الأربعاء 24 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري

حقائق أثبتتها زيارة السيسى التاريخية للخرطوم: الزهد المصرى لم يكن تجاهلًا للسودان

‏‎زيارة الرئيس المصرى «عبدالفتاح السيسى» للخرطوم السبت 6 مارس لم تكن مجرد زيارة عابرة؛ لاعتبارات متعددة، فقد جاءت بعد عامَين كاملين من سقوط نظام «البشير» فى أبريل 2019 وما تبع ذلك التاريخ من تساؤلات كثيرة وجدل واسع جوهره: مع مَن تقف مصر فى التفاصيل الداخلية السودانية؟ مع المُكَوِّن العسكرى بحُكم خلفية الرئيس المصرى وخصوصية العلاقة العسكرية بين البلدَين التى لم تتأثر يومًا بطبيعة السُّلطة الحاكمة وخلفياتها، فقد ظلت على الدوام محل إجماع عريض، لدرجة جعلت البعض يرى أن العقيدة العسكرية للبلدَين تنطلق من أرضية متشابهة.



‏‎حُكِمَ السودانُ على مدار عقود من تيارات سياسية مختلفة، حُكم الاتحادى والأمَّة والحركة الإسلامية واليسار، ومعهم جميعًا ظل التنسيق العسكرى على حاله وبخصوصيته وفى مراحل على مستوى عالٍ. أمْ أن مصرَ تقف مع المكون المدنى الذى يضم قوى سياسية تملك علاقة طيبة مع القاهرة وعدد من هذه القوى كان يقيم فى مصر طيلة حُكم نظام «البشير» وأثناء قيادة التجمع الوطنى الديمقراطى المعارض.

‏‎هذه التساؤلات تزايدت مع تأخُّر الرئيس «السيسى» فى تسجيل هذه الزيارة، رُغْمَ زيارات تَمَّتْ من قِبَل الطرف السودانى باتجاه شمال الوادى، عسكريين ومدنيين، أبرزها زيارة الفريق أول «عبدالفتاح البرهان» رئيس مجلس السياده فى 2019، وبَعدها الفريق أول «محمد حمدان حميدتى» نائب رئيس مجلس السيادة فى 2020، وأخيرًا الفريق أول «شمس الدين الكباشى» عضو المجلس السيادى، ورافقه عدد من وزراء الحكومة المدنية مطلع العام الحالى. ليست عابرة كذلك؛ لأن الملفات الثنائية معقدة وكثيرة ومتزاحمة ومقلقة للبلدَين بذات القَدر وأهمها «سد النهضة»، الذى تطابقت حوله الرُّؤَى واتحدت المواقف بين مصر والسودان بعد تمادى إثيوبيا فى تطرفها ورغبتها الأحادية المتوحشة لتمرير ما تشاء كيفما تشاء دون أدنى اعتبار لمصالح دولتَى المصب. ‏‎

سد النهضة

‏‎فجأة شعر السودان أن تعامله السابق كان خطأ كبيرًا، فكيف لك أن تتعامل مع قضية ذات صلة وثيقة بالأمن القومى السودانى باعتبارها شأنًا فنيّا بحت يمكن الاتفاق حوله عبر خبراء ومختصين.. بينما يتعامل الطرفُ الآخر الإثيوبى مع السد باعتباره (كارت) يتم استخدامه حسب المصلحة الإثيوبية السياسية أو العسكرية وأخيرًا الفنية المهنية ذات الصلة بالسد فى ذاته.. هذا الأمر تحديدًا جعل من قمة «البرهان- السيسى» فى الخرطوم أكثرَ من كونها قمة عابرة تناقش القضايا ذات الاهتمام المشترك كما يُقال دائمًا فى الأحوال المشابهة. كيف لا والأحاديث المصرية حول السد التى قيلت فى اللقاءات المشتركة ونوايا إثيوبيا والعراقيل والتعنت كان واضحًا للقاهرة منذ البداية إلّا أن حُسن النوايا أقصر الطرُق إلى الجحيم.

‏‎ ما الجديد

‏‎الاتفاقُ على نقاط محدد وواضحة وبأزمان قاطعة، فمصير الشعوب لا يحتمل المراوغة، ومنها موافقة مصر على المبادرة السودانية الداعية إلى توسيع مظلة الوساطة لتشمل فاعلين حقيقيين بجانب الاتحاد الإفريقى الذى ثبت فشله فى التعامل مع ملف «سد النهضة»، لذلك كان لا بُدَّ من دخول الاتحاد الأوروبى والأمم المتحدة والولايات المتحدة الأمريكية التى سبق أن قادت مبادرة نجحت فى حسم

 90 % من القضايا، إلّا أن إثيويبا تراجعت وانسحبت من كل التزاماتها ورفضت التوقيع على الاتفاق بدعوَى وضعها الداخلى وقيام انتخابات محلية استخدم فيه التحالف الحاكم برئاسة رئيس الوزراء «آبى أحمد» سد النهضة باعتباره «كارت» انتخابيّا رابحًا، وبحسبانه المشروع القومى الإثيوبى الموحد للشعب المتقاتل داخليّا، ويبدو أنها اللحظة التى شعر السودان بأن إثيوبيا تتلاعب بهذا الملف وغير راغبة فى الوصول لاتفاق يلزمها بحفظ حقوق مصر والسودان البسيطة جدّا وغير المغالية، ومنها التنسيق فى ملء بحيرة السد أو على الأقل تمليك البلدَين المعلومات الكافية حتى لا يتضرر السودان تحديدًا فى مشاريع الزراعة والرى.

‏‎فى السابق كانت مصرُ فى الواجهة فى قضية «سد النهضة»، وكان البعض يصور القاهرة وكأنها تحاول إغراق السودان لمصلحتها بجَرِّه لتبنى موقف مصر حيال هذه القضية، بينما المصلحة السودانية تكمن فى قيام السد..ومَهْمَا حاولت إفهام البعض- وقتها- بأن المصلحة مشتركة وأن مضار السد لا بُدَّ من مواجهتها بالتنسيق بين الدول الثلاث لم يكن أحد ليستمع إليك، الجديد أن السودان هو مَن يتصدر المشهد الآن مضطرًا، لذلك بعد مواقف إثيوبيا، وللأمانة لا يوجد اختلاف فى موقف السودان تجاه «سد النهضة» منذ اليوم الأول حتى اللحظة، ظل السودان يَدعم قيام السد باعتباره حقّا لإثيوبيا، لكن بالمقابل لا بُدّ من عدم الإضرار بالسودان ومصر وتحقيق أعلى درجات التعاون، بينما الحقيقية على الأرض الآن أن إثيوبيا تتعامل مع السد باعتباره إحدى ادوات الضغط على السودان كلما زاد الخلاف السياسى أو الحدودى بين البلدين، وهذا ما لا يمكن لعاقل أن يتقبله.

 ‏‎المصالح

‏‎ملف «سد النهضة» رُغم أهميته والوصول إلى رؤية متطابقة من تشكيل آلية رباعية دولية وتحديد أجل زمنى قبل موسم الفيضان المقبل للتوصل لاتفاق؛ فإنه لم يكن الملف الوحيد، إذ إن التعاون الاقتصادى كان من ضمن القضايا المهمة والمُلحة بين البلدَين فى هذا التوقيت تحديدًا الذى يعانى فيه السودان أزمة اقتصادية طاحنة سبق لمصر أن مرّت بمثلها فى أعقاب ثورة يناير2011، وما بَعدها، ما يعنى أن الاستعانة بالتجربة المصرية ممكن بتحقيق تعاون اقتصادى حقيقى بالاستفادة من الإمكانيات المتوافرة للبلدَين، ومنها ما يمكن تحديده بصورة مباشرة مثل الربط الكهربائى والمشاريع الزراعية والربط البرّى الذى يُعَد شاهدًا على نجاح التعاون سابقًا بين القاهرة والخرطوم.

‏‎على المستوى الاقتصادى فإن حجم التبادل التجارى بين البلدَين يُعَد من أبرز إخفاقات هذه العلاقة، ورُغم الفرص والإمكانيات؛ فإن الناتج دون المستوى المأمول والمطلوب فى ظل التطورات الداخلية الجديدة فى السودان وبعد نجاح ثورة ديسمبر ووصول سُلطة تملك تفويضًا شعبيّا مقدرًا؛ فإن المطلوب القفز بهذه العلاقة من باب تحقيق المصالح لا أكثر ولا أقل، إلى آفاق أفضل فى ظل توافر إرادة سياسية معززة بدعم شعبى طيب يمكن البناء عليه. ‏

سياسيّا

‏‎أكثر ما يسجل لمصر وعليها فى الوقت ذاته زهدها فى المساهمة سياسيّا فى تقريب وجهات النظر بين القوَى السياسية على عكس دورها السابق فى دعم التجمع المعارض لنظام الإنقاذ منذ التسعينيات حتى توقيع اتفاق القاهرة 2006 الذى مَهَّدَ الطريق للمصالحة الوطنية بين المكونات الشمالية بعد توقيع اتفاق «نيفاشا» بين الحركة الشعبية (الحزب الحاكم الآن بجنوب السودان) والحكومة السودانية وقتها أو بتبنيها قبل ذلك 1999 للمبادرة «المصرية- الليبية» المشتركة، وهو الدور الذى تراجَع كثيرًا مؤخرًا، وقامت به إثيوبيا على سبيل المثال بين مكونات المرحلة الانتقالية وتُوّج بتوقيع الوثيقة الدستورية وبَعدها اتفاق السلام الذى تم بوساطة جنوب السودان فى جوبا.

‏‎الزهد المصرى قد يكون مرده إلى عدم رغبة مصر التدخل فى الشأن الداخلى والنأى بنفسها عن تعقيدات الأزمات المحلية، لكن من المهم التعامل مع هذه القضية من منطلق حرص بعض القوى نفسها على الدور المصرى فى ظل أدوار أخرى لا يتم النظر إليها داخليّا باعتبارها الأنسب، سواء كانت عربية أو إفريقية، إلا أن الحساسية التى يتم التعامل معها من قِبَل البعض ومحاولة إقحام مصر باعتبارها أقرب إلى هذا أو ذاك- كما أشرنا سابقًا- يجعل رغبتها فى الاكتفاء بتحقيق التعاون على المستوى الثنائى والرسمى هو الخيار الراهن وربما المستقبل، دون أن ينسحب ذلك على دعم القضايا الداخلية المتفق حولها أو بمَد يد المساعدة قَبل أن يُطلب منها كما فعلت إبان أزمة «كورونا» فى كل موجاتها وفى كارثة السيول والفيضانات؛ حيث كانت القاهرة الداعم الأكبر للسودان فى تقديم المساعدات بحجم فاقَ الدعم المقدم من بقية الأشقاء مجتمعين رُغم فارق القدرات والإمكانيات، لكن خصوصية العلاقة تظهر دائمًا فى الصعاب.