الأربعاء 24 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري

محمد رجاء يكتب: المنسى.. حدوتة قبل النوم

ربما يحتل هذا الفيلم مكانة خاصة خلال المسيرة الفنية لكل واحد من صُنّاعه الثلاثة «وحيد حامد شريف عرفة عادل إمام»، فرغم أنه شديد الإخلاص لمفردات العالم المألوف الذى اعتاد أن يقدِّمه كل واحد منهم على حدة فى أعماله؛ فإنه فى الوقت ذاته يتجاوز نفس هذه المفردات إلى منطقة جديدة ومميزة، ورغم أنه إلى حد ما يعد الخلاصة والمادة الخام وذروة تجربة الخمسة أفلام التى قدموها سويا (وهو الفيلم الثالث من الخمسة)؛ حيث نقد الواقع السياسى والاجتماعى بالاعتماد على فرضية خيالية أقرب للحلم أو لعبة «ماذا يحدث لو» إلا أنه الأكثر بساطة وتجريدًا وقربًا لحواديت الأطفال، تلك الرقيقة البسيطة الطيبة والتى بها النبل واضحًا، والشر صريحًا، والصراع بينهما يتصاعد بسلاسة.



«غادة» هاربة من الحفلة قادمة على شريط القطار حتى تصل لكشك تحويلة «المنسى» وكأنها شبح، كما جاءت الراقصة «دينا» على نفس شريط القطار وقد سقطت من إحدى المجلات الفنية التى يدمنها «المنسى». حدوتة حب مستحيلة وغير متوقعة تنشأ بينهما على نحو رقيق وهادئ كما جاءت الحدوتة المخيفة لـ «المحولجى» السابق والتى رواها لـ«المنسى» فى بداية ورديته تاركا إياه وحيدًا فى جوف الليل وسط أشباح الظنون والخيال. بواب الفيلا الذى يطرد «المنسى» المتطفل نهارًا لم يرد فى ذهنه أن يأتى نفس هذا الشخص ليلا متهجما على الفيلا وعلى من فى الحفلة كما لم يرد فى ذهن «المنسى» أنه سيتجاوز تلك الحدود وهو الذى يعرف حدوده جيدًا فى الواقع ويصر طوال الأحداث ألا يتخطاها أبدًا ليفرض فى النهاية سيطرته على هؤلاء، إنه ميكانيزم الاستدعاء، حيث تستدعى الأحلام والأمنيات والخيالات ما يحدث فى الواقع الفعلى للشخصيات خلال ليلة خاصة يرسمها القدر من خلال العديد من المصادفات ليؤكد لكل شخصية بعد هذه الليلة الفارقة شكل مكانتهم داخل هذه التركيبة الاجتماعية السياسية القاسية الخانقة والتى من الصعب أن تتبدل أو تتغير أو تتفاعل مع بعضها بعضًا، فقط هى متجاورة ومشحونة وتنتظر اللحظة للانفجار حال اصطدمت بعضها بعضًا مثل القطارات إذا غفل عنها المحولجى والتقت، ففى هذا الفيلم كل الأشياء تسلم بعضها بعضًا لدرجة يصبح فيها الشكل والمضمون شيئًا واحدًا.

فى تتابع رقيق من الغروب إلى الليل تأخذ كل شخصية فى الثلث الأول من الأحداث طريقها إلى مكانها خلال هذه الليلة، حيث «غادة» فى سيارتها إلى الفيلا و«المنسى» فى الميكروباص إلى كشك التحويلة، ويرسم التتابع «ميزانسين» دقيقًا لمسرح الأحداث حيث ذلك التجاور بين عالم طبقة الأغنياء المتمثلة فى الفيلا وعالم طبقة الفقراء المتمثلة فى كشك التحويلة وبينهما شريط القطار وذلك الطريق الوعر، يستغرق التتابع الكثير من الوقت لرسم هذه الحدود المسرحية لتأتى بعد ذلك كل كلمة أو حدث أو تطور درامى مترجمًا لهذه الأوضاع برقة بالغة دون مباشر

ولكن هل ما رأيناه من أحداث قد حدث بالفعل؟ أم إن هذا ما دار فى ذهن الأبطال بفعل حالة الاستدعاء واختلاط الحلم بالواقع وحالة التجاور هذه؟.. فبعد أن ضرب البلطجى المأجور وطرح «المنسى» أرضًا وهو جريح واقتنص منه «غادة» ليعيدها إلى الحفلة عنوة. هل نهض «المنسى» وذهب بالفعل ليستعيدها؟ هل كانت لديه القدرة بالفعل على ذلك؟ أم إن هذا كان مجرد حلم جاءه بعد سقوطه وقد انتهت الأحداث عند هذه اللحظة كما انتهت حدوتة زميله المحولجى المخيفة؟ ربما هذا وربما هذا، طالما المجتمع منقسمًا بهذا الشكل، وطالما التجاور على هذا النحو الهندسى القريب الغريب،وطالما اللحظة مشحونة القابلة للانفجار تلوح فى الأفق طوال الوقت، فربما يطغى الحلم والخيال على الواقع ويحدث ما رأيناه بالفعل وينهض «المنسى» لفرض هذه النهاية، وربما فى قراءة واقعية أخرى يطغى الواقع ونرى أن ما فعله عندما نهض وذهب لينقذ «غادة» كان مجرد حلم؛ حيث لم ينهض «المنسى» إلا صباح اليوم التالى لتكمل كل شخصية طريقها بعد أن عرف كل منهم بعد ما حدث حدوده ومدى حجمه بالمجتمع. 

ربما طغت جملة الحوار اللاذعة والشخصية المرسومة بذكاء لتعبر نظريًا عن فكرة سياسية على الحدوتة فى أغلب أعمال «وحيد حامد»، إلا أن الوضع يختلف كثيرًا فى (المنسى)، حيث يتراجع كل ذلك فى الخلفية رغم أنه حاضر لحساب طغيان الحدوتة، تلك الحدوتة السلسة البسيطة التى أتت على نحو رقيق وبليغ وساحر.