الجمعة 29 مارس 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري

أسطورة الفتى الأول

فى الحياة الشخصية لبعض النجوم دراما توازى فى كثير من الأحيان الدراما التى قدموها على الشاشة على مدار مشوارهم الفنى، وفى حالة النجم الراحل «محمود ياسين» الذى أفنى أكثر من خمسة وأربعين عاما من عمره بين أروقة البلاتوهات، والاستديوهات، توجد دراما من نوع خاص، بدأت منذ ثمانى سنوات، وبلغت ذروتها منذ عام 2015 حتى رحيله قبل أيام، حيث أعلنت أسرته اعتزاله الفن بشكل نهائى، لظروفه الصحية التى تم التكتم على تفاصيلها فى ذلك الوقت، لكن سرعان ما تحول هذا الاعتزال إلى عزلة تامة، واحتجب الراحل تماما عن الأضواء.



 

 لكن أخباره ظلت تتصدر الصحف، والمواقع، حيث انطلقت عشرات الشائعات عن رحيله، والتى تطلب من أسرته نفيها بين الحين والآخر، كما ظلت سيرته حاضرة وبقوة، فلا يخلو حديث عن (جانات) السينما المصرية من ذكر اسمه، حيث استحق بجدارة لقب (فتى الشاشة الأول) بعد أن قدم عشرات الأدوار الرومانسية المهمة، وقف من خلالها أمام أبرز نجمات عصره، ولا تأتى ذكرى انتصارات أكتوبر دون أن يعرض له أحد من أفلامه التى وثقت لسنوات الحرب والانتصار، أما صوته الرخيم، وثقافته الواسعة، ولغته العربية السليمة، فقد أهلته ليصبح حاضرا وبقوة فى المناسبات الوطنية المهمة، والأدوار التاريخية التى يصعب على غيره تقديمها، وإذا كان «ياسين» لم يترك أى جانب من جوانب العملية الفنية دون أن يضع فيه بصمته، وإبداعه، حيث عرفناه مؤلفا، ومنتجا لعدد من الأفلام، فإن مرض ألزهايمر الذى أصابه فى سنواته الأخيرة لم يترك فى ذاكرته من هذا الإبداع سوى النذر اليسير، لكنه سيظل باقيا فى قلوب ووجدان عشاق فنه حتى بعد رحيله.

معجبات فى سن السبعين

قبل ثمانى سنوات، وتحديدا فى عام 2012، كان الظهور السينمائى الأخير ل«محمود ياسين» فى فيلم (جدو حبيبى) حيث ودع بعدها الكاميرا إلى الأبد، لم يكن الأمر مفهوما فى حينها، ولاسيما أن التقدم فى العمر قد منحه فى تلك الفترة مساحة للعب نوعية مختلفة من الأدوار، استغلها هو بذكاء، وقدم عددا من الأعمال السينمائية والتليفزيونية المهمة، مثل دور «على الحفنى» فى فيلم (الجزيزة) أمام «أحمد السقا» و«يوسف» فى فيلم (الوعد) أمام «آسر ياسين» حيث لم يجد «محمود ياسين» أى غضاضة فى أن يمد يده ليتعاون مع النجوم الشباب، حتى وإن لم يكن هو نجم العمل الأول كما اعتاد طيلة سنوات عمره، فقد فهم بفطنته قوانين اللعبة السينمائية التى عجز غيره من النجوم الكبار عن فهمها، وفى فيلم (جدو حبيبى) ساهم فى عودة الفنانة الكبيرة «لبنى عبدالعزيز» التى شاركته البطولة، ليصبح العمل السينمائى الوحيد الذى تقدمه بعد فترة غياب عن السينما امتد لأكثر من خمسة وأربعين عاما منذ فيلمها الأخير (إضراب الشحاتين) الذى قدمته عام 1967 قبل هجرتها مع زوجها إلى أمريكا. ولكن هل بدت عليه أي من أعراض المرض أثناء تصوير الفيلم الأخير؟ سؤال شغلنى ولم أجد إجابته إلا عند «لبنى عبدالعزيز» حيث تقول: بدأت علاقتى ب«محمود ياسين» قبل فيلمى معه بسنوات، حينما علمت من بعض الأصدقاء أنه يجرى عملية قلب مفتوح بالخارج، فبحثت عن رقم هاتفه، وتحدثت معه بعد عودته للاطمئنان عليه، ورغم أننى لم أشهد سنوات نجوميته فى السبعينيات، والثمانينيات، بسبب هجرتى إلى أمريكا، إلا أن أفلامه استوقفتنى عندما عدت إلى مصر مطلع الألفينيات، وقررت بعدها متابعتها جيدا، وعندما عرض علىّ المخرج «على إدريس» فيلم (جدو حبيبى) سعدت كثيرا أننى سوف أقف أمامه، وكان وجوده محفزا لى لكى أقبل الدور، واليوم أشعر أن ترتيبات القدر هى التى جعلت ظهوره الأخير فى السينما فى عمل جمعنى به، والحقيقة أنه كان فى قمة نشاطه، ويقظته أثناء التصوير، وقد كان يلقى الشعر علىّ يوميا، بلغة عربية مبهرة، وقد عبرت له عن سعادتى بهذه العادة اليومية التى كان يمتعنى بها طوال فترة (البروفات) والتصوير، وكان يقول لى دائما (التمثيل معك كان حلم حياتى) ولا أنسى سعادته عندما عدت من أحد اللقاءات التى جمعتنى بزوجات دبلوماسيين من جنسيات مختلفة، واللائى سعدن كثيرا عندما علمن بأنى أشاركه بطولة فيلم، وطلبن منى أن أنقل له مشاعر الحب والتقدير لقيمته الكبيرة، ومشواره الفنى الطويل، وعندما أبلغته كان فى منتهى السعادة، وأخذ يقول لى (احكى لى كمان...معقولة لسه لى معجبات وأنا فى السن ده؟) حيث كان بلغ وقتها سن السبعين، ومع ذلك أذكر أنه بعد انتهاء تصوير أحد مشاهد الفيلم، قال لى (يلا نصور) لكنى قلت له أننا انتهينا بالفعل من التصوير، فقال لى أنه كان يظن أننى أتحدث إليه حديثا عاديا، ولا يعلم أن ما دار بيننا مشهد من الفيلم، اعتقدت حينها أنه يرغب فى مجاملتى، وأنه يقصد أن تمثيلى طبيعى لدرجة أنه لم يشعر بأى اختلاف فى طريقتى ما بين الواقع والتمثيل، ولكنى عدت، وقلت أنه لربما فقد تركيزه بسبب الإرهاق، وقلة النوم، لكن لم يخطر ببالى أبدا أن ما حدث كان مقدمات لمرض صعب، عانى منه لسنوات بعدها، وبعد أن أنهينا التصوير بشهور، جاء إلى منزلى بصحبة زوجته الفنانة «شهيرة» لتقديم واجب العزاء لى بعد رحيل زوجى، وقد كانت هذه هى المرة الأخيرة التى أراه فيها وجها لوجه، لكنى بقيت على اتصال مع «شهيرة» لأطمئن عليه حتى رحل.

صاحب السعادة وحديث الغرف المغلقة

بالطبع لم يكن «محمود ياسين» يتخيل أن يكون فيلم (جدو حبيبى) هو آخر أعماله، والدليل أنه فى نوفمبر من عام 2013 صرح فى الصحف أنه اعتذر عن بطولة مسلسل (المرافعة) الذى قام ببطولته بدلا منه الراحل «فاروق الفيشاوى» وذكر أن سبب الاعتذار هو أنه يريد أن يتفرغ لدوره فى مسلسل (صاحب السعادة) الذى كان من المفترض أن يجمعه لأول مرة مع «عادل إمام» لكن سرعان ما تبدل الحال، حينما أعلنت الشركة المنتجة انسحاب «ياسين» عن العمل، الأمر الذى نفاه الأخير، بل إنه تقدم بشكوى إلى نقابة المهن التمثيلية ضد الشركة المنتجة للمسلسل، فى محاولة لرد الضرر الأدبى الذى تعرض له بعد اتهامه بعدم الالتزام بمواعيد التصوير، لكنه سحب الشكوى سريعا بعد أن تمت تسوية الأمر، حيث استقر الطرفان على أن يعلنا أن الانسحاب سببه (اختلاف فى وجهات النظر) لكن ما دار فى الغرف المغلقة حينها ابتعد تماما عن الرواية الرسمية التى أقرها الطرفان، حيث تردد أن السبب الحقيقى لفسخ التعاقد هو أن «محمود ياسين» لم يعد قادرا على حفظ السيناريو، أو الوقوف أمام الكاميرا بسبب بداية ظهور أعراض مرض ألزهايمر عليه.

 تحت الأضواء للمرة الأخيرة

بعد هذه الواقعة بعام، وتحديدا عام 2015، كان الظهور الأخير ل«محمود ياسين» فى مهرجان الإسكندرية السينمائى، حينما قرر القائمون على المهرجان إهداء الدورة الحادية والثلاثين له، لكن هذا الظهور أوضح بما لا يدع مجالا للشك أن النجم الكبير يعيش معاناة صعبة مع المرض، وعن ذلك يقول الكاتب الصحفى، ونائب رئيس مهرجان الإسكندرية «سيد محمود» : بدأت أخبار التراجع الصحى ل«محمود ياسين» تظهر منذ 2014، لكن لم يكن هناك أى شىء مؤكد، حتى أطلقنا اسمه على دورة المهرجان عام 2015، ودعوناه للتكريم، وحشدنا من أجل ذلك مجموعة كبيرة من الفنانين، والفنانات، وفى أثناء الندوة المخصصة لتكريمه، قامت «إلهام شاهين» لتقول كلمة عنه، فقال لها (أنت مين!) فأيقن كل الحضور أنه مريض، بعدها لم يخرج مرة أخرى إلى الأضواء، وكانت وسيلة الاطمئنان عليه عن طريق زوجته «شهيرة» أو ابنيه «عمرو ورانيا»

وعن مذكرات «محمود ياسين» التى أعلن عن الانتهاء من كتابتها قبل أيام من خبر الرحيل، يقول: جمعتنى لقاءات عديدة بالراحل لإجراء حوارات صحفية عادية، وفى 2004، طلبت منى إحدى الصحف العربية إجراء سلسلة حوارات معه نشرت على حلقات، بدأت منذ طفولته ونشأته فى بورسعيد، ومررنا فيها بكل المحطات المهمة فى حياته، والتى شملت انتقاله إلى القاهرة، واشتغاله بالمسرح، وفشل محاولات العمل مع «يوسف شاهين» وشعور المنتج «رمسيس نجيب» بأنه فنان يناسب مرحلة السينما الجادة التى بدأت مع سنوات الحرب، والانتصار، فأسند إليه بطولة (الرصاصة لا تزال فى جيبى) وغيرها من المحطات المهمة التى سجلتها فى حوالى تسع ساعات، حيث كنت التقى به يوميا فى مقهى علوبة حتى انتهينا من التسجيل، وبعد أن تم النشر، أبدى إعجابه بطريقة السرد، وبما أن تلك الحلقات ليست متاحة عبر أى من الوسائط، حيث لم تكن فكرة المواقع الإلكترونية قد انتشرت وقتها، فقد طلبت منى دار نشر (ريشة) نشرها فى كتاب يحمل اسم «محمود ياسين» وعن رد فعل أهله على نشر تلك المذكرات يقول: لم أتواصل معهم، ولا أنتظر منهم أى رد فعل، فهى حورات تخصنى، ولدى تسجيلاتها، ولى الحق أن أعيد نشرها بالشكل الذى أريده.

مرض بلا علاج وأمنية لم تتحقق

الفصل الأخير من دراما المأساوية التى عاشها «محمود ياسين» لم يتم الإعلان عن تفاصيله كاملة سوى منذ وقت قريب، ولا سيما بعد انتشار شائعة وفاته لأكثر من مرة فى فترات زمنية متقاربة، حيث خرجت «شهيرة» عن صمتها، وقالت أن شريك عمرها قد أصيب بانسداد فى بعض شرايين المخ، الخاصة بالذاكرة والكلام والحركة، مما أدى إلى إصابته بالزهايمر منذ عام 2014، وأن مرضه لا علاج له، وأن كل أملها أن لا تسوء حالته، وأن يظل (حسه فى الدنيا) حتى وإن كان بلا ذاكرة، وحتى وإن عاش فى جزيرة منعزلة، لا يعلم شيئا عن وفاة الأصدقاء، ولا دعوات المحبين، لكن مع الأسف لم تتحق أمنية «شهيرة» فرحل تاركا إرثا من الذكريات لا يمكن نسيانه.