الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري

نهاية الديمقراطية الغربية وتفكيك الأساطير المؤسسة للولايات المتحدة الأمريكية

مصرع وهْم الحريات الغربية تحت أقدام «جو بايدن»

على مدار سنوات الحرب الباردة، كانت الدعاية الغربية تروّج للديموقراطية الغربية وأنها الفريضة الغائبة فى دول الكتلة الشرقية والشرق الأوسط، وهكذا ثارت شعوب أوروبا الشرقية على الوصاية السوفيتية قبل أن تصل الثورة إلى قلب روسيا، وينهار سور برلين من أجل الديمقراطية واللحاق بالحلم الأمريكى والاتحاد الأوروبى.



أصبحت الديمقراطية وحقوق الشعوب فى تقرير المصير غاية وليست مجرد وسيلة للعيش الكريم المشترك للشعوب، أصبحت غاية يمكن أن تفكك دولًا ولا تعود حتى اليوم كما جرى فى سوريا والعراق وليبيا واليمن على وقع سنوات ما يُعرف بالربيع العربى.

ولكن الترويج للديموقراطية الغربية والتلويح بحوافز حق الشعوب فى اختيار حكّامها لا يعود إلى سنوات الحرب الباردة أو حتى الحرب العالمية الثانية، ولكن الشرق الأوسط شهد خطاب «جئناكم محررين وليس غزاة» منذ بدء الحملة الفرنسية على مصر والشام أواخر القرن الثامن عشر، ثم الغزو البريطانى للعراق أثناء الحرب العالمية الأولى الذى كان يحمل العبارة ذاتها.

وحينما ذهبت الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا فى سنوات جورج بوش الابن وتونى بلير لغزو أفغانستان عام 2001 ثم العراق عام 2003، كانت فكرة نشر الديمقراطية حاضرة فى تلك الحملات العسكرية التى لايزال اقتصاد الولايات المتحدة قبل الشرق الأوسط يدفع ثمَنَها حتى اليوم.

كانت دائمًا الديمقراطية الغربية على رأس دبابة الاستعمار الغربى القديم والحديث منذ قيام الثورة الفرنسية، وللمفارقة ورُغم ديباجات التنوير الفرنسى؛ فإن الثورة الفرنسية استلهمت أغلب أفكارها من الثورة الأمريكية، التى بدورها استلهمت أفكار الديمقراطية والفيدرالية وحُكم الشعب من أفكار الاستعمار الأوروبى للقارة الأمريكية، وأن المستعمرين الأوائل أتوا من أوروبا من أجل تحرير القبائل الأمريكية أو الشعوب الأمريكية الأصلية من الجهل والتخلف.

لم تكن الديمقراطية والقيم الجمهورية والانتخابات الحرة واحترام إرادة الشعوب وصناديق الاقتراع مجرد أداة غربية للاستعمار أو وظفت سياسيّا فى حروب الغرب من أجل استعمار القارة الأمريكية وأستراليا ولاحقًا فى الحرب العالمية الأولى والثانية والحرب الباردة وحروب تفكيك يوغوسلافيا ولاحقًا حروب الربيع العربى فحسب، ولكنها كانت من الأساطير السياسية المؤسّسة للولايات المتحدة الأمريكية، والمسعى الدائم للثورات الشعبية على مدار 200 عام فى جميع أنحاء العالم، سواء كانت ثورة اشتراكية أو ليبرالية، ففى جميع الأحوال كان «حلم الديمقراطية» والاحتكام إلى صناديق الاقتراع هو سعى جميع ثورات الشعوب فى العصر الحديث.

ولقد اتضح على مدار عقود مدى زيف فكرة الديمقراطية، وأنها ليست فكرة أو أيديولوجيا ولكن أداة سياسية فحسب، إذ إن أغلب الدول الغربية تعتمد نظام الحزبَيْن الكبيريْن وهما فى واقع الأمر بينهما شبكة مصالح مشتركة، كما أن جميع جرائم الغرب الاستعمارى بحق شعوب إفريقيا وآسيا وحتى الشعوب الأصلية للقارة الأمريكية قد جرت على يد أنظمة ديموقراطية غربية!

ولكن فى العصر الحديث، لم نَرَ تفكيكًا لنموذج الديمقراطية الغربية كما جرى فى نوفمبر 2020 على وقع الانتخابات الرئاسية الأمريكية، لم يخسر المرشح الجمهورى أو الديمقراطى الانتخابات ولكن الديمقراطية الأمريكية هى الخاسر الأكبر، البوتقة الأيديولوجية المؤسّسة للولايات المتحدة الأمريكية تعرّت واكتشف زيفُها وتهتكت عمدًا أمام أعين العالم أجمع على الهواء مباشرة.

> عدم التدقيق فى هوية الناخب

لعل المفاجأة الأولى هى قدرة المواطن الأمريكى على التصويت بشكل مباشر، أو التصويت الإلكترونى والتصويت عبر البريد دفعة واحدة!؛ حيث لا توجد سجلات تتم مراجعتها فى اللجان الانتخابية أو لجان الفرز، بل يتم احتساب جميع الأصوات التى سجلت عبر التصويت المباشر والتصويت الإلكترونى والتصويت البريدى!

هذا يحدث فى الولايات المتحدة الأمريكية نوفمبر 2020! حتى إن أبرز المطالب التى يصدح بها شباب حملة ترامب فى مليونية السبت 14 نوفمبر 2020 كانت اعتماد التصويت عبر استخدام الهوية الشخصية وإلغاء التصويت الإلكترونى والتصويت عبر البريد. > تلاعب تقنى بالتصويت الإلكترونى

هذه الأخطاء ليست جديدة، بل سبق أن تم رصدها عام 2016 أيضًا فيما يتعلق بالتصويت الإلكترونى؛ حيث اشتكى فى نوفمبر 2016 أكثر من مواطن أمريكى من أن تصويته إلكترونيّا لدونالد ترامب قد أظهر أنه صوت لهيلارى كلنتون كما لو كان هنالك برمجة لماكينة التصويت تجعل التصويت لترامب يذهب إلى منافسته وقتذاك!

> عدم تنقية سجلات الناخبين

وبينما الولايات المتحدة تتفاخر بشركات الكمبيوتر والإنترنت والتطبيقات الذكية التى بدأت من الأراضى الأمريكية قبل أن تغزو العالم؛ فإن الدولة الأمريكية لا تملك نظامًا انتخابيًا مُحكمًا يمنع أن نرى فى سجلات الناخبين بعض الأسماء التى صوتت بينما يعود تاريخ ميلادها إلى العقد الثالث والرابع من القرن التاسع عشر.

ما يعنى عمليّا أن بعض الموتى لايزالون مسجلين فى كشوف الناخبين وأن بعض الحملات الانتخابية أو حملة انتخابية بعينها لديها قائمة بتلك الأصوات وأرسلت من يقوم بالتصويت مستغلًا تلك الأصوات!

يحدث ذلك فى أمريكا القرن الحادى والعشرين!

> استقبال الأصوات عقب غلق صناديق الاقتراع

أمّا الطامة الكبرى التى جعلت حملة المرشح الجمهورى دونالد ترامب تعتبر الانتخابات قد شابها التزوير هو استقبال الأصوات عبر البريد عقب غلق صناديق الاقتراع، والحاصل أن التصويت عبر البريد مفتوح ومسموح قبل يوم الانتخابات بقرابة الشهر، وفق ما يطلق عليه فى أمريكا «التصويت المبكر»، ويفترض وفقًا لكل الانتخابات التى جرت ووفقًا للأعراف والقواعد الانتخابية أنه ما أن يغلق باب الاقتراع، أن يتم رفض استقبال أى أصوات أخرى، سواء أفراد أو تصويت إلكترونى أو خطابات التصويت عبر البريد.

ولكن ما جرى فى أمريكا 2020 أن الانتخابات التى جرت يوم الثلاثاء 3 نوفمبر، قد شهدت حسم 35 ولاية عقب بضع ساعات من غلق صناديق الاقتراع، كما يجرى الحال مع الانتخابات الأمريكية تعرف النتائج تباعًا ليلة الانتخابات وفى الساعات الأولى من اليوم التالى يعلن الفائز ولا ينام الشعب الأمريكى إلا وهو يعرف مَن هو رئيسه الجديد.

ولكن الحاصل أنه عقب إعلان تقدُّم دونالد ترامب فى عَشر ولايات تحمل 150 صوتًا فى المجمع الانتخابى وتكفل له تخطى الفارق حيال جو بايدن وحسم انتخابات الرئاسة، أن تم تعليق الفرز لمدة أربع ساعات كاملة، ثم بدأت ظاهرة لم تحدث من قبل فى الانتخابات الأمريكية أو أى انتخابات فى العالم أجمع كما فى دول العالم الثالث؛ حيث راحت هيئات وشركات البريد فى الولايات العَشر التى يتقدم فيها ترامب تمطر لجان الفرز بصناديق التصويت عبر البريد وسط إعلانات متتالية أن هذه الصناديق كانت مفقودة وتم العثور عليها.

أو تأخرت شركات البريد فى توصيلها، أو حدث خطأ ولم ينتبه مسئولو الفرز عن وصول تلك الصناديق، ولم تحدث هذه المهزلة لمدة ساعة أو اثنتين عقب استئناف الفرز بعد توقف أربع ساعات، ولكن استمر وصول صناديق الاقتراع البريدى لمدة ثلاثة أيام طيلة ساعات الرابع والخامس والسادس من نوفمبر إلى أن تجاوز جو بايدن أصوات دونالد ترامب فى ثمانى ولايات من أصل عَشر ولايات كان ترامب متقدمًا فيها قبل توقف الفرز ليعلن بايدن فى السابع من نوفمبر فوزه بالانتخابات!

لا يوجد أى قانون فى الولايات المتحدة يسمح باستقبال التصويت بالبريد أو بغيره عقب غلق صناديق الاقتراع، لذا كان ترامب محقّا حينما قال إن الأصوات القانونية هى تلك التى سجلت قبل غلق التصويت وليس ما بعدها.

هل جرى ذات مرّة فى دول العالم الثالث أو الدول غير الديمقراطية أن استمرت لجان التصويت تفتح أبوابها لأى شكل من أشكال التصويت ثلاثة أيام متتالية عقب غلق الاقتراع من أجل ترجيح كفة مرشح بعينه؟

وهل مصادفة أن أغلب إن لم يكن كل أصوات التصويت عبر البريد كانت فى صالح بايدن مما رجّح فوزه فى الولايات الست؟

> أوهام المهنية والحياد الإعلامى

وحينما نترك صالات فرز الأصوات ونتجه إلى استوديوهات الإعلام، ولننظر إلى شاشة CNN طيلة خمس سنوات منذ يناير 2016 حتى اليوم حينما أعلن دونالد ترامب عن ترشحه للرئاسة الأمريكية، لندرك أن حياد الإعلام أو حتى انحيازه بشكل مهنى يعد أكذوبة يروّج لها الغرب ويطالب بها حكومات الشرق الأوسط فحسب، بينما فى واقع الأمر أن الإعلام الأمريكى روّج لعشرات الأكاذيب عن دونالد ترامب، سواء حينما ترشح عام 2016 أو فى سنوات ولايته الأربع.

ولم يترك برنامجًا أو إعلانًا أو فقرة إلا وسجّل فيها همزًا أو لمزًا أو نكات أو سخرية من الرئيس ترامب بغية تصفية شعبيته وزرع فكرة فى رؤوس الأمريكان بأن ترامب شخص غير مسئول على مؤسّسة الرئاسة وقيادة الجيش الأمريكى بحُكم الدستور.

إن المفارقة أن الرئيس الذى يقولون إنه غير كفء على الأمن العالمى، هو الرئيس الأمريكى الوحيد الذى لم يخُض حربًا منذ الرئيس فرانكلين روزفيلت فى ثلاثينيات القرن العشرين، منذ 80 عامًا كان لكل رئيس أمريكى حربه الخاصة باستثناء ترامب، الذى فتح طريق السلام بين بلاده وكوريا الشمالية وأقنع الزعيم الكورى بخفض التوتر بين البلدين، وأقنع الإمارات والبحرين والسودان بعقد اتفاقيات سلام مع إسرائيل، وأنهى الخلافات بين صربيا وكوسوفا، ورفض قصف إيران حينما أسقطت طائرة من دون طيار أمريكية، وأرسل الجيش الأمريكى إلى شرق سوريا من أجل تصفية تنظيم داعش وجميع تنظيمات الإسلام السياسى فى شمال وشرق سوريا.

لو كان باراك أوباما هو الذى قام بواحدة فحسب من تلك الخطوات لكان الإعلام الأمريكى قد طالب بحصوله على نوبل ثان للسلام، بعد أن حصل على الجائزة للمرة الأولى عقب تسعة أشهُر فحسب من توليه منصب الرئاسة الأمريكية دون أن يقدم أى شىء للسلام العالمى باستثناء أنه أول أسود فائز بانتخابات الرئاسة الأمريكية!

بل إن العالم والشرق الأوسط أكثر أمانًا اليوم وصولًا إلى الولايات المتحدة الأمريكية حينما فك ترامب الارتباط بين المشروع الأمريكى والإسلام السياسى، ورأينا هدوءًا فى الشرق الأوسط فى سنوات ترامب قياسًا بحزام الحروب الأهلية والحروب الإقليمية التى ضربت الشرق الأوسط تحت مسميات ثورات الربيع العربى.

> أسطورة الدور الإسرائيلى

اليهود فى الولايات المتحدة ظلت نسبتهم تتأرجح ما بين 2% و1 % من سكان الولايات المتحدة، والمال السياسى اليهودى أو الرأسمالية اليهودية طيلة القرن العشرين حتى اليوم لم تكن قادرة على قيادة النظام العالمى أو الرأسمالية الدولية.

كما أن الدعاية الصهيونية تدمج عمدًا بين اللوبى الإسرائيلى واللوبى اليهودى واللوبى الصهيونى، بينما هم ثلاثة فرق وليس فريقًا واحدًا، فاللوبى الإسرائيلى كما يبدو من اسمه هو موالٍ لدولة إسرائيل التى تحتل فلسطين فى الشرق الأوسط، وهو يعمل بشكل واضح وصريح من أجل تل أبيب وينسق فى العلاقات بين أمريكا وإسرائيل.

واللوبى اليهودى يعمل من أجل يهود أمريكا فحسب، من أجل رعاية مصالح الـ 1% سكان أمريكا اليهود، أمّا اللوبى الصهيونى فهو يعمل من أجل مصالح اقتصادية تخص الأسر اليهودية الرأسمالية المؤسِّسة للأيديولوجيا الصهيونية.

والمفارقة أن أغلب طبقة الرأسمالية الصهيونية أو المال اليهودى لا تقيم أصلًا فى إسرائيل بل ولا تدعم الاقتصاد الإسرائيلى المتدنى والمنهار، إذ إن جميع تلك الشبكات لديها مصالح اقتصادية أكبر من إسرائيل.

إسرائيل مشروع غربى صنعه الاستعمار الغربى من أجل إيجاد ابن مُدلل قادر على صناعة الفوضى والتفرقة فى الشرق الأوسط، ابن مُدلل وجزء من المشروع الأمريكى للشرق الأوسط وليس العكس، الغرب هو من يدير إسرائيل وليس إسرائيل أو اليهود هم من يديرون الغرب.

الملاحَظ هنا أنه ووفقًا لاستطلاعات الرأى فإن القضايا الرئيسية التى تهم الناخبين اليهود هى مكافحة فيروس كورونا (54%)، وتغير المناخ (26%)، والتأمين الصحى (25%)،

والاقتصاد (23%)، و5% من اليهود فقط أشاروا إلى إسرائيل كأحد المواضيع الرئيسية التى تشغلهم، وهو ما جعل خيمى شاليف، المحلل السياسى المقيم بالولايات المتحدة، يقول «إن توجهات اليهود الأمريكيين تُعَد معاكسة تمامًا لتوجهات اليهود الإسرائيليين».

ويتضح أن 77 % من 6.3 مليون يهودى أمريكى قد صوّتوا فى انتخابات الرئاسة الأمريكية 2020 من أجل مصالحهم الخاصة وليس من أجل إسرائيل أو حتى الفكرة الصهيونية أو فكرة دولة إسرائيل.

صوّت يهودُ أمريكا من أجل المواطنة ومن أجل مزاجهم الانتخابى ومصلحتهم الحياتية كمواطن أمريكى وليس كمواطن يهودى.

وفى كل هذا نسفٌ صريحٌ وواضحٌ لفكرة ارتباط يهود أمريكا بدولة إسرائيل أو أن اللوبى الصهيونى واللوبى اليهودى يعملان من أجل إسرائيل حتى ولو على حساب الولايات المتحدة، أو حتى إن اللوبيهات الثلاثة فريقٌ واحدٌ.

ويُذكر أن اللوبى اليهودى واللوبى الإسرائيلى واللوبى الصهيونى ويهود أمريكا قد وقفوا بجانب المرشحة الديمقراطية هيلارى كلينتون عام 2016 بوجه دونالد ترامب وفاز الأخير، وبالتالى فإن فكرة حسم تلك اللوبيهات للانتخابات الأمريكية مجرد دعاية صهيونية وإسرائيلية، كما أن اللوبى الصهيونى واليهودى كانوا يفضلون انتخاب آل جور فى نوفمبر 2000 رئيسًا نظرًا لوجود جو ليبرمان نائبًا له وهو يهودى ذو توجه صهيونى صريح، ولكن جورج بوش الابن كان الفائز، وأيضًا دعم اللوبى الصهيونى والإسرائيلى حملة جون ماكين بوجه باراك أوباما فى نوفمبر 2008 وفاز أوباما.

وبالتالى؛ فإن سيطرة الصهيونية واليهود ودولة إسرائيل على الغرب وقيادة أمريكا هو دعاية صهيونية من أجل تضخيم إسرائيل فى معادلات الصراع «العربى- الإسرائيلى» فحسب.

> حكومة سوشيال ميديا غير المنتخبة

وحينما انطلقت ثورة الاتصالات باعتبارها العمود الفقرى للثورة الصناعية الرابعة أواخر تسعينيات القرن العشرين، كان الترويج العام لمنصات الإنترنت أو سوشيال ميديا، سواء الجيل الأول ممثلًا فى المدونات والمنتديات أو الجيل الثانى ممثلًا فى تطبيقات فيس بوك وتويتر وإنستجرام، أن سوشيال ميديا أو وسائل التواصل الاجتماعى والإعلام المجتمعى سوف تكون واحة الحرية ومنبرَ مَن لا صوت له، دون أدنى تدخُّل من أى جهة أو طرف. ورأينا كيف تنظم العمليات الإرهابية والاحتجاجات الشعبية على الهواء مباشرة على صفحات تلك المواقع دون تدخُّل من إدارات تلك المنصات، بل ورأينا بثّا مباشرًا لعمليات إرهابية واغتصاب للنساء دون حتى أن تتدخل تلك الإدارات فى إيقاف البث أو حذفه أو الإبلاغ عن الجريمة الجارية.

ولكن مع الحملة الرئاسية لدونالد ترامب ومع الحسابات الشخصية لترامب وأسرته، رأينا تضييقًا للخناق ونشر تنويه موحد على جميع المنشورات الصادرة من مؤيدى ترامب وأسرته وحملته وصولًا إلى ترامب نفسه، تنفى وترد وتفنّد على كل كبيرة وصغيرة تصدر منهم. وقد استبقت منصات التواصل الاجتماعى موسم الانتخابات الرئاسية عبر تشكيل مجلس حكماء فيس بوك وإنستجرام، المعروف شعبيّا بـ«حكومة سوشيال ميديا»، وهذا المصطلح ليس بجديد، بل تداول مرارًا حيال إدارات منصات التواصل الاجتماعى وكيف أن تلك المنصات قد تحولت إلى حكومات وشركات إنتاج للرأى العام والتأثير على المزاج الانتخابى والعمليات الانتخابية والديمقراطية وكيف أن تلك الحكومات الرقمية خارجة عن السيطرة وغير منتخبة ولا تخضع حتى للدساتير الغربية، وكيف أنها أصبحت اليوم تمثل شبكات المصالح الغربية التى تدير العولمة والرأسمالية الدولية وتنفذ أجندة تلك الشبكات، سواء فى سنوات الربيع العربى أو إسقاط ترامب وتطويق روسيا وضرب صعود التيار القومى فى أوروبا وإفشال البريكست البريطانى وغيرها من المناسبات السياسية التى انحاز فيها فيس بوك وتويتر بكل لوائحه وقوانينه وإداراته لصالح الأچندة الغربية ضد إرادة الشعوب فى انتهاك صريح لكل الدعاية الكاذبة عن واحة الحرية والتعبير دون قيود فى سوشيال ميديا بديلًا عمّا أطلقوا عليه قمع الآراء فى دول العالم الثالث والشرق الأوسط.

> أوهام احترام الآخر

دأب الغربُ على مطالبة حكومات الشرق الأوسط بضرورة احتواء المعارضة واحترام الآخر، ولكن فى الولايات المتحدة لم نَرَ من الإعلام الأمريكى والمعارضة الأمريكية أدنى درجات الاحترام حيال أنصار ومؤيدى ترامب، وهم 70 مليون أمريكى صوّت لترامب، وبينما يطالب الغرب حكومات الشرق بلم الشمل فإن نشاط اليسار الراديكالى فى حملة بايدن والحزب الديمقراطى قرروا عمل ما سموه قوائم سوداء بحق كل مسئول سياسى أمريكى تعامل مع إدارة ترامب وكل مسئول جمهورى لم يهنّئ بايدن بالفوز فى الانتخابات بغية ممارسة الإرهاب المعنوى والإعدام الإعلامى والعزل المجتمعى لهم والسعى لإسقاطهم فى أقرب انتخابات أمريكية.

ورأينا أنصار بايدن قد نزلوا إلى تظاهرات أنصار ترامب وقاموا بالاعتداء عليهم بالضرب فى مَشاهد حاول الغربُ مرارًا الادعاء بأنها لا تحدث إلا فى دول العالم الثالث، بينما الشعوب الغربية لديها ما يكفى من تحضر لاحترام حق الأقليات أو الأغلبية فى التظاهر وعدم الاعتداء على المتظاهرين وقيام الشرطة والأمن بحماية المتظاهرين بغض النظر عمّا يصدحون به، بينما سقط كل هذا حينما نزل مؤيدو بايدن لضرب مؤيدى ترامب فى تظاهرات السبت 14 نوفمبر 2020.

> دولة المؤسَّسات

صدحَ الإعلامُ العالمى بأن الدول الغربية بوجه عام والولايات المتحدة على وجه التحديد هى دولة المؤسَّسات التى تحترم نتائج الانتخابات وتتعامل مع الرئيس المنتخب أيّا كان توجهه، ولكن المبعوث الأمريكى إلى سوريا المستقيل جيمس جيفرى أكد عقب إعلان بايدن فوزه بأنه مع زملائه فى وزارة الدفاع الأمريكية «البنتاجون» قد أخفوا عن الرئيس دونالد ترامب العدد الحقيقى للقوات الأمريكية الموجودة فى شمال شرقى سوريا، ما يعنى عمليّا أن المؤسَّسات الأمريكية وعلى رأسها المؤسَّسة العسكرية لم تتعاون بالشكل الدستورى الواجب مع الرئيس المنتخب، وأن هذا الأمر يحدث فى الدول الغربية والولايات المتحدة بالمخالفة لما تنص عليه أساطير الإعلام الغربى.

وكان ترامب يرغب فى سحب الجنود الأمريكيين من سوريا والعراق وأفغانستان وإنهاء ما سمّاه «الحروب الأمريكية اللا نهائية»، ويوضح جيفرى ما جرى من خلف ظهر ترامب وإدارته المنتخبة بالقول:  «أى انسحاب سورى تتحدثون عنه؟ لم يكن هناك انسحاب للقوات من سوريا على الإطلاق. بعد الهدوء النسبى الذى شهدته الأوضاع فى شمال شرقى البلاد إلى درجة ما بعد هزيمة تنظيم داعش، كان الرئيس ترامب ميّالا إلى سحب القوات، إن تعداد القوات الأمريكية هناك هو سرّى للغاية حتى اليوم وغير معلن.. إن فرض حالة الجمود أخرى ليست بالأمر السيئ البتة، لكن فوق كل شىء، ينبغى ألا تحاول الإدارة الجديدة العمل على تحويل الأوضاع فى منطقة الشرق الأوسط. ولا تبذل الجهد فى وهم تحويل سوريا إلى الدنمارك. الجمود الراهن يساوى الاستقرار فى تلك القضية الشائكة».

ولطالما غرّد ترامب بأن الدولة العميقة تقف ضد قراراته، ومصطلح الدولة العميقة فى العلوم السياسية يرمز فى طبقة من المؤسّسات الأمنية والسيادية لديها مصالح خاصة بعيدًا عن الإدارة الحاكمة وشبكة من الفساد مع أشخاص ومؤسّسات من خارج الجهاز الإدارى للدولة، وظهر المصطلح للمرّة الأولى أوائل القرن العشرين فى الدولة العثمانية حينما بدأت مراكز القوى والمؤسّسات العثمانية تتحرك وتعمل بعيدًا عن فرمانات السُّلطان العثمانى من أجل مصالحها الخاصة وشبكات الفساد وتوجهات بعيدة عن مصالح الدولة العثمانية ما عَجّل بانهيار الدولة العثمانية أثناء الحرب العالمية الأولى.

> فوضى السلاح والميليشيات

لقد روّج الإعلام الدولى مرارًا أن الدول الأوروبية والأمريكية المتحضرة لا يظهر فيها مظاهر الميليشيات التى نراها فى الدول الإفريقية أو حتى فى لبنان والعراق، ولكن للمفارقة فإنه لا يوجد أى قانون أمريكى يمنع شراء أى قطعة سلاح للأفراد أو الجماعات، وهذا ينطبق على العربات العسكرية وحتى بعض أشكال الأسلحة الثقيلة وليس الأسلحة الخفيفة أو الفردية فحسب.

كما أن القوانين الأمريكية لا تحظر أن تقوم أى جماعة باختيار أو تفصيل زى عسكرى خاص بها، ولا يحظر القانون الأمريكى تشكيل الميليشيات أو أن يكون لها مصادر تمويل غير معروفة، وتباع الأسلحة والأزياء العسكرية فى الولايات المتحدة كما تباع المواد الغذائية فى الأسواق المصرية من دون تصريح أو مساءلة أمنية.

وقد أدى ذلك إلى أن الحزبين الكبيرين قد مولا إنشاء ميليشيات، ولكن ليس بشكل رسمى، ولكن رجال الأعمال فى كلا الجانبين قاموا بذلك نيابة عن التوجه الجمهورى أو الديمقراطى، فأصبحت ميليشيات اليمين القومى ممولة من رجالات الحزب الجمهورى وميليشيات اليسار الراديكالى ممولة من رجالات الحزب الديمقراطى.

> تفكيك الديمقراطية الغربية

الباحث الأسترالى بنجامين عيسى فى كتابه «التاريخ السّرّى للديموقراطية» قد أوضح أن العالم يمر بمرحلة «ما بعد الديمقراطية»، ويُعَد ما جرى فى الانتخابات الأمريكية الرئاسية نوفمبر 2020 هو أولى ملامح عالم ما بعد الديمقراطية؛ حيث سحق الغرب الديمقراطية الأمريكية علنًا وعمدًا أمام كاميرا العالم إعلانًا ببدء العهد الجديد. وكارت إرهاب واضح للتيار القومى واليمين القومى فى أوروبا بأن مصير صعودهم هو ذاته مصير ترامب؛ خصوصًا أن اليمين القومى فى ألمانيا يتأهب لانتخابات البرلمان عام 2021 لاختيار مستشار جديد لألمانيا على ضوء عدم رغبة أنجيلا ميركل فى الترشح لولاية خامسة، بالإضافة إلى سعى مارين لوبان للفوز بالرئاسة الفرنسية عام 2022 أمام إيمانويل ماكرون، ووجود حركات انفصالية قومية ومنظمات تسعى لتنظيم استفتاءات للانفصال عن الاتحاد الأوروبى فى فرنسا وإيطاليا وألمانيا.

كل تلك الحركات التى تنتمى إلى فكر التيار القومى مرفوضة من قِبَل زعماء العولمة، وقد وجّه النظام الدولى إنذارًا وتجربة عملية لهذه الحركات عبر ما جرى فى انتخابات الرئاسة الأمريكية وما جرى لدونالد ترامب أمام جو بايدن واليسار الراديكالى التقدمى.

> تأسيس الولايات المتحدة الثانية

إن ما جرى لم يكن تفكيكًا أو انهيارًا لقيم الديمقراطية الغربية التى ظلت طيلة 250 عامًا جزءًا رئيسيّا من ثقافة الاستعمار القديم والجديد فحسب، ولكن أيضًا هو تفكيك للأساطير المؤسّسة للولايات المتحدة الأمريكية وتأسيس الولايات المتحدة الأمريكية الثانية، وأن الغرب الذى أسّس الولايات المتحدة الأمريكية يومًا ما من أجل خدمة النظام العالمى، يقوم اليوم بهيكلة الولايات المتحدة إلى منتج جديد يخدم أيضًا النظام العالمى بتوجهاته الجديدة. إن سيطرة السكان ذوو البشرة البيضاء والأصول الأوروبية أو السكان البيض البروتستانت قد تآكلت، والزيادة الديموجرافية للسكان من أصول إفريقية وآسيوية ولاتينية والسكان الأصليين «القبائل الأمريكية» بالإضافة إلى السكان من أصول عربية ومسلمة قد شكّلت اليوم كتلة متوازية مع السكان البيض البروتستانت، حتى إن جو بايدن حال تنصيبه فى يناير 2021 هو ثانى كاثوليكى فى تاريخ أمريكا منذ جون كنيدى، وكلاهما فحسب من خارج الطوائف الإنجيلية التى صنعت الولايات المتحدة.

إن ما يجرى هو نهاية أيديولوجيا أن أمريكا هى الولايات المتحدة الإنجيلية وأرض الميعاد للإنجيليين والوطن الآمن للبروتستات، وأن الدولة التى كانت فخر الإنسان الأبيض قد تمكّن فيها الإنسان الأسود، ليس لصالح السود أو إفريقيا ولكن أيضًا لصالح النظام الدولى الذى يرى فائدة ومكاسب من هذا التغيير، فالولايات المتحدة اليوم تدخل عصر هيمنة الرجل الأسود بعد عقود من عصر هيمنة الرجل الأبيض، وفى كلتا المرتين كانت الإمبريالية والاستعمار هى عنوان اللعبة.

ختامًا؛ إن الغرب قبل أى طرف آخر هو الذى قتل الحريات الغربية ونموذج الديمقراطية الغربية بعد عقود من محاولات تطبيق تلك القيم فى الشرق الأوسط، ليس من أجل مصلحة الشرق الأوسط ولكن خدمة للأجندة الغربية عبر زعزعة المجتمعات وتقسيمها من الداخل، ولكن اليوم على ضوء الانهيار الذى جرى للقيم الغربية والجمهورية والديمقراطية فى أمريكا، حان الوقت لكل حالم أو طامح بتحقيق تلك القيم فى الشرق الأوسط أن يراجع نفسه ويدرك حقيقة أن الغرب نفسه لم يعد يكترث لهذه القيم أو يحاول تطبيقها أو يحترمها، وأن الديمقراطية الغربية والأمريكية وسيلة وليست غاية وأداة استعمارية وليست أيديولوجيا وأن التنوير الحقيقى والدولة المدنية الحقيقية هى التى تحمى الوطن والدولة الوطنية من المؤامرة ولا تتماهى مع أفكارها وأدواتها المنفذة للأجندة الاستعمارية.