الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري

«جمال حمدان» يكشفها فى «شخصية مصر» أسرار الأرض الطيبة (2-2)

كان مبهرًا كعادته، فى وصفه لـ«شخصية مصر»، من الجانب الاقتصادى فى موسوعته التاريخية، إذ نجح جمال حمدان بامتياز فى نقل صورة كاملة عن مصر الزراعية والصناعية على مر العصور، وفترات الضعف والقوة، والكساد والازدهار، ليضع بين أيدينا عملًا يَشرح التطورات التى مرت على وطننا، بل يُشرحها، وكأنه أراد أن يشير إلى الطريق الصحيح للنهضة الاقتصادية المصرية.



«البيئة الأحادية»

يؤكد «حمدان» فى بداية طرحه للخريطة الاقتصادية المصرية، أن مصر المعمورة بيئة أحادية إلى حد بعيد، وقد انعكس هذا على الاقتصاد إلى حد كبير، فكان هو الآخر أحاديًا - زراعيًا -، والبيئة الأحادية عادة نقطة قوة فى كيان الدولة السياسى من زاوية التجانس البشرى والجنسى الذى تدعو إليه وتساعد عليه، ولكنها كذلك يمكن أن تكون سلاحًا ذا حدين، إذا اعتبرنا أيضًا أنها قد تحد نسبيًا من تنوع الموارد الطبيعية، وتجعل الأساس الطبيعى للدولة ضيق القاعدة أحادى الجانب وربما معوجًا.

صحيح أن الصحراء إقليم طبيعى ثان ومختلف كلية، وقد أمد مصر القديمة فعلاً بالمعادن والأحجار الكريمة التى دخلت فى الصناعة، ولكنها كانت صناعة بسيطة استهلاكية أو ترفيهية، وفى النهاية تكميلية خادمة للاقتصاد القاعدى ككل الصناعات القديمة قبل العصر الحديث، كذلك لم يكن للمراعى الطبيعية فى مصر مجال ذى بال، حيث لا تدرج ولا دمج بين الوادى والصحراء، وبالتالى فقد استبعد الرعى هو الآخر من هيكل الاقتصاد، والقليل الذى وجد منه إنما قام على المراعى المزروعة.

إذا حللنا الجوهر وجدناه اقتصاديًا معاشيًا أساسًا، يعنى غذائيًا كسائيًا، ثم هو اقتصاد اكتفائى مغلق إلى حد كبير، هدفه الكفاية الذاتية أكثر منه التبادل التجارى، إن أدى الفائض منه إلى التجارة فتبقى فى المحل الثانى، ولهذا فقد كان للمحور الذى دارت حوله الزراعة المصرية القديمة قطبان غالبان، هما الحبوب والألياف، الأولى للغذاء والثانية للملبس، ويرى البعض فى هذا الاقتصاد نقطة قوة لمصر وسببًا لنجاحها الألفى فى عصر كانت الكفاية الغذائية فيه نادرة وغير مضمونة.

«انطلاقة الاقتصاد الحديث»

يرى جمال حمدان أن الاقتصاد الحديث بدأ مع بداية القرن الثامن عشر، مع الانقلاب الذى شهدته أنظمة الرى والزراعة، ويمكن أن نقسمه إلى ثلاث مراحل، إن جمعت بينها خصائص الاقتصاد الحديث، فإن لكل منها سماتها التطورية الخاصة، الأولى مرحلة الاقتصاد الانقلابى، ثم الاقتصاد الاستعمارى أو شبه الاستعمارى، ومنه إلى الاقتصاد الثورى.

أما المرحلة الأولى فشهدت ثورة زراعية وصناعية كاملة، وبدأت فى عصر محمد على، حيث تغير هيكل الاقتصاد المصرى تغيرًا جذريًا يكاد يصل إلى حد الانقلاب الكامل، بحيث نمت دائرة كاملة من تطور اقتصادنا القومى، خاصة أن هذا البناء الاقتصادى ظل قائمًا حتى الحرب العالمية الثانية، وعاش بذلك نحو قرن وربع القرن من الزمن، ظل خلالها يتطور أو يتدهور، بالموجب أو السالب، ولكن دائمًا كميًا أكثر منه نوعيًا، وداخليًا أكثر منه خارجيًا، ولكن منذ الحرب العالمية الثانية فقط بدأت التغيرات التراكمية تتحول من كمية إلى كيفية، ومن تحورات سطحية أو ثانوية إلى تحولات هيكلية وصرحية.

من جانب الزراعة والرى، فإن الخط الذى بدأه محمد على ثم تقدم وتطور بالتدريج عبر قرن كامل بعده، لم يتبلور ويستكمل معناه التام ولا بلغ ذروته القمية إلا فى القرن الأخير، بالسد العالى وثورة الأرز وإدخال المحاصيل الجديدة، أما على جانب الصناعة فإن الخيط الذى ألقى محمد على بطرفه، لم يلتقط إلا فى النصف الأول من القرن الماضى، رغم أنف الاستعمار، حيث بدأت مصر الصناعية سنة 1940، وليس الفارق بين هذه البداية وعصر محمد على هو العصر أو القرن، وإنما فارق جذرى كمًا وكيفًا، ومن هنا بدأ الاقتصاد المصرى الجديد، وهو اقتصاد الصناعة أولًا والزراعة فى المحل الثانى.

«اقتصاد الخديو»

فى عهدى عباس وسعيد، انحدرت الصناعة بشدة، وتفاقمت سياسة إغلاق المصانع وفك البقية الباقية من الثورة الصناعية، وخاصة مصانع الغزل والنسيج فضلاً عن المصانع الحربية، غير أن محاولة محدودة فى الاتجاه العكسى حدثت فى عهد الخديو إسماعيل، ولكنها كانت أساسًا تدور حول السكر، بحيث يمكن القول إن صناعة السكر هى التى ورثت صناعة الغزل والنسيج إلى حد بعيد، ولقد قامت هذه الصناعة لحتمية تصنيع هذا المحصول محليًا، أى فقط لاستحالة تصديره خامًا، كذلك فقد كانت هذه الصناعة تخدم أساسًا مصالح إسماعيل الخاصة، ممثلة فى أبعاديات القصب المركزة فى مصر الوسطى بوجه خاص والمنيا بوجه أخص، فكان هناك أكثر من 60 مصنعًا للسكر، وكان الإنتاج يغطى الاستهلاك المحلى ويترك فائضًا كبيرًا للتصدير.

وكان لتركيز زراعة القصب وصناعة السكر فى مصر الوسطى أثر فى امتداد قطاع التنمية الاقتصادية الحديثة إلى الصعيد، بعد أن كان مستقطبًا معظمه فى الدلتا وحدها تقريبًا، وبذلك بدأت التنمية ومعها التطوير تزحف فى مصر بالتدريج من الشمال إلى الجنوب. وفيما عدا صناعة السكر، اقتصرت الصناعة الحديثة على صناعات خفيفة استهلاكية من صناعات المدن والخدمات البلدية والخامات، مثل المحاجر والمدابغ والورق والملابس والطرابيش والمخابز، وأخيرًا الماء والغاز، وكلها كانت محدودة العدد والقوة للغاية.

وعن البناء التحتى، فبدلًا من المصانع والمعامل والورش انصرف الاقتصاد إلى التركيز على شبكات الطرق والمواصلات من سكك حديدية وبرية وبحرية وخطوط تليغراف، وكذلك الموانئ والمنائر، بالإضافة إلى خدمات المرافق البلدية الشبكية العصرية، كالمياه والكهرباء والترام فى المدن، فضلًا عن إنشاء أحياء المدن المصرية نفسها بالمظهر الأوربى، لتصبح مصر قطعة من أوروبا.

 

«عصر الاستدانة»

فى عهد الخديو عباس، أنشئ أول خطوط سكة حديد تربط بين الإسكندرية والقاهرة والسويس، وكذلك ميناء السويس، وفى عهد إسماعيل وضع الهيكل الأساسى من المرافق والخدمات الشبكية الحديثة، كما أصبحت الإسكندرية كبرى موانئ البحر المتوسط، وقد بلغت مشاريع الأعمال العامة هذه معدلًا مذهلًا بالنسبة للعصر لا يكاد يكون له مثيل فى أى دولة أضعاف مصر مساحة وسكانًا، باعتراف الكتاب الأوروبيين.

إلا أن هذا كله تم إلى حد بعيد على أساس الاستدانة من أوروبا، وفى عصر الاستدانة هذا توحد الساسة والمرابون الأوروبيون فى جبهة واحدة للتوغل والاستغلال الاقتصادى، الذى فتح الباب للتدخل السياسى والوصاية المالية ثم الاحتلال العسكرى، حيث وضع المرابون أيديهم على الأرض الزراعية ثم وضع الساسة أيديهم على الوطن نفسه، فقد كانت الديون تقدم بأرباح فاحشة حتى كانت الفوائد المتعاظمة تسدد بقروض جديدة.

ومع تراكم الديون من الخارج، كانت الضرائب تتصاعد فى الداخل، حتى أضحت مصر أعلى دول العالم فى معدل الضرائب، وفى النهاية كان العبء كله يحول إلى الفلاح الذى دفع الثمن حتى آخر قطرة، أولاً بتحويل ملكيته إلى الدائرة السنية بالاغتصاب والطرد سدادًا للضرائب الباهظة، وثانيًا بتحويل الدائرة السنية نفسها إلى ملكية الأجانب أصحاب الديون، فكان الفلاح هو الذى يمول الرأسمالى الأوروبى ويسدد للمرابى الأجنبى، ومن ناحية أخرى كان هو اليد العاملة الرخيصة والقوة البشرية لإقامة هيكل البناء التحتى بكل عناصره، وإذا كان البناء التحتى هو أحد الأسباب المباشرة للاستدانة، فإنه كان مبررًا وممهدًا للاستعمار الأجنبى.

«تقطين مصر»

كانت أعراض الاقتصاد شبه الاستعمارى بادية بما فيه الكفاية فى مرحلة الهبوط الانتقالية السابقة، إلا إنها لم تكتمل أو تتبلور إلا بعد الاحتلال البريطانى، فاشتدت الاتجاهات السلبية التى بدأت من قبل، وبدلًا من معادلة الحد الأقصى من الزراعة والحد الأدنى من الصناعة، سادت معاملة الحد الأقصى من الزراعة واللاصناعة على الإطلاق، ووصل التركيز على القطن إلى مداه، بينما فى التجارة تحولت علاقة التبادل إلى علاقة احتكار شبه استعمارية.

أما عن الصناعة، فإن الفترة التى أعقبت الاحتلال مباشرة شهدت عملية تخريب وتحطيم انتقامية للصناعة القائمة، حيث بيعت آلات وأدوات مغازل القطن التى أنشأها محمد على، وكذلك بيعت مصانع وورش وسفن شركة الملاحة الخديوية لشركة إنجليزية بثمن بخس هزيل، وبالمثل حدث للأسطول النهرى وترسانة بولاق، كذلك تم إغلاق مصنع ورق بولاق ومصانع الأسلحة والذخيرة وبيعت معداتها.

كل هذا حدث بلا هوادة، لأن الاستعمار كان يرى أن كل مصنع يفتح فى مصر يغلق أمامه مصنعًا فى بريطانيا، وأن للسوق المصرية أهمية فائقة لبريطانيا نظرًا لما أخذت تتعرض له تجارتها الدولية من أخطار وتهديدات، وعلى أساس هذه الادعاءات الملفقة، وضعت سياسة جمركية وضرائبية مخططة بحيث تقتل كل إمكانيات الصناعة الوطنية، والنتيجة بطبيعة الحال كانت شلل الصناعة الكلى، فقد أغرقت الصناعة المستوردة وسياسة الباب المفتوح السوق، ووأدت كل إمكانيات الصناعة الكائنة فضلًا عن الكامنة، حتى الصناعة الصغيرة والتقليدية الوطنية أفلست واندثرت.

ثم بدأت انطلاقة القطن فى أوجها بلا حدود مساحة ومحصولاً وصادرًا وسيطرةً على الاقتصاد الوطنى، وذلك باستثناء فترتى الحربين والأزمة المالية العارضة، لقد بدأت سياسة «تقطين مصر» وأصبح القطن ملكًا متوجًا، لأن السياسة البريطانية المخططة والمعلنة كانت تحويل مصر إلى أبعادية قطن لحساب صناعتها هى وحدها بالتحديد، ولتحقيق هذا الاحتكار فعلت بريطانيا كل ما يمكن من أجل توجيه هيكل البناء التحتى لخدمة توجيه تجارة مصر الخارجية إليها، من ذلك مثلًا أنها حاربت النقل النهرى ونقل الطرق لصالح النقل الحديد، كما قطعت اتصال النقل الحديدى بالدول المجاورة ليرتكز على الإسكندرية ويصب فيها، وهو الدليل على أن الاستعمار البريطانى كان ينظر إلى مصر كمصدر للمواد الخام أكثر منها كسوق للمصنوعات.

«انهيار الصناعة»

وسط هذا السعى الاستعمارى لقتل الاقتصاد المصرى عدا زراعة القطن، تلقت الصناعة الضربة القاضية على يد الاستعمار، فقد كان جوهر السياسة الاستعمارية المخطط بعمد وسبق إصرار هو استبعاد التصنيع تمامًا، ووأد الصناعات القائمة أو الناشئة ليجعل مصر محض سوق لتصريف صناعاته مثلما جعلها مزرعة صرفة لخاماتها، وكانت ذريعة الاستعمار فى ذلك مبدأ التخصص الطبيعى وحرية التجارة، وحجته أن الصناعة المصرية لا يمكن أن تقوم إلا على أساس من الحماية الكثيفة.

هكذا كانت الصناعة فى تدهور، بل انهيار شديد وسريع على يد المحتل، ففى الوقت الذى كانت الزراعة فى قمة توسعها وازدهارها وانفرادها شبه المطلق فى الاقتصاد، كانت الصناعة قد وئدت عمليًا، ثم بلغت سياسة التقطين حد الإفراط، وغدت على أفضل تقدير سلاحًا ذا حدين، له أخطاره فى الداخل، حيث جاءت على حساب المحاصيل الأخرى عامة والمحاصيل الغذائية خاصة، وفى الوقت نفسه برزت مشكلة الصرف إلى الصدارة، كقضية ملحة وخطيرة فى هذه الفترة، وبدأت خصوبة التربة تتأثر ومعها إنتاجية الفدان ومتوسط الغلة عمومًا.

«الاقتصاد الثورى»

 كأن الثورة جاءت لإنقاذ مصر من براثن الانهيار، الذى كان يدب فى جميع القطاعات، حيث بدأت مرحلة الاقتصاد الثورى، عندما جاءت ثورة يوليو بمعطيات جديدة، وهذه المرحلة تمثل على المستوى التركيبى أو الهيكلى قمة زحف تاريخى تدريجى مديد، يشمل العصور القديمة كما يشمل الفترة الحديثة، ويبدأ من اقتصاد أحادى واسع بسيط، عبر اقتصاد أكثر تنوعًا وكثافة وأكبر قاعدة، إلى اقتصاد تكاملى عريض بقدر ما هو عميق، يجمع أخيرًا بين الزراعة والصناعة والتجارة والتعدين، ممثلاً موارد الموضع والموقع والجغرافيا والجيولوجيا والإنتاج، ومعبرًا بذلك تعبيرًا شبه كامل ولأول مرة عن الإمكانيات الدفينة للبيئة والإنسان فى مصر.

ورفعت الثورة ثلاثة شعارات أساسية قائدة فى المجال الاقتصادى هى: الاستقلال الاقتصادى والتنمية الاشتراكية والتخطيط القومى، وفى النصف الأول من المرحلة تم فعلاً تطبيق هذه المبادئ إلى حد ما، ولكن بقدر محدود أو متوسط من النجاح، إلا أن النصف الأخير من المرحلة شهد عملية تخل وإهمال أو فك وقلب كامل لهذه المبادئ، بل تبنٍّ لمبادئ مضادة لها تمامًا تصل إلى حد الانقلاب المضاد اقتصاديًا، بحيث عادت الأوضاع بطريقة أو بأخرى إلى ما كانت عليه قبل الثورة.

ويمكن تقسيم الحقبة الاقتصادية الثورية إلى مرحلتين، هما «الانطلاق» و«الانزلاق»، ففى المرحلة الأولى تحقق قدر لا ينكر من الاستقلال الاقتصادى والتحرر من التبعية الخارجية وسيطرة الاستعمار ورأس المال العالمى، وتم وضع أساس صلب لقاعدة عريضة من التنمية الاقتصادية، على طريق الاشتراكية والتأميم والتمصير وتصفية الإقطاع والرأسمالية المحلية، مع عدالة التوزيع وتذويب الفروق بين الطبقات إلى حد ما، كما بدأ تبنى فلسفة التخطيط القومى ومنه إلى الإقليمى، وكذلك اتسعت النظرة المستقبلية.

أما فى مرحلة الانزلاق، فقد تجمد التخطيط تمامًا ووضع على الرف، بينما فتح الباب على مصراعيه للاقتصاد الرأسمالى الفردى الحر والمبدأ الليبرالى بدعوى الانفتاح على العالم الحر والتكنولوجيا الحديثة والغرب المتطور، مما مكّن لظهور طبقة جديدة مستغلة طفيلية استهلاكية رأسمالية عاتية، فزادت الهوة بين الطبقات بدلًا من أن تضيق.

وهكذا نجح «جمال حمدان» فى شرح وتشريح الاقتصاد المصرى الحديث، بداية من عصر محمد على وحتى ثورة يوليو، ليقدم لنا بين سطور موسوعته «شخصية مصر» مبدأ يسير عليه كل من يفكر فى رفعة الاقتصاد المصرى، ضمن خريطته الشاملة التى رسم فيها مصر من الحجر وحتى البشر.