الجمعة 29 مارس 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري

مدينة الطالبات "8" أمل رغم الألم!

مررت بيدى على عباءتى، أنفضها من هنا وهناك، محاولة إنقاذ ما يمكن إنقاذه، ما هذا التراب الكثيف، اللعنة.. لا تتصوروا مأساتى وقتها، فشنطتى الصغيرة التى حملتها أمس على ظهرى، لم أضع فيها سوى عباءتين وبيجامة، بجانب ملابسى الداخلية، ما العمل إذن؟ على أى حال استسلمت لليأس؛ وخرجت من الحمّام، فى اتجاهى إلى الصالة، لأجد مدير المدرسة يجلس على الأريكة، وينظر إلىّ بسعادة بالغة، خطوت نحوه بثقة لا أعلم مصدرها، ولمحت ساعة دائرية كبيرة على الحائط، كانت تشير إلى الثامنة صباحًا، ثم وجدت المدير يمد يده لى، لم يفعلها من قبل، لكننى صافحته بثبات.



قال: «ألف مبروك يا ندَى». أجبته بطلاقة، وكأن الله فك عقدة لسانى؛ التى تأزّمت طوال أمس، قلت: «الله يبارك فى حضرتك»، لأجده يخبرنى بأن الوزير سيعقد مؤتمرًا صحفيّا الساعة الثالثة عصرًا، يتبعه حفل تكريم للأوائل.. وأن علينا حضور المؤتمر ومن بعده الحفل، فرحت جدّا، لكننى نظرت بحزن إلى عباءتى القبيحة، ووضعت يدىّ على وجهى من الحيرة، لأفاجأ بالممرضة العجوز ترفع صوتها: «أنا جايّة معاكم، لازم نشترى لبس لندى، عشان تشرّف البلد لمّا تقابل الوزير».

رفعت رأسى للسماء، وعينى على وشَك الانفجار بالبكاء، كم أحسَسْتُ بيُتمى وقتها، ودخلت فى غيبوبة صمت رهيبة، رسمت فيها ابتسامة على وجهى كالبلهاء، وعجزت عن النطق، لأجد السيدة تقترب منّى، وتجذبنى من يدى، وتستأذن المدير فى بضع دقائق، قالت: «استحمّى والبسى». ثم تركتنى على باب الحمّام، لكننى خطوت نحو غرفتى الجديدة، كى أجلب بعض ملابسى.

كل شىء سار على ما يرام حتى هذه اللحظة، وما تلاه أيضًا كان جميلًا، فسريعًا ما أنهيت استعدادى للخروج، ونزلت من المنزل، أتبع المدير والممرضة، التى أصرّت على أن نأخذ سيارة مخصوص إلى القاهرة، مَهما كلفها الأمر، سألت نفسى حينها: لماذا تفعل معى هذه السيدة كل ذلك؟ والحق أننى كنت فى قمة سعادتى بهذا الاهتمام، الذى لم أستشعره أبدًا بعد أمّى، للدرجة التى جعلتنى أنظر للممرضة بإعجاب، وهو ما لم أتصوره قبل ذلك اليوم؛ نهائيّا.

على كل حال، ركبنا السيارة المخصوص، التى وجدناها بعد جهد كبير، حتى وصلنا للقاهرة فى الحادية عشرة صباحًا، لأجد العجوز تطالب السائق بالذهاب إلى منطقة وسط البلد، وفى ظرف نصف ساعة كنا هناك، داخل ميدان التحرير، رأيته كثيرًا من قبل مع أمّى؛ فى رحلاتنا للأولياء.. ليتها معى، هكذا تمنيت وأنا أنزل من السيارة، فى بداية شارع طلعت حرب.. قبل أن تقول لى الممرضة: «ادخلى المحلات ونقّى إللى يعجبك». يا لكرمها!

لكننى لم أكن استغلالية، دخلت إلى محل فى بداية الشارع، واخترت فستانًا متواضعًا وجميلًا، وأصررت عليه؛ رُغْمَ مطالبة العجوز لى بشراء الأفضل، كان الفستان مبهجًا بحق، ولم أُرِد أيضًا تحميل تلك السيدة الكريمة أكثر من طاقتها، وسرعان ما فوجئت بأنها تفكر فيما هو أبعد من ذلك، فعندما خرجنا من المحل، وجدتها تشير إلى آخر، وتقول: «جيبى جزمة كمان». تصّوروا أننى لم أفكر فعلًا فى أمر حذائى المهلهل، حتى عندما ارتديت الفستان الجديد؛ فى بروفة القياس، ولم أقلعه ثانية، ألهذه الدرجة تعتنى العجوز بكل التفاصيل؟!

نعم، وأكثر من ذلك، كانت تحسب كل دقيقة من مهلة الساعة ونصف، التى منحها لنا مدير المدرسة؛ لشراء ما نريد، قبل أن ينصرف مع السائق بالسيارة، على وعد بالعودة؛ فور أن تتصل به العجوز.. المهم أننى كررت ما فعلته فى الفستان مع الحذاء، اخترته جميلًا ومتواضعًا أيضًا، ولحُسن الحظ كانت الأسعار مكتوبة، ولم أكلف نفسى عناءَ سؤال البائع، مثلما حدث فى محل الملابس، لدرجة جعلت الممرضة تشعر بأننى أبحث عن الأرخص.

ارتديت الحذاء، وألقيت بالقديم فى الحقيبة البلاستيكية، التى رميت فيها عباءتى القديمة، فور ارتدائى الفستان، وجرَت الأمور فى سلاسة، وخلال ساعة واحدة كانت السيدة الكريمة تتصل بمدير المدرسة؛ لإخباره بأننا ننتظره فى المكان ذاته، الذى تركَنا فيه.. وأنا أنظر بزهو إلى الفستان الجديد، وأصل بنظرى حتى حذائى، كنت سعيدة للغاية.. ولم تمُر عشر دقائق حتى وصلت السيارة؛ لأستقلها بهدوء، وكأننى أميرة متوّجة، كم هو جميل إحساس الإنسان بالنجاح، عندما يحصد ثمرة كفاحه، ويكافئه الزمن، ففى أقل من 24 ساعة تغيرت حياتى رأسًا على عقب، من شرّيدة مهددة بالضياع، إلى متفوقة مبشرة بكلية الإعلام!

كنا فى الواحدة ظهرًا، على باب وزارة التربية والتعليم، وسرعان ما أخذنى مدير المدرسة إلى مكتب وكيل أول الوزارة، لأجد زحامًا شديدًا، إلا أن الجميع صمت فور أن رفع المدير صوته، قائلًا: «ندى وصلت يا سيادة الوكيل، الثالثة على الجمهورية والأولى على الشرقية». نظر لى الجميع بابتسامة عريضة، قبل أن تنطلق التهانى من هنا وهناك، يا للفخر!

أفسح لى أحد الجالسين مكانًا على الصالون الأنيق، الملحق بمكتب وكيل الوزارة، الذى هنأنى بشكل خاص؛ حيث فوجئت به ينهض من مكتبه، ويخطو فى اتجاهى، ويمد يده إلىّ، قائلًا: «مبروك يا بنتى». لتعلموا أنها كانت المرّة الأولى التى أسمع فيها هذه الكلمة من رجل، والدى لم يقلها لى أبدًا، لدرجة شككتنى فى نَسَبى، هذا الرجل ما عاملنى يومًا على أننى ابنته.. وهذا ما جعل جسدى يقشعر عندما سمعت هذه الكلمة من وكيل الوزارة، لذلك اهتز صوتى كثيرًا عندما هممت بالرد عليه.

ولستر الله، سمعت صوتًا نسائيّا يقطع رَدّى على الوزير، وينادينى باسمى، التفت لأجدها تعرّفنى بنفسها، صحفية تريد أن تجرى معى حوارًا، «أصبحت مهمة يا ناس».. كنت أتمنى أن أصرخ بهذه الجملة وقتها، وسرعان ما تضاعف عدد الصحفيين، فى مكتب وكيل الوزارة، استعدادًا للمؤتمر الصحفى المنتظر.

حرص الكل على تهنئتى، وسؤالى عن ماضىَّ ومستقبلى، وأنا أجاوب بثقة.. تعجبنى لباقتى، لذلك سأكون مذيعة مشهورة.. كالعادة كنت أصبّر نفسى بتلك الكلمات، فأنا الضاحكة الباكية مثلما ترون؛ متخصصة فى الكوميديا السوداء من صغرى.. على أى حال مضت ساعتان، قضيتهما مبتسمة داخل المكتب، حتى دخل رجل عريض المنكبين، يرتدى بدلة أنيقة، مطالبًا الجميع بالذهاب إلى قاعة المؤتمرات، وقد كان.

 

حدثٌ استثنائى كان فى انتظارى، عندما دخلت إلى القاعة؛ حيث واصلت السير وراء خُطى وكيل الوزارة، مثل كل أوائل الجمهورية، الذين توافدوا على مكتب الوكيل؛ طوال الساعتين الماضيتين، حتى وصلنا إلى الوزير، الذى بدأ يصافحنا واحدًا تلو الآخر، وأنا تائهة وسط الجمع، لم يهتم بمعرفة أسمائنا حتى، وكأنه اكتفى بتهنئته لنا بالاسم، خلال مكالمته لنا أمس، وما إن صافحته بيدى، حتى رأيت ما لم أتوقعه أبدًا.

إنه ابن العمدة، ينظر لى راسمًا ابتسامة غريبة، ماذا أتى به إلى هنا؟! فى مؤتمر الوزير، كنت قد سمعت قبل أسبوعين من هذا اليوم؛ أن هناك حفلًا ضخمًا أقيم بمناسبة تخرُّجه فى كلية الحقوق.. لكننى لم أعلم السر وراء وجوده بقاعة المؤتمرات، إلا أنه اجتاز الجميع حتى وصل إلىّ، مادّا يده. تبّا؛ ما هذا الإحراج؟ قابلته يدى بصعوبة، أمسكها برقة، وقال: «حبيت أقولك مبروك هنا». ابتسمت باستغراب بالغ، ولم أفهم حتى انتهاء المؤتمر سر وجوده المفاجئ، لكننى شعرت بأننى ملكة بحق، فى حضرة فارسها.

استيقظت من نوبة حرجى، على صوت الوزير، يطالبنا بالجلوس فى المقدمة، على الكراسى الأمامية للقاعة، ليبتسم ابن العمدة مستأذنًا، بعدما أبدَى إعجابه بأناقتى، وأنا فى حالة يُرثى لها، فالخجل يكاد يقتلنى.. للمرّة الأولى أشعر بهذا الإحساس، ميلاد الحب فى قلبى.. هذا ما شعرت به بالفعل، فى تلك اللحظة.

لكن كلمات الوزير مدّت لى طوق النجاة، للهرب من طوفان المشاعر المفاجئ؛ حيث التزمت حرفيّا بما قال، واتجهت سريعًا أبحث عن مكان لى فى المقدمة، باعدة عينى بصعوبة عن نظرات ابن العمدة، التى تتابعنى عن كثب، اضطربت بشدة، لكن بدء المؤتمر كان كفيلًا بعودتى لطبيعتى، وأنا ما زلت أتساءل: ماذا جاء بابن عمدتنا إلى هنا؟!