الثلاثاء 16 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري

أخطر قرار سينمائى عالمى فى 2020: الـ«Covid» الذى قتل هوليوود

صحيح أن السينما تنبّأت بموتها لحظة ولادتها على يد الإخوة «لوميير»، حينما قال الشقيق الأكبر «لوى» إن «السينما كاختراع لا تحظى بأى مستقبل»، وصحيح أن المخرج العظيم «جان لوك جودار» أعلن رسميّا «موت السينما» فى الختامية الشهيرة لفيلمه (أسبوع) إنتاج 1967، وهو ما يذكرنا قليلاً بتقاليد إعلانات الموت.. «موت المؤلف» لـ«رولان بارت»، و«موت الفلسفة» لـ«ستيفن هوكينج» و«ريتشارد رورتى».



 

ولمّا كان الفضاء السينمائى قد خرج منذ ما يربو عن 50 عامًا من مرحلة التنظير والنقد النهم، أو مرحلةالـ«سينافيليا»Cinephilia، التى رأت النور مع مُنظر السينما العظيم «أندريه بازان» فى أعقاب الحرب العالمية الثانية، ثم صعود الموجة الفرنسية الجديدة والواقعية الإيطالية الجديدة، فهى الآن بلا شك على مفترق طرُق.. مرحلة جديدة تمامًا؛ بل جذرية تنضح بالتساؤل الذاتى حول هويتها، بل وجودها؛ خصوصًا فى ظل تفشى فيروس «كورونا».

العام الماضى، أثار المخرجُ العملاق «مارتن سكورسيزى» جدلاً واسعًا حين قال إن أفلام الأبطال الخارقين التى تنتجها شركة القصص المصورة «مارفل» ليست سينمائية؛ بل ترفيهية واستهلاكية، سلعة تُقدم لـ«متلقين سلبيين» بتعبير «ماك لوهان»، عندئذ أعاد الجمهور والنقاد والمعلقون إشكالية موت السينما وتسليع الفن عمومًا بعد صعود ظاهرة البث الحى على يد شركة «نتفليكس»، أو فى ظل ما وصفته قديمًا مدرسة فرانكفورت الألمانية بـ«صناعة الثقافة.. عالم الخلل والفوضى» الناجم عن زواج التكنولوجيا بالمال.

يوم الخميس الماضى طرحت عملاقة البث الإلكترونى «إتش. بى. أو» إعلانًا ترويجيّا فريد الطراز يحوى مكتبة تشمل جميع الأعمال التى ستعرضها الشبكة حتى عام 2022، وكان هذا الحدث المهم بعد أسبوعين من قرار مصيرى خطير اتخذته شركة «وارنر بروس» بطرح جميع أفلامها المقرر عرضها فى السينمات خلال العام المقبل على منصة «إتش. بى. أو ماكس»، تزامنًا مع طرحها فى دُور العرض.

لذا، فقد تضمنت المكتبة أسماءً لأعمال ضخمة مثل الجزء الرابع من سلسلة أفلام (ماتريكس) والجزء الثانى المرتقب من فيلم (المرأة الخارقة)، والنسخة المنقحة من فيلم (فرقة العدالة) والتى تحمل اسم المخرج «زاك سنايدر»، وفيلم (قديسون شتى فى نيوارك) المقتبس عن مسلسل (آل سوبرانو)، إضافة إلى أعمال تليفزيونية مهمة، مثل مسلسل (بيت التنانين) المقتبس عن رائعة (صراع العروش).

لم يفُت وقتٌ طويل حتى عقدت شركة «ديزنى» حدثًا مُهمّا واستثنائيّا، أزاحت فيه الستار عن مشاريعها المستقبلية، والتى ستطرحها عبر شبكة «ديزنى بلس»، منها 37 مشروعًا فقط يحمل اسم شركة القصص المصورة العملاقة «مارفل»، منها أسماء ارتقبها الجمهور لسنوات، مثل الجزء الثالث من (حراس المجرة) ومسلسل (لوكى)، هذا ناهيك عن المشاريع الأخرى الخاصة بـ«ديزنى» نفسها، مثل سلسلة (حرب النجوم)، التى ستطرح الشركة 8 أعمال جديدة مقتبسة عنها.

كان أول الأصوات التى انتقدت قرار شركة «وارنر» هو المخرج البريطانى «كريستوفر نولان»، الذى خرج عن صمته ولأول مرة منذ شهور طويلة وقبيل طرح فيلمه (عقيدة) فى السينما، محذرًا من موت السينما وتأثير إجراءات الإغلاق العام بسبب «كورونا»، على صناعة السينما، لكنه وصف الشهر الجارى فى تصريحات لمجلة «هوليوود ريوبتر» شركة «إتش. بى. آو» بأنها تمتلك «أسوأ شبكة بث حى» فى السوق، وقال إن قرار «وارنر» لا ينم عن أى عقلية اقتصادية.

رهان «نولان» على نجاح (عقيدة) وعلى أن السينما لا تعيش رمَقها الأخير، قد فشل بحسابات السوق؛ بَيْدَ أنّ الفيلم حقق إيرادات بقيمة 362 مليون دولار مقابل ميزانية بلغت 200 مليون دولار، وهى أعلى ميزانية خصصها «نولان» فى تاريخه، وبحسب تقرير نشرته صحيفة «نيويورك أوبزريفر»، فلكى يصل الفيلم لنقطة التعادل التى تكون عندها التكلفة والإيرادات متساوية بحيث لم يُقدم ربحًا أو خسارة، سيكون على الفيلم أن يجنى على الأقل 400 مليون دولار، وهذا لم يحصل.

الناقدة الأمريكية الراحلة «سوزان سونتاج» قالت قديمًا إن السينما توشك مع نهاية القرن العشرين على أن تكون «فنّا مُنحطّا»، محيلة ذلك لأسباب شتّى، على رأسها موت الولع بالسينما كتجربة وجودية فنية، أصبح المشاهدون كالذين وصفهم «نزار قبانى» ذات يوم بأنهم «بهاليل لبسوا قشرة الحضارة»، أصبحوا يطالبون- بشكل تواطئى- بأن تمارس عليهم الصورة بكل تجلياتها مزيدًا من العنف، تفرض قوتها بشكل كلى على الناظر والمشاهد وتخاطب رغباته البدائية.

أصبح العنفُ عنفًا رمزيّا كما قال «بيير بورديو» حينما حذر من حقيقة أن المنطق التجارى هو الذى يفرض نفسه على كل الإنتاج الثقافى، فهيمنة «الأوديمات» أو نسبة الإقبال أو «إيديولوجية الترفيه» والطفرات التكنولوجية، أسفرت عمّا أسماه مبتكر نظرية الميدولوجيا/علم الميديا، الفيلسوف الفرنسى «ريجيسديبريه» بـ«الشمولية البصرية».

خدمة البث الحى باعتبارها إعادة إنتاج للتليفزيون بشكله القديم، ألغت الصورة السينمائية التى تتوسل بالصورة من أجل الإبداع، فى حين أن خدمة البث الحى تتوسل بالصورة من أجل الاتصال والإشهار، المهيمن فيها ليس المنتج والمخرج بقدر المبرمج.

يناير الماضى، نشرت «هوليوود ريبورتر» تقريرًا مُهمّا قالت فيه إن عائدات شبّاك التذاكر فى الولايات المتحدة انخفضت بنسبة 4% بما يعادل 11 مليار دولار فى 2019، فى حين وصلت أسعار تذاكر السينمات إلى نحو 9 مليارات ونصف المليار دولار، فى حين تشير إحصائيات الآن إلى أن عدد تذاكر السينمات التى بيعت حتى الوقت الراهن داخل الولايات المتحدة بلغت 22 مليون تذكرة بعائدات فى شباك التذاكر وصلت 2 مليار فقط وبنفس ثمن التذكرة.. باختصار، انتصر فيروس «كورونا» على السينما وانهارت الصناعة هناك.

بالكاد يزيد متوسط الاشتراكات الشهرية لخدمات البث الترفيهى عالميّا على 8 دولارات، وفى المقابل يتاح للمشترك مئات الأفلام والمسلسلات والبرامج الترفيهية والعروض الوثائقية التى تقدمها شبكة البث وهو يجلس فى منزله يحملق فى إطار الشاشة.. أمام الصورة فى حالة الـ«خاص مطلق» حسب «رولان بارت»، فمن سيدفع ثمن تذكرة أعلى من 8 دولارات، من أجل «الاحتفال المشخص» الذى وصف به «ديبريه» إحساس الوحدة والذوبان اللا شخصى أثناء الجلوس فى القاعة المظلمة أمام رهبة الشاشة العملاقة وسط المئات؟

يرى بعض النقاد الشباب فى الولايات المتحدة، أن السينما لن تموت أبدًا فى عالم ما بعد «كورونا»، لكنها ستتحول على الأقل إلى نوع من أنواع الثقافة العليا.. فن نخبوى تمامًا كالأوبرا والمسرح، ستتأخر السينما وستنزاح من المركز إلى الهامش، سيتم نفيها، لكنها لن تنقرض.

أن تتأخر يعنى أن تبقى على قيد الحياة فيما يتعدى المقبول والطبيعى، أن تصبح مُعلقًا على الحاضر فى غير أوانك، وهذا يتضمن حقيقة أن لا أحد يستطيع تجاوزه أو التعالى عليه أو الإفلات منه. يقول «إدوارد سعيد»: «كل ما يستطيع المرء هو أن يعمق التأخر».