الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري

السفيرة إيناس مكاوى تروى سيرة مسحراتى المحروسة "1".. صانع السعادة هزم "العمى" و "العوز" بالإرادة والفطرة

هناك المئات من تعريفات للنجاح.. لكن التعريف الأقرب إلى الواقع هو إدراك الغاية مَهما كانت العَقبات، وهذا معناه أن النجاح مفهومه واحد، وهو تحقيق الهدف مَهما كانت المعوقات، لكن الغاية قد تختلف من شخص لآخر فقط فى نوعها، فقد تكون عينيّة كالحصول على المال أو معنوية كنَيل الاحترام أو حتى الشعور بالسعادة والرضا.



بل ذهب البعضُ إلى تعريف النجاح بأنه مقاومة الصعاب وتجاوُز المشاكل والصبر على المكاره، وبما أن النجاحَ عملية مستمرة باستمرار الحياة؛ فإن العَقبات ستستمر، ومن هنا جاءت فكرة «باب انجح»؛ حيث أشارككم كل أسبوع قصص نجاح من جميع دول العالم أبطالها شخصيات نجحت رُغْمَ المعاناة؛ لتصبح صلبة فى مواجهة المعوقات والحرمان والألم، التى أصبحت فيما بعد ذكريات ووقودًا لمزيد من النجاح، لعلها تكون حافزًا ومثالًا حيّا لكل إنسان يظن أن النجاحَ سهل؛ لنؤكدَ لهم أن النجاح والكفاح وجهان لعُملة واحدة.

 

أكثر من 24 عامًا مرّت على وفاته، ولايزال الناس يتذكرونه بشهر رمضان. فقد قدّم المُسَحّراتى عشرات غير سيد مكاوى إلّا أنه سيظل مُسَحراتى مصر الذى يفتقده الجميع، وهى واحدة من إنجازاته فى مسيرته منذ ميلاده إلى وفاته.

وُلِدَ «سيد مكاوى» فى شهر مايو عام 1928، فى حارة قبودان فى حى الناصرية فى السيدة زينب بالقاهرة. عاش ونَمَا فى وسط بسيط لأسرة فقيرة، وفَقَدَ البصرَ وهو طفل بعد إصابته بالتهاب فى عينيه، فعالجَته والدته بالطب الشعبى نظرًا لضيق الحال؛ حيث وضعت مسحوق البُنّ فى عينيه، ففَقَد بصرَه بالكامل.

 

لكنْ القَدَر الذى حرمه البصرَ جعل من نصيبه أن ينشأ فى الحى الذى خرج منه أعظمُ رُوَّاد الموسيقَى فى مصر، ومنهم «عبده الحامولى ومحمد عثمان»، وخرج منه أيضًا أعظمُ شعرائها، ومنهم «أحمد شوقى وأحمد رامى».

من مأذنة جامع الحنفى بالسيدة زينب جَلجَل صوته بالأذان، ولكنْ العود والموسيقَى سَحراه فخلع الجبّة والقفطان لكنه لم يخلع عنه لقب «الشيخ» الذى صاحب اسمَه طوال مسيرته ليكون ذا دلالة أخرى بخلاف الدلالة الدينية؛ حيث أصبح شيخ طريقة فى التلحين والغناء لا مَثيل لها.

وإذا كان «سيد مكاوى» قد رحل إلّا أن عينه التى كانت ترَى له كل شىء لاتزال حَيَّة تُرزَق، هى ابنته السفيرة «إيناس مكاوى» التى أسعدتنا بحكايتها عن سنوات الشقاء والنجاح والكفاح التى كانت شاهدة على معظمها ونقلت لنا عنه ما لم تكن شاهدة عليه بنفسها.

 

 الشيخ سيد مكاوى منذ أن وُلد يعيش معاناة منذ كان طفلًا من العَوز إلى فَقْد البصر.. كيف استطاع أن يتغلب على كل تلك العقبات؟ 

- حقيقة لا أجد وصفًا لشرح هذه القوة التى جعلته يتجاوز إصابته بالعَمَى؛ خصوصًا أنه وُلد مُبصرًا، وكان يرى حتى عمر تسع سنوات، لو كان وُلد كفيفًا كان من الممكن أن نقول إنه تقبّل إرادة الله وكيف سيفتقد ما لم يجربه، والأزمة الأكبر أنه كان طفلًا وقتها تخيّل أن الطفل عندما يفقد لعبة أو تقوم بمَنعه من اللعب يبكى وينهار ولا يتفهم أى ظروف، لكن أن يفقد بصرَه ويتحمّل؛ بل يواصل وينجح فهو أمرٌ يحتاج إلى إرادة فولاذية.

أتذكر أنه كان يحكى لى أن فى هذه الفترة أصيبت أخته بفَقْد البصر بإحدى عينيها؛ حيث أصيبتا بنفس الفيروس وتم علاجهما بنفس الطرُق البدائية بواسطة حلاق الصحة وقيام الوالدة باستخدام الوصفات الشعبية بكبس البُنّ والشاى فى الأعين، وكانت النتيجة فَقْد البصر.

لعلمى الكامل بكل تفاصيل طفولته القاسية كنت أسأله دائمًا: أين تعلمت كل ذلك؟ فطفولته كانت قاسية جدّاعلى جميع المستويات.

الفقر لم يكن ألمَه الوحيد، فالاضطهاد بأشكاله؛ لأنه كان مُعاقًا سواء فى المنزل أو خارجه؛ لأنه عبءٌ على العائلة، إهمال تعليمه كان نوعًا من القسوة من وجهة نظره.

 

 أنا لا أريد أن أتسبب فى إزعاجك بالخوض فى تفاصيل ربما لا تريدين ذكرها، لكن هل يمكن أن نعرف مَظاهر هذا الاضطهاد وكيف تجاوزه؟

- لا يوجد أى إزعاج، هو كان بالنسبة لأسرته كارثة وعبئًا، وكانوا يقولون له ذلك وأنه أيضًا مَصدر إحراج لهم، وكان يقول لى إن هذا الموقف كان من الجميع سواء الأم أو الأخوات، وكان له 7 أشقاء كان ترتيبه الأكبر فى الأولاد.

وكان يحكى لى أن الظلام الحقيقى لم يكن ظلام نور عينيه؛ وإنما ظلام الظلم الاجتماعى والأسَرى والمشاعر السلبية، هو كان يجيد العثور على الفرحة فى الحياة منذ أن كان صغيرًا وطوال عمره.

قرّر أن يتغلب على الجهل بنفسه والاستعاضة عن عدم ذهابه للمَدرسة بالذهاب إلى الكُتّاب ليحفظ القرآن، لكن شيخ الكُتّاب كان يضطهده، ولسُخرية القَدَر أن شيخ الكُتّاب كان كفيفًا وكان يضطهد الشيخ سيد لأنه كان كفيفًا!

كان شيخ الكُتّاب قرأ السورة بسرعة البَرق ويطلب منه أن يردد خلفه، وبالتالى لم يكن يستطيع أن يلتقط سوى أول أو ثانى آية ولا يدرك باقى الآيات فيقوم الشيخ بضربه بالخرزانة على ظهره.

وكما كان الشيخ يستغل أنه كفيف ليضايقه قرّر أن يستغل كون الشيخ أيضًا ضريرًا ووضع تحت ملابسه مخدتين على ظهره وذهب للكُتّاب فيقوم الشيخ بضربه وهو لا يتوجع حتى ييأس الشيخ من استخدام هذا الأسلوب معه، هو كان لا يملك إلا أن ينتصر على الشيخ بهذه الطريقة وكان يشعر بأنه أيضًا انتصر على الحياة .

ومع بلوغه التاسعة من عمره حفظ القرآن وجَوَّدَه ورَتله وأصبحت مهنته التى يمتهنها أن يقرأ القرآن فى المناسبات والمآتم، وعَظمته بعد أن ذاع صيته أنه الطفل الشيخ ذو الصوت الملائكى وأصبح معه مال كثير لم يبخل على إخوته وأسرته التى اضطهدته؛ بل أصبح عائلهم الوحيد.

 ولماذا لم يساعده إخوته الأولاد الآخرون؟

- هو كان يشعر بدوره كأخ أكبر. لك أن تتخيل أن أول نقود قبضها كان كل هَمّه أن يشترى بها طعامًا لإخوته.. الكثير من الطعام، تخيل طفلًا عمره ما بين 8 و9 سنوات ومعه أموال كثيرة بعد فقر شديد طبيعى أن يفكر فى شراء لعب أو حلوَى لنفسه وأن يرد على تنمُّر إخوته بإغاظتهم، لكن تصرّفه كان تصرُّف رجُل عاقل وراشد وكريم رَبّ أسرة، بمجرد أن رزقه الله تَوَجّه للسوق وعاد إلى المنزل مُحملًا بما لذّ وطاب ليطعم أفراد أسرته.

وعندما أصبح معه نقود قرّر أن يدخل المَدرسة ليتعلم من نفسه دون أن يوجهه أى شخص، فلم يكن أحدٌ يخطط له أو يهتم لمستقبله، فذهب إلى المَدرسة وطلب لقاء الناظر وطلب منه أن يلتحق بالدراسة، فرد الناظر وقال له: (وأنا أقبلك ليه دى مش مَدرسة معاقين)، فاقترح عليه أن ينضم كمستمع على أن يعقد له امتحانًا شفهيّا إن اجتازه يسمح له بالاستمرار فى التعليم، كان فى المرحلة الابتدائية وقتها، قرّروا أن يحضر فصول العربى والدراسات الاجتماعية، وفى حصص الرياضيات والعلوم يجلس فى الخلف ويُسمَح له بالمشاركة فى حصص اللغة العربية، لكن كان عنده ولع بالعلوم؛ خصوصًا الفيزياء، استمر معه طوال حياته. أنا أتذكر أننا قرأنا معه الموسوعة العلمية فى بداية الثمانينيات عن الفضاء فى يوم ونصف فقط؛ لأن أغلب المعلومات كان يعرفها ويسابقنا فى ترديدها على مسامعنا، ولك أن تتخيل أنه درس كل سنوات الدراسة ونجح بالسمع فقط.

 هل معنى ذلك أنه نضج مبكرًا وتحمَّل المسئولية ولم يعش طفولته ولم يلعب مع الأطفال فى سِنّه؟

- أنا أعتقد أنه استمتع بطفولته كطفل إلى أقصى درجة ممكنة، طفل يتمتع بها، هو أكثر واحد محبوب فى الشارع، وكان يلعب مع الأولاد، والمُضحك والمُثير للإعجاب فى الوقت نفسه أنه عَلّم نفسه لعب الدومينو وهو صغير وكان يحب ركوب الدرّاجات!

 عفوًا يا سيادة السفيرة، هل حضرتك تقصدين يحب ركوب الدراجات كأمنية فى نفسه؟

- لا، أقصد أنه كان يركب درّاجة ويسير بها. هل تذكر لقطة الشيخ حُسنى فى فيلم (الكيت كات) عندما طلب أن يقود الموتوسيكل هو فعلها فى الحقيقة، لكن ركب دراجة عادية وساعده على تحقيق هذه الأمنية شخصيات مهمة كثيرة كانوا يحيطون به أثناء قيادته للدراجة ويوجّهونه، كان على رأسهم «فريد شوقى ونادية لطفى» وشخصيات أخرى، وكانوا يقومون بهذه الجولة فى منطقة حى عابدين.

 كيف حدثت النقلة من شيخ يرتدى جبّة وقفطانًا حافظ القرآن ويعمل مقرئًا إلى مُلحن ومُطرب، وكيف درس الموسيقى؟

- هو كان دائمًا يقول الموسيقى خطفتنى، ففى هذه المرحلة، مرحلة المراهقة، قام بشراء «جرامفون» وأصبح هَمّه البحث عن الأسطوانات والموسيقى الجديدة ليعرف كيف يفكر العالم وكيف يقومون بتطوير الموسيقى فى الخارج. هل تتخيل أن هذا الرجل الشرقى (إللى بيقول الأرض بتتكلم عربى) ومزيكته شبه المشربية بيسمع غربى فقط؛ خصوصًا «موتزارت، بيتهوفن، تشايكوفسكى»؟!

فى المقابل موسيقى (المولد) نوع من الموسيقى الصوفية تستطيع أن تقول إنه كان حافظا لكل تراث المولد، فكان يدخل وسط المشايخ الكبار ويسمع ويغنى معهم أغانى المولد فى حُب الرسول وحُب الله. كان يسمع السيرة ويحفظها ويغنيها، فهو عاشها وهو يمارس قراءة القرآن كشيخ، فهو كان يقول إن المولد بيندثر، أتذكر فى أحد الاحتفالات بالليلة المحمدية، وكان سيغنى لحنًا جديدًا له أعدّه للمناسبة ولا أدرى ماذا حدث، تحوَّل على المسرح وظل طوال ساعة ونصف الساعة ينشد ويرتجل وكل من حوله مضطربون ومرتبكون لأنه خرج عن المتفق عليه، لكن الجمهور تفاعل معه وكانت ليلة تاريخية لدرجة أنه بعد ما خلص الناس وقفت قيامًا تصفق وطلبوا أن يعيد، لكنه كان أُجهد أو كما قال إنه لو حاول ألف مرّة لم يكن يستطيع أن يعيد ذلك مرّة أخرى، فهى فتوح من الله كما كان يسميها.

أتذكر أن (فهمى عمر) رئيس الإذاعة وقتها اتصل به 6 صباحًا وقال له: (إيه إللى طلع إمبارح ده يا عفريت، ده كان إيه؟!)، فرد الشيخ سيد: (والله ما عارف يا فهمى، ده العيل إللى جُوّايا إللى كان مستخبى)، وكأنه اختزن طفولته كلها وأطلقها فى هذا اليوم.

 كيف تعلّم الشيخ سيد عزف العود وحَوّل شغفة إلى دراسة؟

- لم يدرس الموسيقى فى مشواره وحتى آخر يوم فى عمره بشكل الالتحاق بمعهد والدراسة، لكن دائمًا كان يقول فى كل لقاءاته التليفزيونية والصحفية إن هناك اثنين هما صاحبا الفضل عليه، الأخوان رأفت (إبراهيم وإسماعيل) جمعت هواية الموسيقى والغناء بينهما وبين سيد مكاوى اللذان وضعا تحت تصرّفه مكتبة والدهما رأفت باشا الموسيقية، الذى كان قد استغل أمواله فى ممارسة هوايته المفضلة جمع الأسطوانات الموسيقية والغنائية إشباعًا لعشقه الفن، فكانت النتيجة مكتبة موسيقية ضخمة فى منزله، تضم- بلا مبالغة- آلاف الأسطوانات بين القديم والحديث، سواء لمشاهير الموسيقى الغربية، أو من تراث الموسيقى الشرقية لكبار الملحنين والمطربين آنذاك، أمثال: «عبدالحى حلمى، داود حسنى، سيد درويش، محمد عثمان، ودرويش الحريرى، وكامل الخلعى»، إلى جانب المعاصرين من الشباب وقتها، أمثال: «محمد عبدالوهاب، فتحية أحمد، وأم كلثوم» وغيرهم، وقد استغل ابنه محمود رأفت هذا الحب للموسيقى، وساهم فى تأسيس معهد الموسيقى المَلكى؛ لعشقه للموسيقى والموسيقيين، وكانت المكتبة بالنسبه للشيخ سيد بمثابه بوابة كنز.

ظل سيد مكاوى وصديقاه يسمعون يوميّا عشرات الأسطوانات من أدوار وموشحات وطقاطيق، ليس مجرد سماع فقط؛ بل يعيدونها لحفظها عن ظهر قلب، ثم يقومون بغنائها معًا على آلتى الكمان والقانون اللتين كانتا الأَخَوان يجيدان العزف عليها.

كان بيت الأخَوين يضم عددًا من الآلات الموسيقية، سواء تلك التى يجيدون العزف عليها، أو غيرها مثل البيانو والعود، وقد لاحظا شغفه بآلة العود تحديدًا فقرّر الأَخَوان رأفت أن يقدما مفاجأة لصديقهما الشيخ سيد، فإذا كانت ظروفه المادية والمعيشية لا تسمح له أن يتعلم العزف على آلة العود كما كان يحلم؛ فإن ظروفهما تسمح لأن يحققا له هذا الحلم البسيط.

دخل المُدرس الذى أحضره إبراهيم بك فسأله الشيخ سيد: (أنا إمتى يا أستاذ هتعلم أضبط العود لوحدى؟ قال له: ده بعد سنين طويلة علشان تاخد العود تضبطه. قال له: وحضرتك أخدت كام فى الحصة دى؟ رد المدرس وقال: أجرى عن الحصة جنيه.، فقال له: متشكر جدّا يا أستاذ).

بعد ما المدرس خرج قرّر أن السنين دى تبقى ساعات، واستمر يحاول ويتدرب حتى الصباح، ومع شروق شمس يوم جديد كان قد تعلم كيف يضبط العود. الإرادة هى التى علمته، وهذه كانت هى الحصة الأولى والأخيرة التى تعلم فيها سيد مكاوى الموسيقى).

ولا أجد تفسيرًا كيف كان يجلس على كرسى هزاز وكان يجلس إلى جواره مساعد يُملى عليه (دو، سى، را) .. لم أجرؤ على أن أطرح عليه السؤال حتى: كيف تعلمت النوتة الموسيقية وأنت لم تدخل معهد موسيقى ولا مَدرسة؟! لكن الرد الوحيد هو «الفطرة».