الثلاثاء 16 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري

من مجموعة "السهو والخطا" للأديب حسن عبد الموجود "الحلقة الثالثة": كلب يدخن

كلب صغير أصابنى بالحيرة، فحتى تلك اللحظة التى قررت فيها زوجتى أن تحضره إلينا لتخرُج من نوبة اكتئاب لم أتخيل أبدًا أن يعيش كلب معى فى منزل واحد. صحيح أنه قليل الحجم، ولا خوف منه، غير أن حادثة بعيدة أبقته طوال الوقت بعيدًا عنى بمسافة سنتيمترات. كان يحاول شمِّى بكل الطرق، وكان يُبدى سعادة طفولية فى كل مرة يخرج فيها من الشرفة حيث منزله الصغير الذى تغلفه زوجتى فى الشتاء ببطانيتين، حيث يستمر فى القفز من كرسى إلى كرسى، ومن كنبة إلى أخرى. تعرضت لعضة كلب فى الماضى البعيد جعلتنى زائرًا لمستشفى حكومى لمدة 21 يومًا، حيث اخترق سن الحقنة بطنى نفس عدد مرات الزيارات، وكنت أعتبر أى كلب مهما كان نوعه عدوًا. أمر آخر جعلنى أتحاشى التعامل معه، فرغم أن زوجتى أخبرتنى بأنه نظيف، وأنها علمته أين يقضى حاجته، لكنه حينما كان يشعر بسعادة بالغة كان يفعلها فى أى مكان، وهكذا أغرَقها وعددًا من الضيوف ببوله بسبب شعوره الزائد بالسعادة.



 

فى أوقات الغداء والعشاء كان ينظر إلينا، وكنت أشعر بالنفور منه وألقى إليه قطعًا من اللحم، فيتلقفها ساخنة. كان مزاجنا متقاربًا فقد كان يُقبل على القطع الدسمة، وكانت له نظرة باسمة للغاية. أخال أنه على وشك الانفجار فى الضحك. كان يحب اللب والفول السودانى، وكنت أمزح وأقول لزوجتى: إنه «ابن قرد بالتأكيد». كانت دائمة الحديث عن عمره وتقول لى إن عامًا بالنسبة للكلاب يساوى ثمانية أعوام بالنسبة لنا، وكان هذا مدهشًا بالنسبة لى، وقد لاحظت أن حركته بعد عام فعلاً صارت أكثر قوة، فصار ببساطة متناهية يقفز بين الأماكن التى لم يكن يستطيع أن يقفز بينها من قبل.. كان ينتظر هفوات منى، فحينما أكون مستلقياً وأحدث أحد الأصدقاء فى الموبايل، كان يقفز بسرعة خاطفة، ثم يسدد لسانه إلى أذنى. لعقة سريعة تجعله أكثر ابتهاجًا وامتنانًا للعائلة التى صار واحدًا من أفرادها، بينما أُغلقُ الموبايل فى وجه من أحدثه وأجرى وراءه، بدون فائدة، إذ إنه يقبع فى نهاية سرير غرفة النوم، وهو يعلم تمامًا أننى شديد الغضب الآن.

لم يكن ينسى، ومع هذا كان على استعداد لتكرار فعلته عشرات المرات، وكنت أصطاده أحيانًا وأصفعه كأنما أصفع شخصًا، وكانت زوجتى توبخنى، مؤكدة أنه لا يفهم، وأُصرُّ على أنها هى من لا يفهم، وأنه يعرف تمامًا ما يفعله. فى البداية كان إقناعه بالدخول إلى الشرفة حيث بيته أمرًا شاقًا، فقد كان يختفى فى أبعد ركن نستطيع الوصول إليه، وكنا نستخدم أيدى المقشات والمسَّاحات لتحريكه، وأحياناً كان يستغل ضغط الهواء واجتياحه ستارة الشرفة وبالتالى الباب الذى كان يقف بجواره مستمعًا إلى حركاته المتتالية حتى يفتح وحده، ونجده فوقنا. يجن جنونه حينما أُقبِّل زوجتى، كان يطير فوقنا، وحينما أنهض من مكانى يعدو إلى مكان بعيد، وكنا أحيانًا نحول الأمر إلى لعبة، أمثل أننى أُقبِّلها فيأتى بسرعة خاطفة، فأحتضنه وأجرى به إلى الشرفة ثم أُحكم إغلاقها. لقد صار بمقدورى نفسيًا أن ألمسه، أربت عليه، وأمسد شعره أحيانًا. صار بيننا رابط ما، وحينما كنت أعود إلى المنزل كنت أسمع نباحه. رنة التليفون التى خصصتها لى زوجتى كانت تعنى أننى من سيطرق الباب بعد لحظات. يظل يتقافز بجنون على ساقى محاولًا الوصول إلى أبعد نقطة منى، وكنت أبحث دائمًا عن كرته المضيئة وألقيها بعيدًا فيجرى ناحيتها ثم يختبئ بها فى مكان ما. فشلت تمامًا فى تعليمه كيف يعود بها، لأنه كان يتعامل معها باعتبار أنها ملكية خاصة، وحينما كنت أخبئها أسفل بطانية كان يأتى إليها بسرعة خاطفة رغم أنه لم يرنى. كانت مساراتها تصنع خطوطًا من الرائحة تصله بها. 

فى إحدى المرات أخطأت وأنا ألقى الكرة المضيئة فاستقرت على طرف طاولة دائرية قصيرة تستند إلى عامود وحيد، وكان يعلم بالتأكيد أنه لو قفز فوقها فستنهار به، لم يساعده العامود فى شىء لأنه كان يستقر فى منتصف الدائرة من أسفل، وبالتالى لم يكن هناك شىء يستند إليه، كانت الطاولة قريبة من كنبة ولكنه أيضاً لم يتخذ قرارًا بالقفز فوقها. كان يتوقف فوق الكنبة ويطلق صوتًا غريبًا، ويمد ساقيه الأماميتين باتجاه الطاولة دون أن يجرؤ على لمسها، ثم يهبط إلى الأرض موزعًا نظراته بينى وبين الطاولة مطلقًا ذلك الصوت، وكان هذا يعنى أننى استطعت حبسه فى تلك الفكرة فأتابع ما أفعله لأنه كان يتوقف عن إطلاق الصوت ويستمر فى مطاردة حلمه بإسقاط الكرة قافزًا من الكنبة إلى الأرض وبالعكس، ولكن زوجتى التى فطنت إلى اللعبة كانت تمسك بالكرة وتلقيها بعيدًا، فيبدأ بالعدو باتجاهها، وأنا أبدأ الأمر من جديد بعد اختفاء زوجتى، أحضر الكرة وأضعها فى نفس النقطة على الطاولة بالضبط. أحيانًا كنت أفتح «اليوتيوب» على الموبايل، وحينما يسمع أصوات الكلاب يبدأ بالنباح ويتراجع خطوات إلى الخلف ناظرًا إلى الموبايل من بعيد، وكنت أفكر فى أن الشعور الذى يتقاسمه الآن هو الخوف الشديد من الموبايل والرغبة فى عضه، ولكن الشعور الأول ينتصر بكل تأكيد لأنه لم يقترب مطلقًا منه، كما كان أحيانًا يطلق نباحه باتجاه التليفزيون وأفاجأ فى تلك اللحظة بكلب يجرى فى خلفية الصورة. حينما كانت زوجتى تغيب فى عملها وأخرجه من الشرفة كان يصيبنى بالقلق بسبب إحساسه البالغ بالأصوات، وقد كنت أفكر كثيرًا فى أننى تخلصت من الهلع الذى يصيبنى أثناء الوحدة، خاصة ما يتعلق بالأصوات القادمة من البعيد، كان يقف فجأة - على سبيل المثال - محدقاً إلى الطرقة المظلمة رافعًا ذيله ومطلقًا نباحًا عنيفًا، أو كان يجرى باتجاه باب الشقة مطلقًا ذلك النباح، ولكننى بمرور الوقت تعلمت أنه يشعر بأقدام من يصعدون السلم، زوجتى أو عمال توصيل الطلبات أو الجيران، ولو فتحت الباب فإنه يقفز باتجاههم، كان معظمهم يشعر بالذعر ويجرى، ويبدو أن الجيران على وجه التحديد كانوا يعملون حسابه لأنهم اختفوا تمامًا ولم ألحظ وجودهم منذ شهور. ربما كانوا ينظرون فى العين السحرية قبل أن يخرجوا من المنزل، وربما كانوا يتصلون كما أفعل بالموجودين فى شقتهم ليتركوا الباب مفتوحًا كما أفعل مع زوجتى أثناء صعودى إلى الشقة. أصبح هذا الكلب يعنى شيئًا بالنسبة لى، لا أستطيع الجلوس أو النوم إلا لو عبثت معه قليلاً، وكنت أنتظر اللحظة التى يبدأ خلالها فى مطاردة ذيله. يستمر فى الدوران حول نفسه عددًا مهولًا من المرات محاولًا أن يمسك بأبعد نقطة من ذيله ويفشل، وكنت أشعر بدهشة حقيقية من قدرته على المواصلة وأفكر كيف لا يشعر بالتعب، خاصة مع الشعور بالدوار الذى يتسرب لى رغم أننى لم أفعل شيئًا سوى المشاهدة.

فى معظم الأحيان كنت أدخن سيجارة بعد العشاء وأنا نصف مستلقى على كنبة مواجهة للتليفزيون وكان يقف على الأرض، ونبهتنى زوجتى إلى أنه صار يدخن معى. كان يدفع بلسانه فى الهواء جامعًا ما يستطيع من الدخان دافعًا إياه إلى جوفه، وكان أحيانًا يغلق عينيه كأنه يحبس الأنفاس، وبمرور الوقت صار هذا طقسًا عاديًا. نأكل، ونشرب، ثم يأتى إلىَّ مع إشعالى السيجارة، ويدفع ساقيه الأماميتين إلى كنبتى فيبدو رجلًا قصيرًا، وأركز من ناحيتى فى دفع كل الدخان إليه، وكان هو يمشط الهواء بلسانه محاولًا ألا يفلت منه أى خيط دخان!

كلبنا يحب المياه جدًا، يجرى إلى البانيو ويستسلم للدش، ثم تلفه زوجتى فى «فوطة» كبيرة، وبعد تجفيفه تمشط شعره، ويجلس مستكينًا لدقائق قبل أن يبدأ فى ممارسة متعته بالجرى فى جميع الاتجاهات، بعد أن عاود لونه الأبيض سيرته الأولى، وفى أيام الشتاء الصعبة كنا نُدخله إلى الشقة ونربط طوقه فى أى كرسى، خوفاً على الأثاث، فإحدى متعه كان عض المراتب وإفراغ حشواتها، وأيضًا عض الأحذية الجديدة وتحويلها إلى أحذية بالية، ولكنه كان يبدو حزيناً، وأصابنا ذلك بالدهشة فى البداية غير أن زوجتى توصلت إلى السبب، أنه لا يستطيع الحياة بعيدًا عن بيته فى الشرفة، وفى كل المرات التى جربنا ذلك تأكدنا أنه يُصاب فعلاً بنوبة اكتئاب حادة، يرفض فيها تناول الطعام أو الشراب، كما يكف عن الحركة والقفز فى أرجاء الشقة، وهكذا أجبرنا على وضعه فى الشرفة أياً كانت الظروف. قبل أن نخرج صباحاً تفتح له زوجتى الباب وتنظف الشرفة، تزيل بقايا طعامه القديمة، وفضلاته بصبر بالغ، ثم تضع له الطعام الجديد ومزيدًًا من المياه، وعلى مدار عامين تقريبًا لم يحدث ما يشير إلى ما جرى فى ذلك اليوم المشمس.

حينما عدت إلى المنزل، لم أنتبه إلى غيابه إلا بعد فترة، وسألتها عنه، وفى هذه اللحظة انفجرتْ فى البكاء. أخبرتنى بأنه سقط من الدور الثالث حيث نسكن. فى البداية أصبت بالفزع، لكنها طمأنتنى، وأخرجته. كان يرتجف كأنه محاط بالثلوج، حملتُه ووضعتُه فوق بطانية، وأمسكتُ طرفًا منها وغطيته جيدًا، فبدأ يستكين. لم يحدث شىء. لحسن الحظ - حسب رواية الجيران - أنه سقط بين أسياخ الحديد الموجودة فى شرفة جارتنا بالدور الثانى. حاولت الجارة تخليصه بكل الطرق ولكنها فشلت. البواب وبعض العاملين فى الجراج العمومى المواجه لنا انتبهوا، وتوقفوا بجوار الزرع بالأسفل وشكلوا بأيديهم وسادة، ثم دفعته الجارة حتى سقط بين أيديهم ومنها إلى الزرع فأصيب فقط ببعض الخدوش. عبرت سيدة فى تلك اللحظة وقالت لهم إن هذا الكلب يخصها، لكنهم لم يعيروها اهتمامًا فوقفت لحظات وغادرت. كان ما تفكر فيه زوجتى أنه سيعاود الكرَّة لو عاد إلى الشرفة. لم تصدق ما قاله البواب من أنه كان يراه لمدة ثلاثة أيام نائمًا على سور الشرفة مستمتعًا بالشمس، ويبدو أنه نام وحينما تحركت الستارة الثقيلة ألقته فى الهواء. لم يكن يقصد القفز. كانت تؤمن بأنه يريد أن يرحل، ولهذا قررت تغيير مكان بيته ووضعته فى الحمام الذى لا نستخدمه، ولكنها فى صباح أول يوم على ذلك فوجئت برائحة سيئة جدًا. كان أول مرة يفعلها فى بيته، أغرق البطاطين، وحينما أخرجته إلى الصالة بدأ كما لو أن فيروسًا أصابه لأنه كان يتعمد أن يفعلها فى أى مكان، وأصيبت زوجتى بالجنون.

الطبيب جاء أخيرًا بعد كثير من الاعتذارات، تفحصه، وقال إنه مصاب بشرخ فى ساقه، وكان هذا مدهشًا بالنسبة لنا، لأنه لا يعرج، كما أنه شديد العصبية. يرى السماء والطيور ويعرف أن هناك عالمًا آخر. كان نفس الطبيب الذى قال لنا منذ عامين إنه من الكلاب التى لا تغادر المنازل ولا ترغب فى الفسحة. اصطحبه إلى عيادته، وفى اليوم التالى اتصل بنا وقال إنه كلب طيب جدًا وقد عاد إلى هدوئه. كان لدينا شعور بأن هناك شيئًا كبيرًا ناقصًا فى المنزل. أعرف أن زوجتى تشعر بالحزن، ولكن لم أتخيل أبدًا أننى سأشعر كذلك بنفس الحزن. كلمات الطبيب فى صباح جديد أصابتنا بالضيق. هناك عروس مناسبة للكلب فى فيلا بالتجمع الخامس. سيدة الفيلا تشترط أن تحصل على الكلب لتزوجه من كلبتها. نحن لم نقصر فى ذلك الأمر. ذهبنا به إلى منزل أصدقاء فى «6 أكتوبر» ولكن كلبتهم خافت جدًا منه. حماسته المفرطة أدت إلى عكس ما يرجوه. الكلبة انزوت فى ركن بمنزل الأصدقاء وأحجمت عن الخروج تمامًا رغم كل المحاولات التى بُذلت معها، وهكذا عدنا به بتولًا.

بعد تفكير عميق اتخذت زوجتى القرار الصعب. كانت ترى أن الحياة فى فيلا ذات حديقة يستطيع الجرى فيها، حديقة لا مجال فيها للسقوط من أعلى أفضل له. ابتسمت أخيرًا وهى تنهى المحادثة مع الطبيب بعد أيام من الحزن المتواصل، وقالت لى إننا نستطيع زيارته كلما أردنا. بعد شهر تقريبًا حصلنا على العنوان من الطبيب الذى أكد لنا أن سيدة الفيلا بانتظارنا. فتح لنا خادم، وشاهدناه وشاهدنا، فى طرف الحديقة، وبجواره كلبة تشبهه تمامًا، وجرى ناحيتنا وتحركنا نحوه، وبدأ يتقافز حولنا بجنون للحظات، ثم جرى باتجاه عروسه، نظرا إلينا لحظة من بعيد، ثم غابا فى بيت بجوار الأشجار.