيم ويوسف إدريس ويوسف وهبى.

لا يوجد دليل تاريخى موثق على أن داهش الذى زار مصر أربع مرات الأولى فى العام 1931 وتم تقديمه على أنه منوم مغناطيسى شهير، والثانية كانت فى العام 1971، والثالثة فى العام 1980، والرابعة فى العام 1981.

لكن يمكننا أن نقرأ ما سجله الروائى الشاب هنا.

يقول: هناك ملاحظات غريبة أثارت انتباهى، وأطارت النوم من عينى:

أولاً: كان الدكتور داهش فى مصر وفق ما نشره فى كتاب الرحلات الداهشية – الرحلة الرابعة: أثينا / ليبيا/ مصر 1971. ثانيًا: نشر نجيب محفوظ قصته الغريبة أيضًا بين مشواره الأدبى بعنوان «حكاية بلا بداية ولا نهاية» عام 1971، وتدور أحداثها حول جيل جديد من الشباب يتمرد على تقاليد إحدى الطرق الصوفية، ويواجهون رئيس الطريقة، هل تمثل القصة تمرد الدكتور داهش وتابعيه على تقاليد المسيحية الكنسية؟

لاحظ فى القصة أن هناك متمردًا يقود مجموعة من الأتباع المخلصين لأفكاره.

ثالثًا: نشر أديب نوبل روايته الملحمية «الحرافيش» عام 1977، وفيها شخصية غريبة جدًا على عالمه فى الحكاية السابعة، وهى جلال صاحب الجلالة، وفيها يقرر جلال أن يتحدى الموت، وأن يكون خالدًا بطريقة غير مألوفة للناس، أفكار بطل هذه القصة غريبة عن الموت والحياة وخلود الروح، وهى الموضوعات التى أثارها الدكتور داهش فى كتبه.

رابعًا: فى العام 1980 نشر الدكتور داهش كتابه «المهند الباتر» وفيه يهتك أستارًا عن الحياة البشرية فى شقائها وبطلانها ومثالبها، وينكل بالخونة والطغاة الذين قاسى منهم ما قاسى، وينصر الحق والعدالة والفضيلة فى زمن اضطربت فيه الموازين والقيم.

وفى العام 1983 تحول المسار الإبداعى لنجيب محفوظ فنشر روايته «أمام العرش» يحاكم فيها حكام مصر بشكل مباشر وصريح على عكس ما عرف عن أديب نوبل من حذر.

خامسًا: فى العام 1980 نشر الدكتور داهش كتابه «مذكرات يسوع الناصرى، وجاء فيه: تطرح حياة السيد المسيح – النبى المثير للجدل – حتى بلوغه الثلاثين تساؤلات جمة: كيف قضى طفولته وصباه؟ كم مكث هو ووالده فى مصر ومن آواهم فيها؟ هل تلقى يسوع الفتى علومًا؟ وهل صنع معجزات قبل معجزته فى قانا الجليل؟ وهل كان له أشقاء وشقيقات؟ هل بشر بشىء من تعاليمه قبل إعلان رسالته؟ وهل اقتصرت على ما ورد فى الأناجيل الأربعة؟ أم أن منها ما ظل فى طى الكتمان؟ ثم إنه مات فى ظروف اختلف فيها المسيحيون والمسلمون؟

وفى عام 1985 ينشر نجيب محفوظ روايته الفرعونية الأخيرة «العائش فى الحقيقة» عن قصة الفرعون المصرى المثير للجدل إخناتون، الذى مات شابًا فى ظروف غامضة، وفيها يبحث فى تاريخ أسرته، وموقفها من دعوته، ويثير الأسئلة حول ظروف موته الغامضة.

وتكشف الرواية ما يمكننا اعتباره لغزًا أدبيًا وتاريخيًا، ففى رواية «المرايا» التى كتبها نجيب محفوظ فى العام 1970 تحدث عن شخصيات متعددة تربطهم مصائر الجيرة أو السياسة إلا شخصية واحدة، تبدو غريبة وسط هذا الحشد من الشخصيات، حتى اسمها يبدو غير مألوف « سابا رمزى» وتأتى قصته وهى أقصر حكاية فى الكتاب فى صفحة 115 فى ثلاث صفحات فقط.

يعلق الجباس على هذه الحكاية بقوله: كنت أقرأها وأضع خطوطًا تحت الكلمات التى تشير إلى الدكتور داهش، وتأملوا معى غرابة الاسم الذى لا تجده فى الشعب المصرى، ثم إنها القصة الوحيدة التى ليس بها أحداث سياسية، وقد أشار فيها نجيب إلى العداوة للكنيسة وتغيير المذهب كما فعل داهش، فهل كان نجيب محفوظ يعرف داهش شخصيًا؟

تشير الرواية كذلك إلى قصة يوسف إدريس بيت من لحم.

يقول الجباس: وقصته بيت من لحم التى نشرت عام 1971 (لا تنسوا أن الدكتور داهش كان فى مصر هذا العام) ، ولاحظوا العنوان، وفكروا فى ذكاء يوسف إدريس ذى اللؤم الفلاحى، بيت من لحم «بيت... لحم»، لقد ولد الدكتور داهش فى بيت لحم، وما أن قرأت الصفحة الأولى من القصة حتى طالعتنى الصدمة: فى الظلام أيضًا تعمى العيون، الأرملة طويلة بيضاء ممشوقة فى الخامسة والثلاثين، بناتها أيضًا طويلات فائرات، لا يخلعن الثوب الأسود بحداد أو بغير حداد، صغراهن فى السادسة والعشرين وكبراهن فى العشرين.

فى حياة داهش كانت هناك مارى حداد وبناتها الثلاث.

يقول الجباس: أنت تصف مارى حداد وبناتها الثلاث يا يوسف، لماذا أظهرتهن يمارسن الفجور مع الأعمى؟ وتذكرت ما قالته زينا حداد من تشنيع الصحف اللبنانية على الدكتور داهش، واتهامها له بأنه أوقع البنات الثلاث فى حبه.

أما عن توفيق الحكيم، فيقول الجباس: كانت الروح هى قضية داهش الأولى، ومن الغريب أن توفيق الحكيم كان قد نشر سلسلة من المقالات استمرت منذ 1946 إلى عام 1951، بعنوان عصا الحكيم وفيها مقال بعنوان «قوة الروح» كتب فيه الحكيم ما يلى: قالت العصا: هل تعتقد حقًا أن الروح يمكن أن يكون لها أثر فعلى فى مجتمع ما، وأن القيم الروحية يمكن أن تكون مصدر سلطة يحسب لها حسابها فى بلد من البلاد؟

قلت: أومن بذلك كل الإيمان، على شرط أن تتحلى الروح بنورها وحده، لا ببرق زينة مادية، وأن تعتمد القيم الروحية على جوهرها وحده، لا على مظاهر قوة دنيوية، إن اليوم الذى نستطيع فيه أن نجعل الناس يشعرون بوجود سعادة خفية ليس مبعثها المادة، وأن نجعل المجتمع يشعر بوجود فرد أو جماعة يستمدون هيبة وقوة وجلالًا من مجرد قيم معنوية عارية عن المال والجاه، لهو اليوم الذى يمكن إقناع الناس بوجود الروح.

وطبقًا لبحث الجباس، فلم يكن توفيق الحكيم هو الأديب المصرى الوحيد الذى كتب عن التقمص، ففى عام 1953 بعد انتهاء أزمة داعش فى العام 1952 بخروج بشارة الخورى من الحكم ونهاية عصر اضطهاد داهش وأتباعه، ينشر يوسف السباعى روايته «البحث عن جسد» وهى رواية غريبة عن عالم السباعى الرومانسى، وفيها البطل يموت ويقابل عزرائيل فى السماء ويفاجأ بأن عزرائيل يطلب منه أن تعود روحه إلى الدنيا لتحل فى جسد آخر.

يشير سامح الجباس إلى كتاب لطفى رضوان رئيس تحرير المصور عن «معجزات وخوارق الدكتور داهش»، والكتاب الذى يضم الرسائل المتبادلة بين داهش والدكتور محمد حسين هيكل، وصورة يوسف وهبى التى وجدها فى إحدى غرف داهش التى يطلقون عليها غرفة الوحى، وهى الصورة التى وجد مكتوبًا أسفلها: السيد الدكتور داهش العظيم، إلى زعيم روحانى، شخصية من أحب الشخصيات التى شاهدت منها ما جعلنى أومن بقدرة المولى على منحه المواهب الجبارة لمن يشاء، أدعو له بطول العمر لخدمة الناس والإيمان.. والتاريخ 29 مارس 1970.

حاول سامح الجباس أن يخلق علاقة بين عدد من المفكرين والأدباء وبين الدكتور داهش، بل حاول أن يوحى لنا أنه كان ملهمهم، بل الأكثر من ذلك حاول أن يوحى أنهم كانوا من أتباعه، يقرر هو أنه كان هناك 35 مصريًا يؤمنون بالداهشية. 

فهل كان محفوظ والحكيم والسباعى وإدريس ويوسف وهبى ومحمد حسين هيكل من أتباع داهش؟

وإذا كانوا كذلك فلماذا لم يعلنوا ذلك؟

أعتقد أن الأمر كان وسيظل لغزًا كبيرًا.