الجمعة 29 مارس 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري

الفنانة التى تطبخ

زكى طليمات 



كنت أجرى دائمًا إلى حيث تمثل روزاليوسف... أيامَ فتوتى. 

وما أكثر ما كانت تنتقل مع الفرق المختلفة بين مسارح القاهرة؛ لأنه لم تكن  هناك فرق ثابتة تعيّنها الحكومة كما هو الحال اليوم.. 

 وكنت أفعل هذا مشتاقًا؛ لأن تمثيلها يدخل على نفسى شيئًا من التسلية، شيئًا كنت أحس معه شبعًا فى خيالى ووجدانى.. وكنت أنسى معه الجوع الذى تصرخ  معه «عصافير» البطن، فلم أكن أتناول وجبة العشاء إلا فى آخر الليل وبعد انتهاء التمثيل، ويا له من عشاء.. أدسمه سميط وجبنة، وأخفّه حفنة من الفول  السودانى! 

 هذه السيدة الصغيرة الجسم القصيرة القامة، كنت أرى قامتها تطول أحيانًا فوق المسرح فإذا رأسها يخترق سقفه، أو تقصر هذه القامة فإذا صاحبتها كرة تتدحرج، وذلك تبعًا لشخصية الدور الذى تقوم به، وهى بين هذا وذاك تقف من الجمهور موقف «الحاوى» القدير الذى يموّه ويؤثر  على جمهوره، بحيث يستطيع أن يستخرج البيضة من ذقن الشيخ... 

 فلم يكن عجيبًا أن تكون أمنيتى على الأيام أن تتاح لى فرصة لقائها، وجهًا لوجه، وفى أى مكان، غير خشبة المسرح…

 وأخيرًا سنحت هذه الفرصة.. إذ قبل أحد الكُتّاب المسرحيين المعروفين أن أصحبه فى زيارة لها بمنزلها. 

 لم يفتح لنا بابَ المنزل خادمٌ أو خادمة.. بل كانت هى الممثلة النابغة بنفسها..  فتحته، ولا أعرف كيف فتحته، فقد كانت تحمل فى إحدى اليدين  سكينًا وفى الأخرى فحلًا من البطاطس!! 

 ولم تعتذر عن هذا، بل سارت بنا إلى حجرة الاستقبال، ثم خرجت لتعود ثانية ومعها بقية البطاطس، وجلست أمامنا ترحب بمقدمنا وسكينتها لا تنى عن خرط البطاطس. 

 وقدّمنى إليها المؤلف المسرحى المعروف بوصفى من هواة التمثيل الذين يرجى منهم خير للمسرح.. وشفع هذا بقوله إننى من أشد المعجبين بها.. 

 وانفتح فم السيدة بالكلام: 

    اسمك  إيه يا شاطر؟ 

ولكن الشاطر الذى هو أنا، لم يفتح فمَه بالكلام لأن العجب عقد لسانه فى حلقه!  لقد سمع صوتا خافتا دقيقا يتميع ويتلمص.. وسرعان  ما تخيل السَّمَك الصغير الذى كان يصطاده بالسنارة فى أيام الجمعة على شاطئ النيل. وسرعان ما فجع فيما كان يؤمل أن يراه وأن يسمعه.. أين  هذا الصوت المائع شاحب التعبير من ذلك الصوت القاطع الذى يخرج فيهز المسرح وكأنه دفقات من القلب!

 وكررت السيدة السؤال ترقص على فمها ابتسامة خفيفة، لعلها ولا شك عطف وعجب من هذا الذى يقولون عنه أنه رجاء المسرح، ومع هذا فهو يتهيب الرد على النساء.. وفتح الله على الشاطر فذكر اسمه ولقبه.. فإذا الابتسامة على فم الممثلة  النابغة تتحول ضحكة صريحة، وأردفت تقول: 

- طيب اسم «زكى» مفهوم.. ولكن سى «طليمات» ده يبقى إيه؟ 

فأسقطت فى يدى.. متعجبًا مستخذيًا كيف أننى لم  أسأل والدى المرحوم عن معنى هذا اللقب الذى يرن كأنه لغز من الألغاز ويتهادى كأنه  أحجية من الأحاجى! 

 وأحسّت السيدة الحيرة التى ركبتنى فتلطفت تقول: 

- أنت بتحب التمثيل وعاوز تشتغل ممثل؟ 

وهنا انطلق لسانى يروى أسطورة هذا الحب ويتدفق فى لهجة حارّة صادقة وحاول المؤلف أن يقطع علىّ الكلام فلم يفلح؛ لأننى كنت أحاول أن أثبت طلاقة لسانى  وقدرتى على التعبير والتمثيل، ولا شك فى أن السيدة أحسّت بهذا فأخذت تنظر إلىّ وهى تضحك ثم قالت: 

- تعرف تقشر البطاطس؟

 فوجمت وأمسكت عن الكلام لغرابة هذا السؤال، فمضت السيدة تقول: 

- طيب تعرف تطبخ؟ 

فأجبت بالنفى.. فقالت: تعرف ترقص كويس؟ 

 وهنا تجرّأتُ فسألتها عن علاقة المطبخ والرقص بهواية المسرح وإجادة التمثيل.. فأجابت:  - لما تعرف العلاقة دى حاتبقى ممثل صحيح! 

وتركتُ بيت الممثلة النابغة ممتعضًا وأنا أحسب أنها لم تقصد بذكر الطبخ والرقص إلا المضاحكة والهزل.. 

 ولكن السنوات الطويلة التى قضيتها محترفًا التمثيل، والإخراج، وتعليم فنون المسرح علمتنى أن الممثلة النابغة لم تكن تهزل بل كانت تجد غاية الجد..

 فالدور التمثيلى بين يدى الممثل يجتاز عملية حاذقة فى «الطبخ» ليخرج ناضجًا فوق المسرح. 

 وأن بين الرقص وفن الممثل علاقة وثيقة فهما يقومان على أسُس واحدة.. الإيقاع والانسجام والرشاقة فى التعبير.

أقول تركتُ ورائى الممثلة التى كانت تكلمنى بالألغاز وبسكين المطبخ، ولم أكن أدرى إننا سنلتقى بعد ذلك بعدة سنوات قليلة أمام المأذون لأصبح لها الزوج، والخصم الذى يتبادل معها الدفع بالأكتاف والأيدى فى سبيل إثبات ذاتيته  وفرض شخصيته على الآخر.

(«صباح الخير»  28مارس 1957)