الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري

مدينة الطالبات "6" في بيت السفاحة!

يا لها من مأساة، كابوس مرعب، لم أتصور أبدًا أننى سأكون فى هذا الموقف.. تلك السيدة تتحدث عن جريمتها على الملأ؛ بل تفخر بها، كيف تقول ما يجعل بدنى يقشعر، ببساطة وعادى.. لكننى رددت على هذا العبث بصمت رهيب؛ ووضعت عينى فى الأرض.. ويبدو أن العمدة شعر بخجلى؛ حيث وجدته يطالبنى بالجلوس على الأريكة التى تقبع إلى جانبى، بعد باب منزل العجوز، قليلة الحياء، كما وصفتها فى سرى وأنا أجلس بغضب، غير عابئة بالنظر إليهما، ولا أزال غارقة فى إعصار حيائى.



 

وبمرور ثوانٍ، وصل فتى أحلامى، وقتها، ابن العمدة، كنت أشاهده عن بُعد، عندما يمر فى شوارع قريتى، وكأنه فارس مغوار، لا يعبأ بأحد، كان طويلًا عريضًا، يهاب منه الجميع، رغم أن هيبة والده تأثرت كثيرًا بعد الثورة عليه؛ حيث حاصره بعض شباب القرية فى أحد الشوارع؛ منذ عامين، وطالبوه بإجراء انتخابات لاختيار عمدة جديد، فاتهمهم بالجنون، وكان رد فعلهم قاسيًا، ضربوه وأهانوه، حتى تدخل عقلاء القرية وأنقذوه، هذا ما رواه أبى لأمى وقتها، والشماتة فى عينيه.

 

وأمام مفاجأة دخول ابن العمدة إلى منزل العجوز، زاد توترى لدرجة لم أشعر بها من قبل، ضممت يديّ محاولة السيطرة على ملامحى، حتى سارعنى الزائر المفاجئ؛ قائلًا: «ألف مبروك يا ندى». قال تلك الكلمات؛ وهبت رياح خمسينية بداخلى، اضطربت لدرجة أفقدتنى النطق، لم أستطع الرد عليه، حقًا خُرست، لأجد رأسى يهتز أعلى وأسفل، دون أن أبتسم حتى.. كم كنت حمقاء.

 

أفقت من خجلى على صوت ابن العمدة، مرة أخرى، لكن لم يُوجِّه حديثه لى هذه المرة، يبدو أنه أراد الخروج من حرجه؛ بسبب عدم ردى عليه بكلمة واحدة.. فقال لوالده إنه بحث عنه فى أكثر من مكان، حتى علم أنه هنا؛ بمنزل الممرضة.. تمنيت لو انشقت الأرض وابتلعتنى للمرة الثانية، بالتأكيد علم الشاب ما دار فى بيتى قبل دقائق، يا فضيحتى، يرضيك ما فعلته فيّ يا أبى، الناس لا تُبتل فى فمها فولة، والكل سيسمع عن ثورتى ضدك، وبالطبع سيقولون عنى قليلة التربية، وأولهم ابن العمدة، يا للعار!

 

وضعت عينى فى الأرض كالعادة، لا أريد أن يرى أحد وجهى الأحمر، وأنا متأكدة أنه يفضح خجلى بكل ألوان قوس قزح، والدليل تلك النار التى ألهبت ملامحى.. لم أعش هذا الإحساس من قبل، لكننى فى كل الأحوال استطعت المقاومة، واستمعت إلى باقى الحوار بتركيز، كان ابن العمدة يريد الحصول على سيارة والده الفارهة، التى رأيتها فى شوارع قريتنا من قبل، لكن لم تصادفنى رؤية الشاب وهو يقودها.. المهم أن العمدة لبى طلب نجله سريعًا، ووضع يده فى جيب جلبابه، وأخرج منه المفتاح، بينما ابنه يتحرك فى اتجاهه بزهو؛ ليأخذ ما أراد، قبل أن يلتفت إليّ فجأة، قائلًا بلا مقدمات: «مبروك مرة تانية».

 

تماسكت هذه المرة، وقلت بثقة: «الله يبارك فيك». لم أعلم كيف فعلت ذلك.. ولم أكتف، بل ظلت عيناى مصوبتين تجاه الشاب، حتى تحرك من مكانه بصعوبة، وكأنه يرفض فراق نظراتى.. كيف تحولت إلى جريئة فى لحظات؟ يا لشجاعتى!.. اتبعته بعينى حتى خطا فى اتجاه الباب، وخرج منه، وسرعان ما التفت، وخطف نظرة أخرى تجاهى، ربما أراد التأكد من أننى ما زلت أتابعه، أو أراد وداعى قبل أن يغادر المنزل، خرج ولم يُغلق الباب وراءه.. فأبواب منازل قريتنا لا تغلق؛ ما دام العمدة بالداخل.

 

متى أراه مرة ثانية؟ أتعهّد بأننى سأكون جريئة، هذا فتى أحلامى، لا بُدّ أن أقتنص قلبه.. هكذا كنت أتحدث مع نفسى، بعد اختفاء ابن العمدة من المشهد، لأشعر بأننى أعيش أهم يوم فى حياتى، فالله رضى عنى، وشملنى برحمته وكرمه الواسع، شكرًا يا ربى على عطاياك.. قلت هذا، لأفيق على إحساس مرعب.

 

وجدت الممرضة العجوز تقترب منى، وتربت بيدها مرة أخرى، لكن على قدمى، كدت أصرخ: لا أريدها أن تقترب منى يا ناس.. إلا أنها استوعبتنى سريعًا بنظراتها الحانية، وسألتنى: «أعملك إيه على العشا؟!» هذا السؤال لم أسمعه منذ رحيل أمى، استقبلته منها بهدوء، وأجبت: «الحمد لله شبعانة».. لم تستمع العجوز لى، وأصرت على النهوض لإعداد الطعام، لأبقى وحيدة مع العمدة.

 

انتهز الرجل فرصة وحدتنا، وجلس على الكرسى المقابل لأريكتى، وأخذ يتحدث عن مصير أيامى المقبلة، بدأ بالتأكيد على أنه سيقف بجانبى إلى آخر الطريق، كان رجلًا طيبًا، آفته الوحيدة هى العصبية؛ إذ يُحكى أنه ذات مرة، حضر جلسة عرفية، لخلاف على منزل أقيم على أرض زراعية، اشتعل بين جيران المنزل وصاحبه، بعدما تعدى الأخير على مترين من الأرض المجاورة له، على طول ليس بقليل.

 

لكن ما زاد الطين بلة، أن المتعدى ضاعف من تحديه لجيرانه، رافضًا الامتثال لحكم كبار القرية؛ بدفع مائة ألف جنيه غرامة، أو هدم المنزل.. ومع إصراره على الرفض، وقف العمدة والشرر يخرج من عينيه، وقال: «سأهدمه بيدى». ولما تحداه صاحب العقار، قائلًا: «لو راجل اعملها». أخرج العمدة مسدسه من جيب جلبابه، وأطلق النار.

 

لم يُصب الرجل بالعيار، لكنه جرى متوعدًا العمدة بتأديبه على فعلته، ليطلق الأخير رصاصة أخرى نحو صاحب المنزل، الذى سقط على الأرض صارخًا، والدماء تسيل من قدمه، إثر إصابتها بالطلقة.. وبعدها أصبح العمدة مهددًا بالسجن، وكلفه الأمر دفع ربع مليون جنيه تعويضًا للرجل، فى سبيل الصلح، وحمايته من قضاء ليالٍ مظلمة خلف القضبان.

 

لكن الأكيد أن العمدة بعد هذه الواقعة أصبح أكثر هدوءًا، بدليل رد فعله على الثورة التى اشتعلت ضده؛ حدثتكم عنها من قبل، إذ قال الناس إنه لم يخرج سلاحه لمواجهة الشباب، رغم إهانتهم له، يبدو أن مشهد الدم قد غيّر بداخله الكثير.. كنت أعتقد ذلك؛ لكن الواقع أثبت العكس.  

نعود لجلسة حسم مصيرى، عندما نظر إلىَّ العمدة بحزم، وأنا أجلس أمامه على الأريكة؛ فى صالة منزل العجوز، ورفع صوته بهدوء: «قالوا إنك عاوزة تدخلى كلية الإعلام؟!». نظرت إليه بثبات، وأخيرًا تكلمت، قلت بفخر: «بالضبط». ورفعت رأسى لأعلى، وكأننى ما زلت أتحدث أمام الكاميرات.. رد الرجل: «تبقى بسيطة». ثم وضع أصابعه حول ذقنه، كأنه يخطط لشىء ما، وسريعًا ما قال: «هتفضلى هنا لحد ما تدخلى المدينة الجامعية».

 

أنهى حديثه الحاسم، ثم رفع صوته ينادى الممرضة العجوز، التى وصلت من المطبخ فى ثوانٍ، ملبية النداء، ليقول لها: «ندى هتقعد عندك شهرين تلاتة؛ وبعدين تسافر عشان كليتها»، ردت العجوز بسعادة: «تشرّف وتنور». كان رد فعلها حقيقيًا جدًا، رغم استنكارى له، واستغرابى منه، هالنى ترحيبها، لدرجة جعلتنى أشعر بقسوة الوحدة التى تعانى منها تلك السيدة، ناهيكم عن ألم إحساسى بأننى مضطرة إلى النوم على فرشة هاتكة أنوثتى، كان شعورى بالقسوة مضاعفًا.. فأنا وهى نحتاج لبعض، رغم كل التناقضات.

 

بدأ العمدة يلملم عباءته، فى علامة على استعداده للرحيل، ثم عاد ليحدثنى، قال إنه بعد التحاقى بكلية إعلام سأضطر إلى العيش فى القاهرة، بعيدًا عن بلدتنا.. كنت أعلم ما يقوله الرجل جيدًا.. فزميلتى التى تكبرنى بعام قالت لى ذلك من قبل، كنا نحلم معًا بدخول نفس الكلية، لكن والدها رفض التحاقها بها؛ بعد حصولها على الثانوية بتفوق، وأجبرها على الدراسة بكلية الآداب فى بنها، حتى تكون قريبة من قريتنا، رغم أنها أبدت استعدادها للسفر يوميًا، ذاهبة آيبة بين القرية والقاهرة.. الحمد لله على قيامى بالثورة، لن يقف أحد فى طريق أحلامى، أبدًا!

 

وبعيدًا عن زميلتى، طمأننى حديث العمدة بشدة، بعدما شعرت بأن حُلمى سيتحقق، عاجلًا أم آجلًا، كما أن كلامه عن المدينة الجامعية، جعل أشياء كثيرة تحسم بالنسبة لى، فهذا يعنى أن والدى لن يعترض على ذلك، وأننى تحررت فعلًا، وأصبحت قادرة على تحقيق ما حلمت به، وبيدى.. يا لفرحتى وأنا على بُعد أيام من هذا الحلم.

 

لكننى فى الحقيقة كنت على موعد مع كابوس مزعج، لا يزال أثره مرسومًا على جبهتى حتى الآن، وتحديدًا بين حاجبى، ولأننى لم أكن أعلم بهذا المصير، فرحت كثيرًا بحديث عمدتنا، ولم أفكر هذه اللحظة فى أى شىء، حتى الليلة الغامضة التى كانت تنتظرنى؛ فى بيت العجوز السفاحة. ..(يتبع)