الجمعة 29 مارس 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري

روضة رمضان مع وزير الأوقاف "الحلقة الثانية": رمضان شهر الدعاء.. وطبيعته تعين الإنسان على مراجعة نفسه

عندما تهب نسائم الشهر الكريم نستشعر جميعًا أجواءً لا نشعر بها إلا فى رمضان، ومع بداية الصوم ترقى النفوس وتهفو لسماع ما يرقق القلوب، ويرشدها إلى صحيح الدين بعيدًا عن أى مغالاة أو تشدد كى تحظى بروضة رمضانية تحمل معانى الصفاء والسمو الأخلاقى والمجتمعى.



وفى تلك الروضة تقدم «روزاليوسف» أسبوعيّا حديثًا رمضانيّا من نوع خاص من خلال لقاء أسبوعى مع وزير الأوقاف د. «محمد مختار جمعة» يتحدث خلاله عن حقائق دينية متعلقة بالصوم.. كما يطرح رؤية وسطية فى فهم الدين ومقاصده.. ويجيب على العديد من الأسئلة المتعلقة بشهر الصوم.

فى ثانى حلقاتنا مع وزير الأوقاف نبدأ بالحديث عن قيام الليل، لاسيما أنّ الجميع يتسابق فى الشهر الكريم للصلاة والعبادة، وهنا يوضح د. محمد مختار جمعة قائلاً: «لعل من أهم خصائص الشهر الفضيل التى تجمع الناس فى زماننا هذا هو قيام الليل بدءًا بصلاة التراويح وانتهاء بالتهجُّد، مع الحرص على أداء الفرائض فى أوقاتها، وهو أحد أهم موجبات المغفرة فى هذا الشهر الفضيل،  وقال (صلى الله عليه وسلم): «مَن قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غُفِر له ما تقدَّم ذنبه»؛  بل إن الله(عزوجل) جعل هذا الفضل كاملاً لمن قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا،  فقال (صلى الله عليه وسلم): « مَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ».

واستكمل حديثه: بأنه إذا كان قيام الليل مستحبًّا فى كل حال فهو أكثر استحبابًا فى هذا الشهر الكريم، ويزداد استحبابًا فى العشر الأواخر منه، فقد كان نبينا (صلى الله عليه وسلم) إذا دخل العشر الأواخر من رمضان أيقظ أهله، وأحيا ليله، وجدًّ، وشد مئزره، اجتهادًا منه (صلى الله عليه وسلم) فى العبادة فى هذا الشهر الكريم وتلك الأيام المباركة.

العبادة والعمل

وهناك توقفت لأسأل: هل العبادة تعنى أن نتوقف عن العمل لنتفرغ للطاعة، وهل معنى أن رمضان شهر طاعة وجد فى العبادة ألا ننشغل بشىء آخر؟ وهنا جاءت إجابة وزير الأوقاف حاسمة بأن رمضان شهر العمل لا البطالة ولا الكسل، ولكن بعض الناس، على حد قول الوزير، ينظرون إلى شهر رمضان نظرة خاطئة، على أنه شهر نسك فحسب، فربما عطَّلوا أعمالهم أو قصروا فيها، وربما رأينا من يقول سنتفرغ للعبادة فى هذا الشهر الكريم، لكن الإسلام دين العبادة والعمل والإتقان فيه، لا يعرف البطالة ولا الكسل لا فى رمضان ولا فى غيره من الشهور، خصوصًا أننا مطالبون بأن نكون أقوياء فى مجتمعاتنا ودولنا، فقد قال الرسول (صلى الله عليه وسلم):» الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى الله مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ».

وهنا أوضح د. مختار جمعة بأن الرسول (صلى الله عليه وسلم) لم يحدد جانبًا واحدًا من القوة؛ بل أراده قويًّا فى كل شىء، وبما إن الاقتصاد هو أحد أهم المحركات للمجتمعات والأمم، فلا بُدّ من العمل والإبداع والإنتاج، والأنبياء كانوا يأكلون من عمل أيديهم؛ فقد قال الرسول (صلى الله عليه وسلم): « مَا أَكَلَ أَحَدٌ طَعَامًا قَطُّ خَيْرًا مِنْ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ وَإِنَّ نَبِيَّ الله دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ يَأْكُلُ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ»، وخص الرسول (صلى الله عليه وسلم) نبى الله داود بالذكر دون سائر الأنبياء، لأن الله جمع له بين الملك والنبوة،  وهذا يؤكد أنه لم يكن يعمل للحاجة؛ بل لشرف عمل اليد، فالعمل فى حد ذاته شرف، ويد العامل يحبها الله ورسوله؛ بل إنّ الكد فى العمل يكفر ذنوبًا لا يكفرها الصيام ولا الصلاة، وهذا لا يتعارض مع العبادة فى رمضان فديننا دين التوازن بين العبادة والعمل لا دين البطالة والكسل. وعلى الإنسان أن يبتعد عن الأمانى الخادعة القائمة على البطالة والكسل، فالأمل يحتاج إلى عمل؛ لأن الأمل بلا عمل كجسد بلا ساق، لا يقوم له قوام، ما يجعلنا ندعو وبشدة إلى الأمل المبنى على العمل والأخذ بالأسباب، وإلا كان أملاً أجوف لا طائلَ منه، فقد كان سيدنا عمر (رضى الله عنه) يقول: لا يقعدن أحدكم عن طلب الرزق ويقول: اللهم ارزقنى، فقد علمتم أن السماء لا تمطر ذهبًا ولا فضة.

واستطرد : نبينا (صلى الله عليه وسلم): «لَوْ أَنَّكُمْ تَوَكَّلْتُمْ عَلَى الله حَقَّ تَوَكُّلِهِ لَرَزَقَكُمْ كَمَا يَرْزُقُ الطَّيْرَ، تَغْدُو خِمَاصًا وَتَرُوْحُ بِطَانًا»، قال أهل العلم: إن الطير هنا تأخذ بالأسباب فهى تغدو وتروح، ولا تمكث كسالى فى أعشاشها وأوكارها وتقول: اللهم ارزقنى، فما أحوجنا إلى الأمل والعمل معًا، الأمل الذى يستجلب الهمة والنشاط، والعمل الذى نعمر به الكون، ونبنى به الحضارة، ونصلح به أمر ديننا ودنيانا، ولهذا نؤكد أن الإسلام يأمرنا بتوسيع نظرتنا إلى العمل الذى يمتد أثره ونفعه إلى الآخرين، وكذلك يأمرنا بالعمل والإتقان فيه وتجويده، ومن ثم نريد أن يعود شعار (صنع فى مصر) بارزًا قويًّا من جديد ؛ لأن ديننا دين الإتقان، وحضارتنا حضارة إتقان وإبداع، وبالعمل ترقى وتزدهر الأمم.

مراجعة النفس

وكان لا بُد بعد هذا الحديث عن العمل والعبادة أن نسأل عن كيف يمكن أن يستغل المسلم شهر رمضان لمراجعة نفسه؟ فالمراجعة جزء مهم فى ضبط السلوك، وأداء الإنسان دوره المطلوب لاسيما فى العمل، وهنا يجيب وزير الأوقاف بأن العلماء فى كل الأزمنة يؤكدون أن رمضان فرصة لمراجعة النفس، وللصفاء النفسى والروحى، وللتسامح مع الذات والآخر، ومع الكون كله، ولذلك فهو يُعدُّ فرصة كى يقف الإنسان فيها مع نفسه، ويراجعها عما مضى من أخطاء، وما اعتادت عليه من أمور. 

وهنا توقفت مع وزير الأوقاف لأعرف منه كيف يمكن أن يكون رمضان فرصة لمراجعة النفس؛ حيث قال لى: إن ما يعين الإنسان على مراجعة نفسه فى رمضان هو أن هذا الشهر له خصوصية بأنه شهر السلام، شهر الأمن والأمان، شهر الرحمة والرضوان، شهر تكفير السيئات، والتجاوز عن الزلات، والحرص على اكتساب الحسنات، ورفع الدرجات، وذلك كله لا يتأتى إلا للقلوب العامرة بالخيرات، التى لا تعرف الحقد ولا الغل ولا الحسد، ولا تحب سوى الخير للناس كل الناس، وأولئك هم المفلحون.

ولفت إلى أمور أخرى تعين على المراجعة فى هذا الشهر الكريم أهمها التحلى بسلامة الصدر، ونقاء السريرة، والتغلُّب على النزوات، وهجر سائر الأدواء والأمراض والعلل الاجتماعية، فنجعل من نفحات وبركات ورحمات الشهر الفضيل دواءً لكل داء، وشفاءً لكل علة، فنتحول من القسوة إلى الرحمة، ومن الأثرة إلى الإيثار، ومن شُح النفس إلى سخائها، ومن غياب الضمير إلى حضوره ويقظته، وإلى محاسبة النفس قبل محاسبة الآخرين، وإلى الإقبال على الله (عز وجل) لا الإدبار عنه، وإلى التحصن بالقرآن والاستمساك به لا هجره ولا البعد عنه.

دعاء رمضان

ونحن نتحدث فى روضة رمضان كان لا بُد أن أتوجه بسؤال لوزير الأوقاف عن الدعاء، وهل للدعاء فضل مخصوص فى رمضان؟ فأخبرنى قائلًا: «إن رمضان شهر الدعاء،  وشهر الإجابة، وشهر الرحمات والنفحات والبركات، وللصائم دعوة لا ترد؛ حيث يقول نبينا (صلى الله عليه وسلم): « ثلاثة لا تُرَدُّ دَعْوَتُهُمْ: الإِمَامُ الْعَادِلُ، وَالصَّائِمُ حِينَ يُفْطِرُ، وَدَعْوَةُ الْمَظْلُومِ».. كما أن الدعاء سلاح المؤمن، ومسلك الأنبياء والأصفياء،  يقول أحد الحكماء: عجبت لمن ابتلى بالمرض كيف يغفل عن دعوة أيوب (عليه السلام): « أَنِّى مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ»، وعجبت لمن ابتلى بالضيق كيف يغفل عن دعوة يونس (عليه السلام) : «لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّى كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ»، وعجبتُ لمن ابتُـلى بالخوف كيف يغفل عن قول الله (عز وجل): «حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ»، وعجبتُ لمن ابتُـلى بمكرِ الناس كيف يغفل عن قوله (تعالى) : «وَأُفَوِّضُ أَمْرِى إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ»، والدعاء ليس سلاح الضعفاء كما يتوهم البعض؛ إنما هو سلاح الأصفياء الأنقياء الأتقياء الآخذين بالأسباب، الراجين فضل من قال فى كتابه العزيز: «ادعونى أستجب لكم».

وعقب تلك الإجابة وجدت نفسى أتساءل: هل كل صائم دعوت مجابة؟ وهل نحن بحاجة إلى أخلاق معينة كى نصبح صائمين ظاهرًا وباطنًا فتستجاب دعوتنا فى الصوم؟ وهنا توقف وزير الأوقاف ليسرد لى إجابة تضع بين أيدينا كيفية تحقيق أخلاق الصائمين التى تستجاب دعوتهم قائلاً: ديننا دين مكارم الأخلاق، ورسالة نبينا مبنية على حُسْن الخلق، وشهر رمضان خاصة هو شهر مكارم الأخلاق يقول نبينا (صلى الله عليه وسلم): «الصيامُ جُنة، وإذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ فَلَا يَرْفُثْ وَلَا يَصْخَبْ، فَإِنْ سَابَّه ُ أَحَدٌ أَوْ قَاتَلَهُ فَلْيَقُلْ: إنِّى امْرُؤٌ صَائِمٌ»، ومعنى (جُنة) أى وقاية يقى صاحبه من الزلل فى الدنيا ومن عذاب الله يوم القيامة، فإذا لم يكن وقاية لصاحبه فى الدنيا من الوقوع فى المعاصى، فصاحبه على خطر أن يقع فى دائرة قول نبينا (صلى الله عليه وسلم): «رُبَّ صَائِمٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ صِيَامِهِ إِلَّا الْجُوعُ، وَرُبَّ قَائِمٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ قِيَامِهِ إِلَّا السَّهَرُ».

وهنا بادرت بالسؤال: وماذا عمن يستفزون فى صومهم فتضيق أخلاقهم وتندفع الكلمات من أفواههم؟ فأجاب: بعض العامة قد يُستفزُّ فى رمضان، فيقول آخر دعه فإنه صائم وأخلاقه ضائقه، وكأن الصوم يضيِّق الأخلاق لا يوسعها مع أن الأمر على العكس من ذلك، حيث يؤكد الحديث الشريف على ضبط الصائم لسلوكه وألفاظه، فإن سابه أحد أو شاتمه فليقل إنى صائم.. ولذلك نؤكد أن حسن الأخلاق وحسن التعامل مع الخلق دليل على صحة العلاقة وصدق النية مع الخالق (عز وجل)، أما سوء الأدب مع الخلق فهو أيضًا سوء أدب مع الخالق، لأن الخالق هو من أمرنا بمكارم الأخلاق، ورمضان هو شهر الصبر، وشهر الحكمة، وشهر الصدق، وشهر العفو، وشهر الصفح، وشهر الكرم، وشهر الأدب، وشهر القرآن الذى هو مناط مكارم الأخلاق. 

واستطرد: لقد سُئلت السيدة عائشة (رضى الله عنها) عن أخلاقه (صلى الله عليه وسلم) فقالت: «كان خلقه القرآن» .ولما عاد نبينا (صلى الله عليه وسلم) إلى السيدة خديجة (رضى الله عنها) عند بدء نزول الوحى عليه يقول «زملونى زملونى» قالت : كلَّا! والله ما يخزيك الله أبدًا؛ إنك لتصل الرحم، وتصدُقُ الحديثَ، وتَحمِل الكَلَّ، وتَكسِبُ المعدومَ، وتَقرى الضيف، وتعين على نوائب الحق «هذه هى أخلاق ديننا وأخلاق نبينا (صلى الله عليه وسلم): إكرام الضيف، وصلة الرحم، وإعانة المحتاج، وإغاثة الملهوف، وسائر مكارم الأخلاق، وإذا كانت هذه هى أخلاق الإسلام بصفة عامة، فإن الاستمساك بها فى هذا الشهر العظيم أولى، فقد كان نبينا (صلى الله عليه وسلم) أجود الناس، غير أنه كان أجود ما يكون فى رمضان، لما فى هذا الشهر العظيم من الخير والبركات ومضاعفة الحسنات.

صوم المتشددين

وفى الحقيقة كان لا بُد من السؤال عقب حديثنا عن أخلاق الصائمين أن أسأل عن حكم من يصوم وهو يحمل فى عقله التشدُّد والتطرُّف أمثال المنتمين لجماعات التطرف والإرهاب وهنا قال د. محمد مختار جمعة: عندما ترى سبابًا محضًا، وفحشًا بَيِّنًا، وسوء أدب يفوق الحدود، من أناس وجماعات يدعون حماية الدين والوصاية عليه والجهاد فى سبيله، فكبر عليهم وعلى تدينهم أربعًا، واعلم أن الجهاد الحقيقى إنما هو فى ردعهم وكف شرهم عن الخلق.

وأضاف: «إن إجرام هذه الجماعات وعناصرها الضالة إنما هو خيانة لدين الله عز وجل، فلو استفرغ أعداء الإسلام ما فى جعابهم من السهام لينالوا من ديننا السمح ما بلغوا معشار ما شوهته الجماعات المتطرفة وعناصرها المتاجرة بدين الله عز وجل من صفحته النقية. ولنا أن نتساءل: فى أى مدرسة تعلم هؤلاء تلك البذاءة؟ وأى دين هذا الذى يستقون منه تلك البذاءات؟ لا شك أنه لا يمكن أن تكون دائرة الأديان السماوية أو أى منها سبيلًا لذلك، ولا حتى الوطنية أو الإنسانية يمكن أن تسمح به.. ولذلك ونحن فى شهر الصوم نتساءل: أيّ صيام يصومه هؤلاء؟ وأى صلاة يصلون؟ وأى قرآن يقرأون؟ وإلى أى قبلة يتوجهون؟  لا شك أن خطأ ما يجب أن يُستدرك، وعملاً كبيرًا يجب أن نقوم به، وجهدًا كبيرًا يجب أن نبذله لندرك من لم يُختطف قبل أن يُختطف؟ ونقلِّم أظافر من يَخْتَطِف أو يحاول أن يَخْتَطِف  نشْأنا أو شبابنا أو أحدًا من مجتمعنا، وهذا هو جهاد المفكرين والعلماء والكتاب وواجب الوقت عليهم».

ومع هذه الإجابة نتوقف فى تلك الحلقة من حديثنا مع فضيلة الدكتور محمد مختار جمعة وزير الأوقاف لنستكمل فى الحلقة القادمة أمورًا مهمة حول أكل الحرام وقبول الصوم.. وحقيقة إغناء الفقراء المطلوب فى هذا الشهر.. وما على المسلم أن يفعله مع انتصاف شهر رمضان الكريم.