الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري

فقه الدولة "الحلقة الأخيرة"

بامتداد الحلقات العشر الماضية، كان ثمة مؤشرات متنوعة على أن تجديد الخطاب الدينى وتطويره بات أمرًا ضروريًا، فى مقابل عديد الأعمال (الممنهجة) لتوظيف هذا الخطاب ووضعه - على غير الواقع والحقيقة - فى موضع الخصومة مع النظم القانونية الحديثة.



وبالتالى.. فإن تطوير الخطا ب الدينى يقتضى - فى المقابل - إنتاج خطاب أكثر وعيًا فى شرح حقيقة الشريعة الإسلامية ومقاصدها، وإمكانية الاجتهاد فى فهمها بما يتناسب والمتغيرات المعاصرة والحديثة.. وهو ما يستوعبه - يقينًا - نموذج «الدولة المدنية» الحديثة.

كما أن سيادة القانون باعتبارها إحدى أهم ركائز «الدولة المدنية» تستوجب - بالتبعية - بناء نظام قضائى متكامل يحقق استقلالية فعلية للسلطة القضائية، وتفعيلاً لمبدأ الفصل بين السلطات.

وفى الحلقة الأخيرة من الدراسة، نقترب من أكثر الموضوعات جدلية فى تناول مفهوم تطبيق الشريعة الإسلامية.. ونقصد بذلك، القوانين العقابية فى الإسلام.. إذ سنعرض - من جانبنا - لعدد من الخطوط العامة، التى تحكم المسار الصحيح لفهم هذه السياسات الجزائية (العقابية)؛ سعيًا نحو مزيد من الإدراك «الفعلى» لمقصود الشارع، لا بالطريقة التى يزعمها أبناء تيار الإسلام السياسى.  

روزاليوسف

 

تقوم السياسة العقابية الإسلامية على ثلاثة نظم: الحدود، التعازير، والقصاص:

الحدود:

ويقصد بالحد وجود عقوبة مقدرة محددة وضعها الشارع، عما فى القرآن الكريم أو السنة النبوية، أفعالا وحديثا، ولفظ الحد لم يرد فى القرآن الكريم بمعنى العقوبة المقدرة المحددة، لكنه ورد بمعنى الأوامر أو النواهى، أو بمعنى أحكام الله فيما لا يتصل بجرائم أو عقوبات. 

(يا أيها النبى إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن وأحصوا العدة واتقوا الله ربكم لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة وتلك حدود الله ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه لا تدرى لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا) (الطلاق - 1).

(ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها وله عذاب مهين) (النساء - 14)، فلفظ الحد أو الحدود، عندما يستعمل بمعنى العقوبة الإسلامية إنما يستعمل على اصطلاح تعارف عليه الفقهاء والشراح، وليس بالمعنى الوارد فى القرآن.

 

(1) الحدود فى رأى الفقهاء ستة:

حد السرقة، حد القذف، وحد الزنى، وحد الحرابة (قطع الطريق)، وحد شرب الخمر، وحد الردة. وفى التقرير الصحيح فإن الحدود ثلاثة، يمكن مع التجوز أن تعد أربعة.. وهذه الحدود جميعا عقوبات مشروطة، أى معلقة على شرط قيام مجتمع له خصائص معينة، وفضلا عن ذلك، فإن لكل عقوبة شروطًا خاصة بها ولا يمكن أن تطبق إلا إذا توافرت هذه الشروط، فنظام الحدود نفسه لا يمكن تطبيقه إلا فى مجتمع من المؤمنين، مجتمع من الناس العدول الذين يتقون الله ويخشون الحق، حتى لا تستخدم الأحكام الشرعية فى أغراض غير شرعية، وحتى لا توقع العقوبات نتيجة ضبط زائف أو شهادة مزورة أو حكم مغرض.

فقيام مجتمع المؤمنين شرط لإعمال نظام الحدود، والإيمان دائما لا بُد أن يسبق أى تفكير فى تطبيقها، فعن النبى – صلى الله عليه وسلم – أنه قال: (لا يزنى الزانى حين يزنى وهو مؤمن ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن). ومفاد الحديث أن الإيمان يسبق النواهى ويغنى عن الحدود، إذ يمتنع المؤمن بوازع إيمانه عن الفحشاء والمنكر والبغى فلا يحتاج إلى فعل نهى أو إلى وضع حد، إذ يقوم النهى من نفسه ويقع الحد من ضميره.

وعن عائشة زوج النبى أنها قالت: (إنما نزل أول ما نزل من سور (القرآن) من المفصل فيها ذكر الجنة والنار، حتى إذا تاب الناس إلى الإسلام نزل الحرام والحلال، ولو نزل أول شىء لا تشربوا الخمر لقالوا لا ندع الحمر أبدا، ولو نزل لا تزنوا لقالوا لا ندع الزنى أبدا).

ومعنى أن على الذى يريد تطبيق نظام الحدود أن يهيئ المجتمع لذلك من قبل، بنشر الإيمان وتوطيد معايير التقوى والإصلاح، والأسوة فى ذلك هى من عمل الله سبحانه، فلقد هيأ مجتمع المسلمين الأوائل مدة ثلاث عشرة سنة اقتصرت الدعوة فيها على صَبّ الإيمان فى نفوسهم صبا، حتى إذا ما تهيأت نفوسهم واستقامت ضمائرهم بدأت أحكام الشريعة (ومنها الجزاءات) تترى حكما حكما. 

 ذلك أن الشريعة ليست قواعد وجزاءات، وإنما هى أولا – وقبل القواعد والجزاءات – جو عام يسيطر على المجتمع وروح واحدة تنفذ فى الصميم من كل شىء وبحال قوى ينظم كل شخص وأى فعل، بحيث يحيا الفرد والجميع بأنفاس المحبة وتنبض قلوبهم بالحق وتتغذى علاقاتهم بالتقوى والفضل، وما لم يحدث ذلك، ما لم يسبق الروح النص، ويعلو الضمير على اللغط والحرف.. وتكون التقوى هى الأساس فى الحكم والتطبيق.. وإذا لم يحدث ذلك، فإن تطبيق الشريعة – فى تلك الحال –لا يعنى سوى استخدام الأحكام الشرعية لأهداف غير شرعية.. وتوجيه الدين لأغراض ليست من الدين فى شىء، ووضع أدواته فى أيد تخدم أغراضها الشخصية وأهدافها الخاصة، ولا تقصد حقيقة إعلاء الحق ونصرة الدين وتقدم الإنسان.. وعلى ذلك، فلكل حد شروط خاصة به.

(2) القوانين الإجرائية :

لم يتضمن القرآن الكريم آيات تنظم المسائل الإجرائية فى المواد المدنية أو الجنائية، فيما عدى تنظيم لإجراءات الوصية عند الموت (قبل فرض الأنصبة فى المواريث) وإجراءات إثبات الديون، ولم ترد عن النبى – صلى الله عليه وسلم – أحاديث تنظم هذه المسائل، ولعل ذلك يرجع إلى أن حكومة النبى كانت حكومة تحكم وليست حكومة حكم، بمعنى أن النبى لم يكن ليحكم فى القضايا إلا إذا رفعت إليه من الخصوم محتكمين إليه، على أن يرتضوا حكمه فى ذلك وينفذوه طواعية واختيارا، وهذا على عكس حكومة الحكم – وهى النظام الحالى للحكومات – ونظام الحكومة الإسلامية فيما بعد النبى؛ خصوصًا منذ أيام عمر بن الخطاب، فحكومة الحكم تفرض القانون على رعاياها، كما تلزمهم الالتجاء إلى سلطتها ومحاكمها، وتنفيذ الحكم بالجبر والقوة إن اقتضى الأمر. 

وفى القرآن عن أن حكومة النبى حكومة تحكيم (لا حكومة حكم):

(فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا فى أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما) (النساء - 65).

(وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله ثم يتولون من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين) (المائدة - 43).

(فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم) (المائدة - 42)

وفى حكومة التحكيم أو إمارة التحكيم (لأن لفظ الحكومة فى القرآن الكريم لا يعنى السلطة السياسية وإنما يعنى إدارة القضاء أو الحكم بين الناس) فى حكومة التحكيم، فإن المحكم يضع القواعد الإجرائية بنفسه تبعا لكل حالة، ثم يترك أمر تنفيذها لجماعة المؤمنين أو لأهل الكتاب ممن حكموه، ولهذا السبب خلا القرآن كما خلت السنة النبوية من مسائل إجرائية عامة شاملة تحكم كل الوقائع. 

والفقه الإسلامى لم يعن بالمسائل الإجرائية، ولم يتنبه إليها إلا لمامًا وفى إشارات متباعدة غير منتظمة ولا ممنهجة، لم يعرف وضع نظام للقضاء، وترتيب للمحاكم، وأسلوب رفع الدعاوى، وإعلان الخصوم وطريقة كتابة أسباب الحكم وإيداعها، وتعدد درجات التقاضى، ووسائل الطعن على المحاكم، ورد القضاة أو مخاصمتهم، وتشكيل المحاكم من أكثر من قاضى (ثلاثة أو خمسة)، ونظام المداولة بينهم، وأسلوب التنفيذ الجبرى للأحكام وما إلى ذلك. 

والقوانين الإجرائية المصرية مثل قانون (المرافعات)، وقانون السلطة القضائية، وقانون نظام القضاء، وقانون الإجراءات الجنائية، وقانون مجلس الدولة، ولائحة ترتيب المحاكم الشرعية، وغير ذلك من القوانين قد اخذت من المصادر الغربية الفرنسية أساسًا، ثم طورها التطبيق من خلال أعمال المشرع وأحكام المحاكم وآراء الفقهاء واجتهادات الشراح، وهذه القوانين جميعا لا تتعارض مع أحكام الشريعة الإسلامية ولا أحكام الفقه الإسلامى، وإنما هى تنظيمات لازمة لاستقلال السلطة القضائية وتنظيم عملها، ووضع الإجراءات فى كل المواد مدنية كانت أم جنائية.

(3) الخاتمة : 

لقد استعرضت هذه الدراسة جانبًا من تفاصيل البناء الدستورى والقانونى للدولة المصرية، باعتبارها دولة راسخة فى سجل التاريخ، لطالما حاولت تقديم نموذج متفرد لدولة مدنية حديثة ترتكز على مؤسسات تمارس دورها وفقًا لنصوص قانونية محددة مستمدة من دساتير متعددة عرفتها تلك الدولة، وتميزت جميعها بطبيعة مدنية لم ترصد لها الممارسة الفعلية أى مخالفة لمبادئ الشريعة الإسلامية أو صدام بمقاصدها، ثم تتطرق الدراسة لمزاعم الدولة الدينية وخطورتها على صحيح الدين لتقدم نماذج من محاولات متعددة لاحتكار نصوص الدين من جانب جماعات استخدمتها لأغراض دنيوية واستهدفت لترسيخ مِلكها، وراحت تمارس حكمها باسم الدين وقدمت أبشع صور التسلط والديكتاتورية والقهر.

واستمرت الدراسة بمر فصولها لتشرح الطبيعة الثقافية للدولة المصرية التى فرضت طابعا مدنيا لتلك الدولة والتى تميزت بقدرة مذهلة على احتواء الأغيار وعلى التنوع الثقافى ونبذ الطائفية والقبلية.

ثم استفاضت الدراسة فى استعراضها لنصوص الدستور المصرى الجديد التى صاغت أهداف وأركان ومبادئ المدنية من خلال نصوص واضحة جسدت تلك المبادئ كقواعد حاكمة للبناء القانونى للدولة، وكيف أن تلك المواد الدستورية قد راعت مقاصد ومبادئ الشريعة الإسلامية بناءً دستوريًا لدولة مدنية تحفظ الدين الحنيف وتحول دون استخدامه سياسيا من قبل جماعات أو مؤسسات أو حتى أشخاص. 

كما توسعت فى شرح علاقة القانون المصرى بالشريعة الإسلامية؛ لتوضح مدى تحرى المشرع لمبادئ وأهداف ومقاصد الشريعة وهو بصدد التشريع المدنى والجنائى، ثم كيف شرع لأحكام الأحوال الشخصية والمواريث بنقلها نصا وحرفيا لقواعد القانون المصرى المنظمة لتلك الحالات. 

إن الدولة المدنية المصرية الحديثة المنشودة لا يمكن بحال أن تكون نقيضا للشريعة الإسلامية؛ إنما تجسيد دستورى وقانونى لأهداف ومقاصد تلك الشريعة، وصون لجهودها وتقديمها باعتبارها صالحة لكل زمان ومكان، صلاحية تقتضى تطورا فقهيًا مستمرا يراعى تغير ظروف الزمان والمكان، وتنوع احتياجات الإنسانية واختلافها، وهى دولة تدعو للعمل وإعمال العقل باعتباره فريضة تلازم الإنسانية، فالعقل هو وسيلة ارتقاء البشرية ودليل على التكريم الإلهى للإنسان، ووسيلة إدراك البشر لوجود المولى عز وجل وعبادته.

 

(4) التوصيات:

أسفرت الدراسة عن التوصيات التالية:

أ- إن الحاجة لتطوير الخطاب الدينى أضحت فرضًا ملحًا، لإنتاج خطاب يشرح حقيقة الشريعة الإسلامية، وكيف أنها نزلت لتنهى أزمة إنسانية وأخلاقية عاشتها الجزيرة العربية.. فجاءت تلك الشريعة مستهدفة إنقاذ البشرية من وطأة الظلم والاستعلاء والطائفية.

ب- ضرورة بناء منظومة متكاملة تساهم فيها المدارس والجامعات المصرية، والأزهر الشريف، «جامع وجامعة ومشيخة»، والإعلام المصرى، لشرح تفاصيل الهوية المدنية للدولة المصرية، باعتبارها أصلاً تاريخيًا لتلك الدولة وليس محاولة لفرض ثقافة أو هوية دخيلة عليها، بل إن تلك الشريعة لتقدم نموذجًا منفردًا فى التسامح والتعايش.

ج- إن سيادة القانون باعتبارها إحدى أهم ركائز الدولة المدنية تستوجب بناء نظام قضائى متكامل يحقق استقلالية حقيقة للسلطة القضائية من خلال غل يد السلطة التنفيذية عنها إداريًا وماليًا وتأديبيًا، وإعمالاً لمبدأ الفصل بين السلطات.

د- وضع إطار قانونى لتحقيق التعددية من خلال إتاحة حية تكوين الأحزاب التى تمثل جميع الاتجاهات الفكرية.

هـ - صياغة إطار قانونى محدد لمحاسبة السلطة ورأسها اتساقًا مع نص المادة (161) من الدستور الخاصة بسحب الثقة من الرئيس.

و- تقديم الدعم للمؤسسات الثقافية بمختلف روافدها لتمكينها من تقديم أطياف الثقافة المختلفة والمتنوعة.

ز- دعم المؤسسات التعليمية وتطويرها، وتجديد مناهجها لتقديم خدمة تعليمية تنتج أجيالاً قادرة على الإبداع والابتكار والتفكير والتجديد.

ح- إعادة صياغة المناهج الدراسية وتقديمها لمراحل التعليم الأساسية كأداة للتفكير وإعمال العقل.

ط- تحقيق مفهوم المواطنة من خلال تشريع قانونى يكفل قواعد محددة لبناء جميع دور العبادة.

ى - تفعيل مواد الدستور المتعلقة بالكرامة الإنسانية والعدالة الاجتماعية بصياغة تشريعات لمعاشات الضمان الاجتماعى والتأمين الصحى. 