الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري

إلهى يجيب ويحط عليك يا إحسان يا ابن حوّا وآدم!

 المشهد الأول



الزمن 5 يونيو من العام 1967.. المكان بيتنا المطل على شاطئ النيل بالجيزة، جاءت الحاجة أم محمود «ستّى وتاج راسى» والتى ورث عنها السعدنى الكبير ملكة الحَكْى والكلام والسخرية.. كانت الحاجة أم محمود إذا حضرت سكت الجميع للاستماع إلى دُرَر تخرج من بين شفتيها ومصطلحات ليس لها وجود فى قواميس اللغة، اللهم إلا على لسانها تنساب وكأنها تنحت للعاميّة مفردات جديدة.. حتى السعدنى الكبير زعيم دولة الكلام كان يُفضّل أن يتحول إلى مستمع فى وجود وحضرة ستّى أم محمود.. كانت أمّى تحضر الطعام وهو ليس كأى طعام.. ملوخية لم أذق لها مثيلًا فى البيوت العامرة التى دخلتُها.. ومعها صينية فراخ بلدى تصبح معها فى حيرة هل تهجم على الملوخية فتنسيك لذة الطعم ما جاورها من أصناف.. أمْ تدخل على المحمّر والمشمّر حتى تنتفخ البطن ويضيق التنفس؛ خصوصًا أن هناك بين الصفوف المتراصة المُعَدَّة؛ بتنجان مخلل وطرشى وارد من الحاج عبدالنبى أعظم صانع لهذا الصنف فى أنحاء المعمورة.. أكلنا حتى استلقى كل منا فى مكانه ويمدد الولد الشقى على الكنبة فيقوم بإصدار الأوامر بعمل الشاى بالنعناع وإحضار القلل القناوى لزوم الشرب، ويتبادل السعدنى مع أمّه وتوأم روحه الحاجة أم محمود الذكريات عن أم صفيح جارتها اللدود التى كانت إذا تكلمت يخرج منها صوت أشبه بصوت يحدثه ضرب عيّل صايع بخشبة على صفيحة زبالة، هكذا وصفت الحاجة أم محمود صوت جارتها.. فتتحول اسمها وسط الحارة والجيران والأهل والخلان إلى أم صفيح.. وكان السعدنى يعرف كل شىء عن الحارة وأهلها، ولكنه ينكش أم محمود لكى نستمع إلى حكاياتها العجيبة من الحياة والناس فى حارة سمكة ووسط سيمفونية رائعة من السعدنى والحاجة أم محمود.. فجأة يقطع هذه المتعة رنين مزعج.. إنه التليفون المحطوط الأسود الذى يشبه الرذية.. ذلك لأن السمّاعة وحدها كانت فى حاجة إلى بطل رفع أثقال لكى ينقله من مكانه إلى حيث أذنه ليستمع للمتحدث.. كنا صغارًا.. هالة وأنا.. ونحن نجلس حول هذه الصحبة التى عشقناها والتى لا يمكن وصفها.. وكان المتحدث على ما يبدو رجُلا بعيدًا كل البعد من الروح التى تحيط المكان، فجاء صوته خنشوريّا مكلكعًا ونبرات حادة آمرة.. إدّينى محمود يا ولد.. بسرعة.. ولولا وجود السعدنى إلى جانبى لنال هذا المتهجم نصيبه من السُّبَاب التى موطنها حارة سمكة والشيخ رويس وما جاورها، وأمسَك السعدنى بالسماعة وهو يسألنى.. مين؟.. قلت له واحد بيقولى هات أبوك.. يا ولد.. ويبدو أن الرجل قد بهت على السعدنى فإذا به يتجهم هو الآخر وأغلق سماعة التليفون وارتدى ملابسه وغادر المنزل دون أن يتكلم كلمة واحد وكانت السماء قد مالت إلى السواد مع حلول الليل.. ونستمع إلى صرخات غريبة من البعض.. يطالبون بأن «نطفئ النور»، واتجهنا إلى الناحية الأخرى من بيتنا؛ حيث لا يستطيع أحد أن يكتشف الأنوار المضيئة، فقد كانت فى الجهة الأخرى خلف البيت مباشرة مَدرسة ابتدائية.. ولكنها دقائق معدودة وإذا بأصوات تتعالى من داخل فناء المَدرسة.. نفّذوا الأوامر حالّا.. والتزموا بالإظلام التام.. ثم طرَق البابَ أحدهم وتحدّث إلى السعدنى وسلّم عليه وغادر مسرعًا.. وهنا قالت الحاجة أم محمود لتقول: «أرَوَّح أنا بقَى».. وأصدر السعدنى صرخة أشبه بصرخات «اطفوا الأنوار».. وقال ما فيش مرواح فى أى مكان.. ح تباتى هنا.. وانطلقنا بالتهليل والتكبير وكأننا فتحنا عكّا.. هالة وأنا.. فأخيرًا ستّنا أم محمود سوف تبات معنا وهذا لو تعلمون عظيم.. فلن تكون هناك تعليمات بالنوم مبكرًا وسيكون السهر حلالًا بَلالًا حتى الصباح.. ولكن الحاجة أم محمود قالت «ما فيش حاجة فى الدنيا ح  تمنعنى يا محمود أنى أروَّح وأطمن على الفراخ».. صمتت وقالت «هو فى إيه يا ابنى طمنى؟!»، فقال السعدنى مافيش حاجة إن شاء الله.. بس البلد كلها ضلّمت ومش ممكن هتروحى يا حاجة، الصباح.. رباح!

 المشهد الثانى.. 

 صباح يوم 6 يونيو 

 المكان  بلكون المنزل؛ حيث  الفُرجة على السيارات العابرة تحت منزلنا العامر ونحن نتسلح بزجاجات المياه وبعض «النَّوَا» لزوم ضرب أى عابر سبيل ورشّه بالمياه.. والحق أقول.. كان المارّة يعلمون تمام العلم ما سوف يجرى لهم إذا عبروا الطريق من تحت البلكونة.. ولذلك فهم قبل الوصول إلى بيتنها يقومون بعبور الشارع إلى الضفة الأخرى اتقاء لشرور المياه والضرب بالنَّوَا،  فإذا كان عابر الطريق غشيمًا بما يمكن أن يحدث فإنه سيغرق بالمياه، وهنا تبدأ الحفل؛ حيث نلقى عليه كل قاذورات صفيحة الزبالة وتنهال عليه بما هو أقذر من قاموس الشتومة.. 

 وهكذا نمضى اليوم فى معارك البلكونة هالة وأنا. 

 ولكن.. حدث أن جاءت سيارات النصر «النقل الصفراء» التى لا حصر لها اصطفت على طول الطريق على جانبه الموازى للرصيف تتفاوض حتى مَدَد الشّوف.. كان هناك تجمُّع للعساكر  الذين يقودون السيارات ومعهم أوراق ودفاتر.. بعضهم اتجه إلى حارة الشيخ رويسى وإلى ما جوارها من حوارى وأزقة وأعطاف.. ثم بدأت تجمُّعات الناس رجال دين وسيدات يلفهم السّواد..وصويت وعويل   لم تفهم شيئًا على الإطلاق.. ولم يكن السعدنى غير متواجد..  وست أم محمود ترتدى ملابسها على عَجَل. وتقول «الله يخرب بيته اللى قطع الكهرباء عن الشوارع.. زمان الفراخ ماتت فى العشة.. إلهى يحط عليك يا بعيد».. وظلت أم محمود تدعو الله أن يخسف الله الأرض بمَن فعل هذه الفعلة الشنعاء التى حرمتنا من الفراخ والبط والوز والكتاكيت.. ومضت وكأنها الخنساء  فقدت أعز ما لديها.. شاهدنا السعدنى جاء بصجبة العم صلاح.. وعلى غير العادة كان صلاح مكتئبًا حزينًا على وجهه علامات الغضب من أمر ما. سلّم علينا بطريقة لم نعهدها من قبل.. فسألتنى هالة: هو عمّو  صلاح ماله؟!.. قلت لها.. يمكن سقط فى الامتحانات!.. فقال وهى دى حاجة تزعّل.. فقلت لها.. أُمّال ح يكون إيه يعنى؟!.. وجاء السعدنى ولم يتحدث إلى أى مخلوق على غير عادته.. وكنا ننتظر العم صلاح دومًا لنشاهد معًا  أما مسلسل «لا تنطفئ الشمس» أو «السامية» و«الضحية» أو«الرجل»  ودوره الخالد أبو المكارم وتعيش الدهشة بكل ألوانها.. فكنا نجلس إلى عدد 2 صلاح واحد إلى جانبا مشاهدنا والآخر أمامنا فى هذا الصندوق العجيب المسمى التليفزيون. وكان صلاح فى هذه السّن المبكرة يشرح لنا كيف أمكن اختراع هذا الجهاز بحيث ينقل صورة ويجسدها ويعيد نقلها للمُشاهدين.

وفى مسلسل «لا تطفئ الشمس» كانت الحاجة أم محمود والعم صلاح والولد الشقى السعدنى الكبير ونحن «هالة وأمل وهبة وحنان والحاجة أم أكرم» نجلس وكأننا فى محراب.. نستمع ونستمتع ونشاهد ولا أحد يُعَلق ولا أحد يتكلم إلا ست أم محمود.. خصوصًا عندما مات «ممدوح» الشخصية التى قدّمها العم صلاح أطال الله عمره، ساعتها لم نفهم شيئًا على الإطلاق من الحَلقة ولم نستطع أن نتابعها. فقد دخلت الحاجة أم محمود فى نوبة بكاء وعويل ونحيب تنعى ممدوح وتتحسّر على شبابه، وفوق ذلك فقد نظرت إلى  السعدنى الكبير محمود وقالت يا أخويا مش أنت بتشتغل مع إحسان عبدالقدوس ده؟!.. فضحك السعدنى وقال آه باشتغل عنده يا أمى. فقالت طيب يا ابنى مش هو عارف إن صلاح يبقى أخوك.. مش تقوله.. يسيبه  عايش.. فضحك السعدنى وضحكنا جميعًا.. وعادت هى إلى البكاء والدعاء على العم إحسان إلهى يجيب ويُحط عليك يا إحسان يا ابن حوّا وآدم.