الخميس 28 مارس 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري

تفاحة أدب نجيب محفوظ المحرمة.. «أولاد حارتنا».. «الجبلاوى» كلمة السر فى فتاوى إخراج «محفوظ» من الملة ومحاولة اغتياله

فتاوى بالردّة والخروج من الملة، طعنتان فى الرقبة، هذا بعضٌ مما جناه نجيب محفوظ؛ من وراء روايته الأشهر «أولاد حارتنا»، التى أثارت الجدل طوال سبعة عقود، وما زالت تطفو على السطح عند الحديث عن متلازمة الدين والإبداع، ليصفها البعض بـ«الرواية المحرمة»، وتكون وراء اتهام أديب نوبل بالكفر والزندقة، وتدور فى سلسال المنع والحجب لسنوات طويلة، حتى أفرج عنها فى الألفية الجديدة، لتصبح أيقونة إبداعية يتلهف القراء على اقتنائها، وتحصل أخيرًا على حقها نشرًا وانتشارًا، بعيدًا عن الأحكام المتشددة والفتاوى المضللة.



بنظرة فلسفية عميقة للحياة، وعين راصدة لمتغيرات الحارة المصرية عبر العصور، بدأ نجيب محفوظ حكايته، أو حكايتنا جميعًا؛ مثلما وصفها فى افتتاحية روايته الفريدة، ساردًا بدقة الكاتب المتمكن من أدواته، وروعة الراوى الملم بجميع التفاصيل، كل ما يريد القارئ معرفته عن قرب، بوصف لا يخلو من الخيال الجامح، محولًا كلماته إلى صوت وصورة، يصلان للأذن والعين بلا عناء، وكأننا نرى ما يحدث عن كثب، ونعيش بين الأبطال؛ متعاطفين تارة مع المستضعفين، ورافضين تارة أخرى للظلم والجشع، وهكذا نمضى بين صفحات الرواية، دون فقدان للشغف، حتى نصل لذروة الحدث؛ الذى ينقلنا لأحداث أجل وأعمق.

أصل الحكاية

«هذه حكاية حارتنا، أو حكايات حارتنا وهو الأصدق، لم أشهد واقعها إلا فى طوره الأخير الذى عاصرته، ولكنى سجلتها جميعًا كما يرويها الرواة وما أكثرهم، جميع أبناء حارتنا يروون هذه الحكايات، يروونها كما سمعوها فى قهوة حية أو كما نقلت إليهم خلال الأجيال، ولا سند لى فيما كتبت إلا هذه المصادر، وما أكثر المناسبات التى تدعو إلى ترديد الحكايات.. كلما ضاق أحد بحاله، أو ناء بظلم أو سوء معاملة، أشار إلى البيت الكبير على رأس الحارة من ناحيتها المتصلة بالصحراء وقال فى حسرة: هذا بيت جدنا، جميعنا من صلبه، ونحن مستحقو أوقافه، فلماذا نجوع؟ وكيف نضام؟!».

تلك الفقرة الاستهلالية للرواية كانت كافية لندرك العمق العابر للأجيال الذى تحمله «أولاد حارتنا»، إلا أن «محفوظ» أراد أن يزيد سطوره عمقًا واتساعًا، ليبدأ فى استخدام شخوصه التى ترمز للدين والعلم، ويتحدث عن «الجبلاوى»؛ الذى يمثل أصل حارتنا، وحارتنا أصل مصر أم الدنيا.. عاش فيها وحده وهى خلاء خراب، ثم امتلكها بقوة ساعده وبمنزلته عند الوالى، كان رجلاً لا يجود الزمان بمثله، وفتوة تهاب الوحوش ذكره.. هو فتوة حقًا، ولكنه لم يكن كالفتوات الآخرين، فلم يفرض على أحد إتاوة، ولم يستكبر فى الأرض، وكان بالضعفاء رحيمًا.

«الجبلاوى» لم يكن مجرد هذا الرجل، أو ذاك الفتوة، لكنه أيضًا كلمة السر فى الضجة التى أثيرت حول الرواية، والسبب فى فتاوى المتشددين بإخراج «محفوظ» من الملة، وكأنهم أرادوا أن يروا فيه رمزًا لله تعالى، حتى يصبوا غضبهم ومعه أحكامهم على الكاتب بلا بحث أو تدقيق، وهنا مربط الفرس، وسر الحرب الضروس على «أولاد حارتنا».

الحرب على الإبداع

الرواية أشعلت أزمة كبيرة مع بدء نشرها مسلسلة فى صفحات جريدة الأهرام، حيث هاجمها شيوخ الأزهر، وطالبوا بوقف النشر، ولكن محمد حسنين هيكل رئيس تحرير الأهرام حينئذ ساند «محفوظ»، لتنشر الرواية كاملة على صفحات الجريدة، لكن لم يتم نشرها فى كتاب، فرغم عدم إصدار قرار رسمى بمنع نشرها فإن الضجة التى أحدثتها كانت وراء الاتفاق بين الكاتب وحسن صبرى الخولى الممثل الشخصى للرئيس الراحل جمال عبدالناصر، بعدم نشر الرواية فى مصر إلا بعد أخذ موافقة الأزهر، فطبعت الرواية فى لبنان من إصدار دار الآداب عام 1967 ومنع دخولها للقطر المصرى، لكن نسخًا مهربة منها وجدت طريقها إلى الأسواق المصرية، ليقتنيها الباحثون عن الممنوع، ومعهم عشاق إبداع «محفوظ».

عن هذه الأزمة وما تلاها، أصدر الكاتب الصحفى محمد شعير كتابًا بعنوان «أولاد حارتنا.. سيرة الرواية المحرمة»، تضمن رحلة بحث فى مئات الوثائق والدوريات، ليؤكد أن الرواية لم تكن مجرد أزمة فى حياة «محفوظ»، بل وسيلة لقراءة آليات وتفكير المجتمع، كاشفة لطبقات أعمق منه، وملتمسة بعضًا من جذور المواجهة بين حرية الفكر واستبداد الرجعية، لتبدو مرآة لواقعنا الراهن، وتكشف التفاصيل المنسية حول البشر والزمن، والتحولات، ودوائر الصراع داخل حارتنا المأزومة، فهى ليست مجرد رواية يطرح فيها الكاتب أسئلته حول العدل والحرية، لكنها حكايتنا مع السلطة؛ حكاية مجتمعنا نفسه وشوقه للتفكير خارج الصناديق الضيقة.

بدت الرواية على مدى أكثر من نصف قرن كنزًا سياسيًا، تتصارع عليه كل القوى السياسية والدينية وتحاول توظيفه لمصلحتها الخاصة، ورمزًا لمعارك ثقافية وسياسية واجتماعية، تتخذ كل فترة شكلًا جديدًا، وشملت ساسة، ورجال دين، وأدباء وقتلة ومؤسسات، وتبلغ ذروتها بمحاولة اغتيال «محفوظ» على يد شاب لم يقرأ حرفًا باستثناء فتاوى شيوخه.

قبل تلك المحاولة بسنوات، عقدت الحكومة اجتماعًا يوم 30 نوفمبر 1988، بعد ثلاثة أيام من تكريم «محفوظ» ومنحه قلادة النيل بمناسبة فوزه بجائزة نوبل، وفرضت الجائزة نفسها على اجتماع الحكومة، فناقشت طبع رواية «أولاد حارتنا»، والممنوعة من النشر فى مصر، وانقسم الحاضرون إلى فريقين، الأول متحمس لنشر الرواية، والثانى رافض، واستقر الرأى على عدم النشر، لكن اليوم التالى حمل مفاجأة مدوية، حيث أصدر مجمع البحوث الإسلامية تقريرًا يجدد فيه منعه لصدور الرواية، رغم عدم مطالبة المجمع فى الأصل بإبداء رأيه!

فتاوى الموت 

7 أعوام فصلت بين تقرير المجمع ومحاولة اغتيال أديب نوبل؛ طعنًا بالرقبة، فى أكتوبر 1995، على يد شابين قررا اغتياله لاتهامه بالكفر والخروج عن الملة بسبب روايته المثيرة للجدل، وهى ثمرة من حصاد فتاوى عمر عبدالرحمن، حيث اعترف المتهم محمد ناجى خلال التحقيقات أنه حاول قتل «محفوظ» تنفيذًا لأوامر أمير الجماعة الإسلامية، بزعم أنه هاجم الإسلام فى كتبه، لذا أهدر دمه!

جاء الحادث ليحرك المياه الراكدة، ويعيد النقاشات حول حرية الإبداع، مما دفع الكثير من المفكرين الإسلاميين وقتها إلى التدخل، وبعد صولات وجولات عدة، حسم الواقع الأمر، عندما أعادت دار الشروق نشر الرواية فى الألفية الجديدة، وتحديدًا عام 2006، بتقديم د. أحمد كمال أبو المجد، لخّص فيه الجدل فى قضيتين أساسيتين، الأولى تستند إلى أصول النقد الأدبى التى تميز بين الكتاب الذى يعرض فيه الكاتب فكرته ويحدد مواقفه، ملتزمًا بالحقائق التاريخية، والوقائع الثابتة، دون افتئات عليها، ودون مداراة لما يراه فى شأنها، وبين الرواية التى قد يلجأ صاحبها إلى الرمز والإشارة، فقد كانت الرواية قديمًا وحديثًا صيغة من صيغ التعبير الأدبى، مضيفًا: وفى إطار «أولاد حارتنا» فإننى فهمت شخصية «عرفة» بأنها رمز للعلم المجرد، وليست رمزًا لعالم بعينه، كما فهمت شخصية «الجبلاوى» على أنها تعبير رمزى عن الدين، وليست بحال من الأحوال تشخيصًا رمزيًا للخالق سبحانه.

أما القضية الثانية، فتمسّ حرية التعبير والموقف منها، ذلك أنه مع التسليم بأن الحريات جميعها إنما تمارس فى جماعة منظمة، ولذلك لا يتأبى منها على التنظيم والتعبير إلا حرية واحدة هى حرية «الفكر والاعتقاد»؛ بحسبانهما أمرًا داخليًا يسأل عنه صاحبه أمام خالقه، دون تدخل من أحد، حاكمًا كان ذلك الأحد أو محكومًا.. لكن حين يتحول الفكر إلى تعبير يذيعه صاحبه وينشره فى الجماعة، فإن المجتمع يسترد حقه فى تنظيم ذلك التعبير، دون أن يصل ذلك التنظيم إلى حد إهدار أصل الحق ومصادرة جوهر الحرية، ذلك أن الهدف من إجازة هذا التنظيم إنما هو حماية حقوق وحريات أخرى فردية أو جماعية قد يمسها ويتعدى عليها إطلاق حرية الفرد فى التعبير، ويبقى مع ذلك صحيحًا أن الأصل هو الحرية، وأن التقييد استثناء تمليه الضرورة، والضرورة إنما تُقَدّر بقدرها، ومن شأن الاستثناء ألا يقاس عليه أو يتوسع فيه.

محفوظ يتحدث

«إن كتاباتى كلها، القديم منها والجديد، تتمسك بمحورين أساسيين، هما الإسلام الذى هو منبع قيم الخير فى أمتنا، والعلم الذى هو أداة التقدم والنهضة فى حاضرنا ومستقبلنا، وحتى رواية «أولاد حارتنا» التى أساء البعض فهمها لم تخرج عن هذه الرؤية، ولقد كان المغزى الكبير الذى توجب به أحداثها.. أن الناس حين تخلوا عن الدين ممثلًا فى «الجبلاوى»، وتصوروا أنهم يستطيعون بالعلم وحده ممثلًا فى «عرفة» أن يديروا حياتهم على أرضهم «التى هى حارتنا»، اكتشفوا أن العلم بغير الدين قد تحول إلى أداة شر، وأنه قد أسلمهم إلى استبداد الحاكم وسلبهم حريتهم، فعادوا من جديد يبحثون عن «الجبلاوى».

هكذا تحدث «محفوظ» عن الجدل الذى ثار حول روايته، مضيفًا: مشكلة «أولاد حارتنا» منذ البداية أننى كتبتها «رواية» وقرأها بعض الناس «كتابًا»، والرواية تركيب أدبى فيه الحقيقة وفيه الرمز، وفيه الواقع وفيه الخيال، ولا بأس بهذا أبدًا، ولا يجوز أن تحاكم الرواية إلى حقائق التاريخ التى يؤمن الكاتب بها، لأن كاتبها باختيار هذه الصيغة الأدبية لم يلزم نفسه بهذا أصلاً؛ وهو يعبر عن رأيه فى رواية.

وحسمًا لهذا اللغط، قال أديب نوبل: «إننى حريص دائمًا على أن تقع كتاباتى فى الموقع الصحيح لدى الناس، حتى وإن اختلف بعضهم معى فى الرأى، ولذلك لما تبينت أن الخلط بين الرواية والكتاب قد وقع فعلًا عند بعض الناس، وأنه أحدث ما أحدث من سوء فهم، اشترطت ألا يعاد نشرها إلا بعد أن يوافق الأزهر على هذا النشر».

أخيرًا.. الجدل حول «أولاد حارتنا» لن ينتهى، فالعمل باقٍ بيننا، والكلمات لا تموت مهما طاردتها اللكمات!