الخميس 28 مارس 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري

كنوز آمال العمدة.. الشيخ الباقورى أنا من أسرة «قليلة الحاجات»!

لم يسع للشهرة، بل عالج قضايا الدين فى كل منصب تولاه وهو يضع نصب عينيه مصالح دينه، وبلاده دون النظر لصالحه الشخصى.. وكانت قناعته وترفعه عن المناصب سبباً فى سعى هذه المناصب إليه، وفى معالجته لقضايا الدين بشجاعة غير عابئ بلوم اللائمين.



وهذا نص الحوار النادر الذى تنشره مجلة «روزاليوسف»

 

إذا صلحت هذه البيئات الثلاث 

لأخرجت مواطناً صالحاً

آمال: الشيخ أحمد حسن الباقورى.. ما هو صمام الأمان من طغيان القيم المادية على النفسية العالمية والوجدان العالمى ككل لا سيما الوجدان العربى والمصرى والإسلامي؟

الشيخ الباقورى: الأساس الحقيقى الذى لا نظير له هو الاقتناع بالعقيدة، وأن الله تعالى عادل، وأن عدله – سبحانه وتعالى – يتمثل فى أنه لم يخلق الناس عبثاً، وأنه لا بد أن يجازيهم على أعمالهم فى يوم محتوم، إن خيراً فخير وإن شراً فشر، وأى إنسان فى أى عصر وفى أى بيئة لا يؤمن بالثواب والعقاب لا تنتظرى منه عملاً مثمراً، فضلاً عن تغلب روحانيته على ماديته، فلا بد أن نجتهد فى إقناع الأجيال الصاعدة رجالاً ونساءً وبنين وبنات بنظرية أن يوم القيامة لا بد أن يجىء، أولاً.. احتراماً للنواميس الطبيعية، وثانياً انتظاراً لعدالة الله فى خلقه. وهناك حديث لرسول الله صلى الله عليه وسلم يقول فيه «إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه»، حتى إنه تجاوز الإحسان فى العمل إلى العمل الذى لا يقع فى الذهن أن يكون فيه إحسان وهو القتل أو الذبح «فإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة.. وإذا قتلتم فأحسنوا القتلة»، فالإحسان مطلوب فى كل شىء حتى فيما تنفر منه الأنفس.

آمال: كيفية تسييد القيم الروحانية والبعد عن المادية عند طلائعنا وأطفالنا وشبابنا.. هل يبدأ من البيت أم من المدرسة أم من المفكرين فى أحاديثهم التى يدلون بها الناس؟

الشيخ الباقورى: هى صور ثلاث.. أخذ بعضها برقاب بعض، البيت والأب والأم فيهم القدوة، ثم المدرسة فالناظر والأستاذ والأستاذة فيهم قدوة، والبيئة العامة وولى الأمر ومعينوه، وإذا صلحت هذه البيئات الثلاث لأخرجت مواطناً صالحاً.

آمال: إذن أين تكمن الثغرة.. أفى الأم التى قد لا تكون معدة لأن تكون أماً، أم فى المدرسة وفى غياب مساحات، ومكتبات كانت تعلم الأطفال الكثير.. أم فى أى شىء؟

الشيخ الباقورى: هناك حقيقة ينبغى أن نقف عندها وهى أن الحياة ذاتها بتقدم العلم فيها، كثرت حاجات الناس، وهو ما جعل كل من يعيشون فى أى بلد يتغالبون ويتنافسون لإرواء ظمئهم فى التعالى على الناس، ولكى يأخذ كل واحد وضعاً يكون فيه سيداً بينه وبين نفسه، وأيضاً بينه وبين الناس وهى صفة الأنانية التى غلبت الآن على الروح، لأن الروحانية تجعل الإنسان يقنع بشىء ما، أما المادية فتتطلع إلى الكثرة، ونحن نظلم الإنسان إذا اتهمناه بها فى ذاته، لكن تقدم البشرية تقدماً علمياً وحضارياً، وتعدد حاجاته وكثرة مطالبه هى التى كان من شأنها أن تحمل الإنسان على أن يغلب معناه المادى على معناه الروحى.

آمال: إذن كيف نصحح ذلك.. هل بإتاحة مساحة للرتبية الروحية درءاً لكل ما من شأنه أن يفسد نفوس الطلائع والشباب؟

الشيخ الباقورى: لا بد أن يتلازم العلم مع التربية، وأن تكون هذه التربية قائمة على العقيدة وعلى تنمية الإخاء بين الناس، وعلى أن يتفاضلوا بمقدار ما يحسنوا من أعمال.

فالإنسان سواء كان رجلاً أو امرأة فى البيئات المختلفة البسيطة كالبوادى يعيش حياة فى غاية اليسر، فيقفز على فرسه ومعه رمحه ويخرج ليعيد ويشوى ما يصيده على النار ويأكله، فليس هناك مظهرية فى حياته، وبالتالى يصبح الإنسان أكثر قرباً من الله، وأكثر حباً وقناعة فيما بينه وبين الناس.

ومن هنا فإن موضوع التربية الروحية قد يكون له أحسن الآثار فى عدم التهالك على المظاهر، ومن ثم فى عدم الإقبال على إرضاء المعانى المادية إقبالاً كاملاً، ولذلك فالإصلاح الحقيقى لا بد أن يقوم على ثلاثة أصول، هى المنهاج وهو طريق رسم الخطة، والندوة الذى يلتزم بهذا المنهاج، وناس اتباع للندوة يلتزمون معه بالمنهاج، وكل الدعاوى التى نجحت لم تنجح إلا على هذه الأصول الثلاثة. والمثل على هذا هو الزعيم الهندى غاندى،  وهو مثل لا ينبغى أن يغيب عن كل إنسان مسئول عن بلد أو حتى عمدة فى قرية.

الدين هو الدستور والتدين 

هو اللوائح التنفيذية

آمال: إذا وقفنا وقفة عند الدين بمفهومه العميق والتدين.. فأنا أعلن أن التدين موضوع حبيب إلى نفسك.. فما مفهومه لديك؟ وهل هو الطقوس أم أنه العلاقة بين الإنسان وربه ولا ينبغى أن يمسها أحد؟

الشيخ الباقورى: الدين هو النظرية التى تدعو إلى أوضاع معينة، تنهى عن أوضاع غير سليمة وتأمر بالتزام أوضاع سليمة، وهذه الصورة تسمى الدين، أما تطبيقها فهو التدين، كاللوائح التنفيذية والدستور، فالدين كالدستور، والتدين هو اللوائح التنفيذية، أى تصوير المعنى النظرى فى أمر مادى يراه الناس بأعينهم ويسمعونه بآذانهم ويلمسونه بأيديهم، فالدين نظرية عامة والتدين تطبيق النظرية العامة على الأفراد.

آمال: هناك اجتهادات كثيرة فى تفسير بنود أى دين أو طقوس أى دين، ومن المؤكد أنك قرأت التغير العلمى للقرآن، فالاجتهاد فى هذه التفسيرات إلى أى مدى يخدم الدين والعقيدة؟

الشيخ الباقورى: البيئات متغيرة وفى تطور مستمر، وما يحتاج إليه الإنسان فى العصر الحاضر قد لا يحتاج إليه بعد مائتى سنة، وما يكون صورة للحياة منذ 14 قرناً لا يمكن أن يكون صورة للحياة اليوم، وهنا الذى يحل هذا الإشكال هو الاجتهاد، والاجتهاد أصل فى الإسلام، مع أن هناك أصولاً لا يختلف أهل الديانات عليها، فالأصول خمسة ولو أخذنا منها قانوناً، فإن هذا القانون يرضى عنه المسلم والمسيحى واليهودى،  وهذه الأصول الخمسة يسميها أهل الأصول فى الإسلام الكليات الخمس، وهى احترام النفس فلا يجوز الاعتداء على النفس إلا فى حدود القانون، واحترام المال، فلا يجوز الاعتداء على المال والملكية فى صورة من الصور، واحترام النسب فلا يجوز الاعتداء على النسب وإدخال ولد على أسرة ليس منها، واحترام العقل فالمخدر والمسكر حرام فى كل دين، ثم احترام الدين فالعدوان على شعائر الدين سواء كانت إسلامية أو مسيحية أو يهودية اعتداء يرفضه محمد وعيسى وموسى وجميع رسل الله.

وإذا أخذنا قوانيننا من هذه الكليات الخمس، فماذا يريد الإنسان بعد ذلك؟ إذا رأى أنه مصون فى نفسه وماله وعقله وعرضه ودينه فى هذه الدنيا.

آمال: لكن سيادتك مع الاجتهادات حتى مزج التفسيرات أو النصوص بالعلم…

الشيخ الباقورى: نعم.. طبعاً فكل شىء قابل للاجتهاد.

آمال: إذن ماذا أضاف العلم على هذه الأسس الخمسة التى تحمى أى إنسان؟ وماذا يريد إنسان العصر من العلم إذا اجتهد فى مزجه بأكثر من هذه البنود الخمسة التى ذكرتها؟

الشيخ الباقورى: تيسير الأسس للظفر بهذه الأصول الخمسة، فمن الممكن أن يصل العلم الآن إلى الإقناع بأن الحياة الآخرة أمر ممكن، والعلم الحديث يستطيع أن يقنع بأن السلم خير من الحرب، لأن الناس رأوا أن الحرب التى يفترض العالم أنها ستوجد إذا وجدت انتهى أمر هذه الدنيا نباتاً وحيواناً وإنساناً، فالعلم شارك فى تأصيل العقيدة، وتزكيتها وإقناع الناس بها.

آمال: لكن فى الماضى كان الناس يأخذون الأمور الدينية والروحية كقضية مسلمة، لكن إنسان العصر الحالى يحتاج إلى منطق لإقناعه بالتمسك بالدين…

الشيخ الباقورى: هنا تجيء مهمة رجل الدين، فعليه أن يطوع المبادئ والمعانى التى يريد أن يبثها فى نفوس الشعب لمصلحة هذا الشعب، والإنسان متطور على أن يأخذ من المبادئ بمقدار ما يسعده، فكل ما يمكن أن يعين الناس على الأخذ بقواعد الدين هو فى الحقيقة أمانة فى أعناق القائمين بشئون الدين فى الإسلام وفى غير الإسلام من سائر الديانات.

آمال: وهذا يقودنا إلى دور الواعظ وإمام المسجد المعاصر، كيف ترى مهمة الواعظ كمهمة.. ما خطورتها.. وما وزنها؟

الشيخ الباقورى: الواعظ والإمام وكل إنسان يملك لساناً أو قلماً هو يملك من أمر أمته وشعبه ما يسعده إن شاء، وما يشقيه إن شاء، وهذا على مر القرون، وليس هذا عندنا فى الشرق فقط، بل فى الغرب كذلك، ففى يد رجل الدين أن يشقى وأن يسعد فإذا اتجه اتجاهاً صحيحاً أسعد، وإذا اتجه اتجاهاً مخطئاً يشقى، ولذلك كان علينا أن نعد الداعية إلى الله إعداداً سليماً ممن شأنه أن يدعو إلى إسعاد الناس فى دنياهم لأن الحياة الدنيا مطية إلى الآخرة، فإذا سعد الإنسان فى دنياه استطاع أن يتدين تديناً صحيحاً يعينه على السعادة فى أخراه.

آمال: أى تكون الحياة فيها السكينة المطلقة وهى المدخل إلى الراحة الأبدية..

الشيخ الباقورى: هذا صحيح تماماً..

آمال: لقد قلت لى فى يوم إن المساجد فى الماضى كان يلحق بها مكتبات لتثقيف الشباب والطلائع وراغبى التعرف على الدين، واليوم تفتقد الجوامع ودور الدين والتعبد إلى مثل هذه المكتبات.. ألا تزال تؤمن بهذا الرأى؟

الشيخ الباقورى: أنا لا أزال عند رأيى،  وأعتقد أن هذا مما ينبغى أن يكون المهمة الأولى لرجل الدولة أن يمد كل الأماكن العامة لا سيما دور التعبد التى يكون فيها الإنسان صافى النفس بالمكتبات ووسائل الثقافة، لأن الإنسان كلما جلس فى مكان يرى فيه الناس معلقة قلوبهم بالله يكون فى هذا المكان أقرب إلى التدين منه فى أى مكان آخر بعيداً عن هذا الجو، مما ساعد على زيادة إقباله على هذه الوسائل الثقافية.

آمال: فأنت إذن تدعو أن تلحق مرة ثانية المكتبات بدور التعبد..

الشيخ الباقورى: نعم على أن يكون كل من يعمل فى المسجد شاعراً بأن من حق الشعب عليه أن يدرس له هذه الكتب، حتى يكون المسجد مدرسة ذات ألوان شتى من المعارف.

ينبغى للمسلم أن يحدد النسل

آمال:  فضيلة الدكتور أحمد حسن الباقورى.. إذا تحولنا إلى قضية تؤرق مصر اليوم ومصر الغد، وهى قضية الكثافة السكانية.. ما موقع الدين من الكثافة السكانية فى بلادنا؟

الشيخ الباقورى: اتفقنا وسنتفق دائماً على أن الأسرة كلما قل عددها كانت أقرب إلى قبول التربية الصحيحة من الأسرة التى تكثر أعدادها، فالإنسان أقدر على تربية واحد منه على تربية اثنين، ومنه على تربية ثلاثة وأربعة، وهذه حقيقة بالنسبة للماديات والروحانيات جميعاً خاصة الخدمات كالمستشفيات والمدارس وحاجات الناس فى البيئة التى يجتمعون فيها، والحديث عندنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «مروا أولادكم بالصلاة لسبع.. واضربوهم عليها لعشر، وفرقوا بينهم فى المضاجع» ومن أدب الإسلام أن يكون لكل ولد فراش، فذلك هو أصون لعلاقات طيبة بين الناس ولسلامة الأخلاق فى الأسرة، وهذه القضية وحدها تكفى للدعوة إلى التقليل من النسل.

آمال: كيف يمكن لرجال الدين أن يساعدوا فى هذه القضية من أجل أن تنحسر مشاكل مصر فى غدها القادم؟

الشيخ الباقورى: فقهاء الإسلام الذين يعتبرون فى الصفوف الأولى من الفقهاء والذين لا يشك أحد فى حسن تدينهم وصدق إيمانهم وسعة مداركهم وفى مقدمتهم حجة الإسلام الغزالى فى كتابه «إحياء علوم الدين» قرر أنه ينبغى للمسلم أن يحدد النسل إذا خشى على امرأته من أن كثرة حملها يفسد ما بينه وبينها من حسن العلاقة، أو إذا خشى عليها المرض، وأنا كتبت كتاب «الأسرة فى الإسلام»، وقررت فيه كل هذه المعانى،  وقلت فيه إنه إذا خشيت المرأة على رشاقتها من كثرة الحمل جاز لها أن تحدد نسلها.

آمال: ونحن نتحدث عن أشياء تتجاوز الشكليات والمظهرية لدى المرأة، فالكثافة السكانية تهدد أمة، لهذا فمن المفروض أن يتجاوز هذا الموضوع مظهر المرأة إلى أن تشعر بمسئوليتها تجاه دولتها..

الشيخ الباقورى: إذا قلنا إنه يجوز للأسرة لهذا المعنى الظاهرى أن تنظم الأسرة فمن باب أولى إن كان تنظيم الأسرة مترتب عليه مصلحة الأمة كلها، فمن باب أولى أن تنظم الأسرة.

آمال: وكتابك عن الأسرة فى الإسلام على ماذا تقوم فلسفته؟

الشيخ الباقورى: فلسفته تقوم على كل ما يتصل بالمرأة والزوجة والزوج والولد.

ليلى وعزة ويمنى بناتى

آمال: كم عدد أفراد أسرتك؟

الشيخ الباقورى: لى ثلاث بنات هن ليلى وعزة ويمنى، والحمد لله تزوج الثلاثة، وأنا الآن أحيا مع زوجتى أكرمنى الله بها وأكرمها الله بى.

آمال: ليلى وعزة ويمنى كم عدد أطفالهن؟

الشيخ الباقورى: ليلى لديها عائشة وأحمد وعمرو، وعزة لديها أيمن ويمنى، أما يمنى فلديها أحمد ويسرا وطارق ومحمود، وهى خرجت عن القاعدة بإنجابها أربعة أطفال.

آمال: هناك آية تقول «المال والبنون زينة الحياة الدنيا»…

الشيخ الباقورى: هناك فطرة إنسانية يرعاها القرآن دائماً، ولا شك أن الإنسان قليل بنفسه، كثير بأولاده، وأولاده ينقسمون إلى قسمين، الأول قسم ضعيف يحتاج للرعاية، وقسم يحتاج إلى أن يرعى. فالأب مسئول عن بناته ولكنه غير مسئول عن أبنائه لأنهم قادرون على العمل، لذلك كان الأبناء زينة الحياة الدنيا مع وجود المال حيث إنهم يكونون عصبة للرجل، فيدافعون عنه ويعلون من ذكره، والبلاد التى تنسب إليها الحضارة لا يزالون حتى الآن يعتزون بالولد الذكر ويقولون إنه يحمل لقب الأسرة فى استمراريتها ولكن البنت لا تحمل لقب الأسرة.

التصوف شعار حياتى

آمال: السماحة والفهم والبحث والتعمق من سمات فضيلة الأستاذ الدكتور أحمد حسن الباقورى.. وربما تلخص هذه العبارة مشوار حياتك وما تؤمن به فى حياتك، فهل يمكن أن تعرفنا بينابيعك الفكرية التى استمددت منها هذا الإمان بالسماحة والفهم والبحث والتعميق؟

الشيخ الباقورى: هناك أربعة أمور، أولها: إننى من أسرة قليلة الحاجات فى بلدى باقور، وهى أسرة وافدة من شمال المغرب الأقصى، وجاءت هنا منذ مائة وخمسين عاماً والمغرب طوال عمره يعيش متصوفاً، وحين جاء والدى أخذ الطريقة الصوفية، وكان لديه زهد فى اقتناء الأشياء والانتفاع بها والتعالى بها على الناس، فكلما كثرت الحاجات انخفضت درجة الروحانيات، وكلما قلت الحاجات كان الإنسان أقرب ما يكون إلى استرضاء روحه.

آمال: هذا أول ينبوغ فكرى هو التشبع والاكتفاء الذاتى والزهد…

الشيخ الباقورى: هذا صحيح، أما الينبوع الثانى فهو وراثتى عن أبى الطريقة، وكان مريداً للطريقة الخلوتية، والمتصوفون دائماً فيهم تسامح ويعطف بعضهم على بعض، وأى شخص يعيش بينهم فلا بد أن يكون كأحدهم ويتسم بروح الجماعة والتواضع وعدم الكرباء، حتى قال أحدهم:

ما لذة العيش إلا صحبة الفقراء

هم السلاطين والسادات والأمراء

فالزمهم وتأدب فى مجالسهم        وخلى حظك مهما قدموك وراء

والينبوع الثالث هو دراسة القرآن على ضوء التطبيق العملى له فى سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالقرآن عندى كالدستور، وسيرة النبى صلى الله عليه وسلم هى التطبيق كاللوائح التنفيذية لهذا الدستور، حتى قالت زوجة الرسول عائشة تصف زوجها «كان خلقه القرآن» وهذا يعنى أنه هو الصورة التطبيقية العملية للقرآن الكريم. أما الينبوع الرابع فهو التجارب الفردية نتيجة السياحة فى أرض الله والاختلاط بأصناف كثيرة من الناس، وكلما ازدادت علائق الإنسان بعالم متباين اتسع فكره واتسعت أخلاقه نتيجة اتساع معارفه وتجاربه، فالتجربة الطويلة منضمة إلى هذه المعانى تخرج لنا هذه الصور الأربعة أو الينابيع الأربعة لوجود الإنسان سواء كان إنساناً طيباً أم غير طيب.

آمال: ماذا تعلمت من الحياة؟

الشيخ الباقورى: تعلمت من الحياة أشياء كثيرة جداً، على سبيل المثال تعلمت منها أن يعامل الإنسان الناس بأخلاقهم هم وليس بخلقه هو، ذلك أنه لو أراد أن يعاملهم بأخلاقه هو فربما يكون أرقى منهم فيشقى، أو أقل منهم فيشقيهم، لكن حينما يتعامل معهم بأخلاقهم فيكون معهم سواء، ويعيش معهم على طريقتهم وعلى ما ينفعهم ويفيدهم ويقنعهم.

وتعلمت من الحياة أيضاً أنه ما دام ليس لى سلطان على الناس أرغمهم عن طريقة بإطاعة أمرى فأكون لهم صديقاً أكثر مما أكون لهم سيداً.

آمال: يذكرنى كلامك بعبارة قرأتها قال كاتبها «أنا ملك بالاستغناء».. فهل تعنى هذا؟

الشيخ الباقورى: أنا لا أعنى الاستغناء لأن الإنسان مدنى بطبعه ولا يمكن أن يستغنى، فلقد خلقنا الله كل واحد يحتاج للآخر، وهذه الحالة ضرورية للسعادة وللمصلحة وسعادتنا متوقفة على التعارف والتآلف والتحاب والتواصل، ولكى يدوم هذا فإما أن يكون الإنسان صاحب سلطان على الناس فإذا تواضع لهم مع سلطانه فسيكون أحب إليهم وأفضل لهم، فإذا لم يكن له سلطان عاش معهم مواطناً له ما لهم وعليه ما عليهم، وهذه حقائق تعلمتها من الحياة منذ مولدى.

آمال: ما هى مناصبك التى تعددت خلال فترة عمرك؟ ومحطات حياتك التى توقفت عندها؟

الشيخ الباقورى: أنا انتفعت جداً من وجودى مدرساً فى المعاهد الأزهرية، أدرس البلاغة العربية والأدب العربى،  وحاولت أن أتعلم اللغة الفرنسية فى مدرسة بالغورية، لكنى فشلت حيث وجدتها لغة رقيقة جداً لا يجوز للصعيدى أن يتعلمها.

ثم عينت وكيلاً لمعهد أسيوط فوكيلاً لمعهد القاهرة، ثم أستاذاً فى الجامعة، بعدها عينت شيخاً لمعهد المنيا فى البلاد بين بنى سويف وأسيوط فى أواسط الصعيد، ومن هذا المنصب اختارتنى الثورة فى 9 سبتمبر عام 1952 وزيراً للأوقاف، وتدرجت من وزارة الأوقاف فى مصر الملكية، إلى وزارة الأوقاف فى مصر الجمهورية، ثم إلى وزارة الأوقاف المركزية فى الجمهورية العربية المتحدة، ثم أستاذاً فى معهد الدراسات ورئيساً لجمعية الدراسات ثم رئيساً عاماً لجمعيات الشبان المسلمين العالمية.

وفى كل هذه المراحل انتفعت بلا شك بالناس أكثر مما نفعت وقدمت لهم من فوائد.

آمال: ولكن ما هى أقرب هذه المحطات إلى قلبك؟

الشيخ الباقورى: منصب المعلم لأن الإنسان أقدر ما يكون فيه على الصحبة الهنيئة والإفادة من الناس وإفادة الناس عندما يكون معلماً.

من لا يحمل هم المسلمين فليس منهم

آمال: كيف ترى دور المفكر فى بلده؟ وهل يقدح ذهنه فقط ليفكر لمجتمعه ثم يترك الباقى للمنفذين.. أم يشارك فى عملية التنفيذ أيضاً؟

الشيخ الباقورى: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من لم يحمل هم المسلمين فليس منهم»، حَمْل همهم أى أهتم بشأنهم وأشارك فى توفير الخير لهم ودفع الشر عنهم، والرسول هنا يقول إن المسلم دعوته للإسلام، لكن لا بأس أن يقاس على هذا من لم يحمل هم مصر، فهنا لا يكون من المصريين، فإذا أراد المفكر القادر على الإنتاج أن يحبس نفسه على الفكر والاستمتاع بفكره فهو رجل أنانى.

آمال: وبالتالى فأنت تنزع عنه صفة المصرية..

الشيخ الباقورى: نعم فما قيمته إذا كان إنساناً يعيش عالة على المجتمع؟

آمال: إذن المفكر يجب أن يتدفق فكره ومشاركه..

الشيخ الباقورى: نعم ويوجه ويبذل من نفسه لشعبه وأمته.

آمال: السيرة الذاتية لفضيلة الدكتور أحمد حسن الباقورى تدلل على أنك أنموذج كالذى تفضلت بعرضه..

الشيخ الباقورى: يجوز نتيجة ظروف معينة، وليست نتيجة تفكير سابق فى أن أعمل كذا أو كذا.

آمال: إذن فهل تؤمن بالقدرية.. وبأنك كنت مُصيراً وليس مُخيراً فى حياتك؟

الشيخ الباقورى: قطعاً.. والاختيار الذى أتيح لى أن الله أعطانى جزءاً أعرف به الحق والباطل والخير والشر.

آمال: إذن فقد حكمت القدرية مسيرة حياتك وعطائك؟

الشيخ الباقورى: وتحكم مسيرة عطاء كل عباد الله فى حدود أنه لا يكون كالريشة فى مهب الريح، بحيث يكون له نوع من الاختيار، لأنى حينما أخطئ لا أشعر قط بأن هناك من أكرهنى،  بل أنا الذى أفعل ذلك وهذا هو الجزء الاختيارى،  فالاختيار هنا فى الخطأ أو فى الصواب، فالإنسان لا يقدم على الصواب إلا بعد أن يفكر ويوازن ويقارن ويستنتج أن فيه خيراً لنفسه.

هذا ضد المنطق وضد الطبيعة 

وضد الفطرة

آمال: هل توافقنى على أن فى مصر سوء توزيع سكانى أكثر من الكثافة السكانية؟

الشيخ الباقورى: مصر فيها الصنفان معاً، ففيها سيل منهمر من النسل وبهذا يضيق البلد ويضطر من فيه إلى الهجرة، وأنا لا أحرم الهجرة، ولكنى أحرمها على من ينفعون غير بلدى،  ويضرون ببلدى،  أما لو كان يمكنه أن يعطى لبلده ولكنه يذهب للخارج فيصبح كمن تكون أسرته فى حاجة إلى طعام بينما يأخذ هو الطعام ليعطيه لإنسان آخر، وهذا ضد المنطق وضد الطبيعة وضد الفطرة.

آمال: وهل توافقنى على أن أمام الأجيال الحديثة رؤية يسودها بعض الضباب لتاريخ مصر الحديث والقديم؟

الشيخ الباقورى: هذا صحيح فيما يختص بتاريخ مصر الحديث، وقد كان فى القديم شيء من هذا، ولكن جاءت ظروف فتحت الطريق أمام الناس.

آمال: وماذا عن الحل؟

الشيخ الباقورى: الحل ألا ينغلق الناس على أنفسهم، وأن يلتمسوا أحسن السبل التى يرسمونها للشعب فى شئون دينهم وشئون دنياهم، وأن يحملوا عليها بالقدوة والقانون، أى الانتفاع الفكرى،  فلا القانون وحده ينفع ولا المدرسة وحدها تنفع، وإنما لا بد أن تجتمع ثلاثة أشياء هى القدوة والمنهاج الصالح وأتباع يؤمنون بالمنهاج ويحترمون القدوة.

آمال: هل توافقنى على أن التليفزيون سرق المهتمين بالكتاب، فتقلصت المساحات التى تفرد للكتاب حتى من اهتمامات أى إنسان معاصر؟

الشيخ الباقورى: نعم هذا صحيح وأوافقك عليه.

آمال: الدكتور أحمد حسن الباقورى.. بم سلحت بناتك من قيم ومفاهيم وتقاليد؟

الشيخ الباقورى: أنا لا أعمل أمامهن عملاً أعتقد أنهن يقتدين بى فيه، فإن أردت أن أسلك سلوكاً معيناً أنظر لمقدار أثر هذا السلوك عليهن، فإن كان خيراً أعلنته إليهن، وإن كان شراً تداريت وأمسكت عنه بينى وبينهن وأعلنته بينى وبين الناس.

آمال: هل حذرتهن من أشياء ونهيتهن عن أشياء بعينها؟

الشيخ الباقورى: نعم.. كان يحدث انطلاق إلى الموضة الحديثة، وأجد فيها ما يضرهن أو يضر علاقتهن بأولادهن، فأنهاهن عنه بلطف وإن لم تفهم وتستجيب أصارحها بعواقب الخطأ الذى توشك أن ترتكبه، لكن بناتى والحمد لله يرين فى أمهن خيراً كثيراً وقدوة إلى جانب أن البيئة التى انحدرن منها لها أفضل الأثر عليهن.

كل المناصب سعت إلىَّ ولم أسع إليها

 آمال: بأمانة تامة.. سنقف وقفة مواجهة مع النس.. متى أخطأت فى حياتك؟

الشيخ الباقورى: لا أحب أن أقول أخطأ إلا إذا فصلت، ولا أحب التفصيل فى مثل هذه الأمور لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول فى حديث صحيح «إن الله ستير يحب الستيرين، وأولى الناس بالستر ستر الإنسان على نفسه».

آمال: على ماذا ندمت؟

الشيخ الباقورى: ندمت على أنه فاتنى أن أكون فعلاً مدرساً أنعم بما ينعم به المدرس ولا أحتمل أى تبعات أو أثقال، فالأثقال التى احتملتها جاءتنى من المناصب الكبرى التى توليتها، وأنا تحملتها ويعلم الله أننى لم أكن عليها متهالكاً ولا متلهفاً، ولكننى لم أستطع الانفصال عنها.

وأنا أتذكر يوم دعيت لدخول الوزارة حيث دخلت قصر الوصى على العرش وأستأذنته فى الاتصال بالتليفون، واتصلت بصديق كنت أعتز بصداقته ورأيه، فقال إن بلدى تحتاجنى وإنه إذا شعرت بأن لديّ القدرة على سد هذا النقص فلا بد أن أقبل دون تردد وإلا كنت موضعاً لسخط الله فقبلت.

آمال: إذن فكل المناصب التى شغلتها فى حياتك سعت إليك ولم تسع إليها..

الشيخ الباقورى: يجوز أن أكون قد حرصت عليها أيضاً، فلا يمكن أن تكون قد سعت إلىَّ دون دعوة منى، فقد دعوتها ولكن بشرف والحمد لله.

آمال: فى جملة مفيدة أرجو أن تجيب عن سؤالى.. من هو فضيلة الشيخ الباقورى؟

الشيخ الباقورى: هو رجل من صعيد مصر، نشأ فى بلد فى صعيد مصر، فى أسرة قليلة الحاجات ذات صلة بعلوم الدين، فتعلم وسلك طريقة أبيه وجده وجد جده حتى بلغ ما بلغ إليه بفضل الله ونعمته.