الجمعة 29 مارس 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري

دراسة فقة الدولة 6

جاءت ديباجة الدساتير التالية لسقوط حُكم جماعة الإخوان (الإرهابية) فى العام 2013م؛ لتسطر توصيفًا شاملًا (جامعًا) لمَلامح هويّة الدولة المصرية عبر تاريخها الممتد.. إذْ لم تترك ديباجة الدُّستور مفهوم الشريعة الإسلامية عائمًا- كما يسعى لذلك تيارُ الإسلام السياسي- بل التزمتْ بما أقرته مجموعة أحكام المَحكمة الدُّستورية العُليا فى تفسير مبادئ الشريعة.



وبيّنت الحلقة السابقة أن كثيرًا من المشتغلين بالدراسات الإسلامية يغفلون- سهوًا أو عَمدًا- أن يشيروا إلى تنوّع الأحكام الشرعية بين أحاكم قطعية وأخرى (فقهية) اجتهادية، توصَف- عادةً- بأنها أحكام ظنية.

وبالتالى؛ فإن الأحكام الشرعية الظنية (وإن كانت قطعية الدلالة)، أى جازمة فى ألفاظها، تُعد مصدرًا موضوعيّا (غير ملزم) لولاة الأمور فى الدولة أو سُلطاتها التشريعية والقضائية!

روزاليوسف

 

أكدت ديباجة دُستور ما بَعد سقوط حُكم جماعة الإخوان (الإرهابية) أحكام المَحكمة الدُّستورية العُليا كمرجعية قانونية لتفسير مبادئ الشريعة الإسلامية التى نصت المادة الثانية على كونها المَصدَر الرئيسى للتشريع.

وجاءت أحكام المَحكمة لتضع صياغة قانونية ملزمة فى تفسير مَعنى مبادئ الشريعة الإسلامية لتحولها إلى قواعد مُلزمة بسُلطان الدولة والقانون لا بسُلطان الدين، ومجموع تلك الأحكام وفقًا لما وُرد بمضبطة لجنة الخمسين أربعة أحكام على النحو التالى:

1 - الحكم الأول:

دعوَى رقم 47 لسنة 4 قضائية بتاريخ 21ديسمبر 1985م.

وفيه تعرضت المَحكمة الدُّستورية العُليا للمُدة الثانية من الدُّستور بعد تعديله فى حُكمها الخاص بمدَى دُستورية الفوائد الربوية؛ حيث جاء فى حُكمها ما يلى:

«وحيث إنه يبين من صيغة العبارة الأخيرة من المادة الثانية من الدُّستور بعد تعديلها أن المُشرّع الدُّستورى أتى بقيد على السُّلطة المختصة بالتشريع قوامه إلزام هذه السُّلطة، وهى بصدد وضع التشريعات بالالتجاء إلى مبادئ الشريعة لاستمداد الأحكام المنظمة للمجتمع، وهو ما أشارت إليه اللجنة الخاصة بالإعداد لتعديل الدُّستور فى تقريرها إلى مجلس الشعب، الذى أقرّه المجلس بجلسة 19يوليو سنة 1979م وأكدته اللجنة التى أعدت مشروع التعديل وقدّمته إلى المجلس فناقشه ووافق عليه بجلسة 30أبريل سنة 1980م، إذْ جاء فى تقريرها عن مقاصد تعديل الدُّستور بالنسبة للعبارة الأخيرة من المادة الثانية بأنها: «تُلزم المُشرّع بالالتجاء إلى أحكام الشريعة الإسلامية للبحث عن بغيته فيها، مع إلزامه بعدم الالتجاء إلى غيرها، فإن لم يجد فى الشريعة الإسلامية حُكمًا صريحًا؛ فإنَّ وسائل استنباط الأحكام من المصادر الاجتهادية فى الشريعة الإسلامية تمكن المُشرّع من التوصل إلى الأحكام اللازمة، التى لا تخالف الأصول والمبادئ العامة للشريعة».

ثم استمرت المَحكمة فى كلامها إلى أن قالت: «ويؤيد هذا النظر ما أوردته اللجنة العامة فى مجلس الشعب بتقريرها المقدم بجلسة 15سبتمبر 1981م، الذى وافق عليه المجلس من أنه كان دستور 1971م أول دستور فى تاريخنا الحديث ينص صراحة على أن الشريعة الإسلامية مصدر رئيسى للتشريع»، وهذا يعنى عدم جواز إصدار أى تشريع فى المستقبل يخالف أحكام الشريعة الإسلامية، كما يعنى ضرورة إعادة النظر فى القوانين القائمة قبل العمل بدُستور سَنة 1971م وتعديلها بما يجعلها متفقة مع أحكام الشريعة الإسلامية. واستطرد تقرير اللجنة: «الانتقال من النظام القانونى القائم حاليًا فى مصر، الذى يرجع إلى أكثر من مائة سنة إلى النظام الإسلامى المتكامل يقتضى الأناة والتدقيق العملى، ومن هنا؛ فإن تقنين المتغيرات الاقتصادية والاجتماعية التى لم تكن مألوفة أو معروفة وكذلك ما جَدَّ فى عالمنا المعاصر وما يقتضيه الوجود فى المجتمع الدولى من صلات وعلاقات ومعاملات، كل ذلك يستأهل الرويّة ويتطلب جهودًا، ومن ثم فإنَّ تغيير النظام القانونى جميعه ينبغى أن يتاح لواضعيه والقائمين عليه الفترة الزمنية المناسبة حتى تجمع هذه القوانين متكاملة فى إطار القرآن والسُّنة وأحكام المجهتدين من الأئمة والعلماء. 

2 - الحكم الثانى:

قضية رقم 6 لسنة 9 قضائية- المَحكمة الدُّستورية العُليا بتاريخ 18مارس 1995م: حيث تعرضت المَحكمة الدُّستورية العُليا للمادة الثانية فى حُكمها الخاص بمدى دُستوريّة استمرار عَقد إيجار المساكن للأقرباء بالمصاهرة عند ترك المستأجر الأصلى له؛ حيث جاء فى حُكمها: «إن المدعين ينعون على النص المطعون فيه فى النطاق المتقدم مخالفته لحُكم المادة الثانية من الدُّستور، التى تقضى بأن مبادئ الشريعة الإسلامية هى المَصدَر الرئيسى للتشريع، وذلك من عدة وجوه:

أولًا: إن الشريعة الإسلامية وإنْ حثت على صلة الرحم إلّا أنها لا تعتبر أقارب أحد الزوجين أقرباء للآخر، ومن ثم يكون اعتدادُ النص المطعون عليه بقرابة المصاهرة مخالفًا للدُّستور. ثانيًا: إن إجماع فقهاء الشريعة الإسلامية مُنعقد على أن عَقد الإيجار ينصب على استئجار منفعة لمدة مؤقتة يحق للمؤجر بانتهائها أن يطلب إخلاء العين من مستأجرها بما مُؤداه امتناع تأييد هذا العَقد.

3 - الحكم الثالث:

قضية رقم 8 لسنة 17 قضائية- المَحكمة الدُّستورية العُليا- جلسة 16مايو 1996م:

وفيه تعرضت المَحكمة الدُّستورية العُليا للمادة الثانية فى حُكمها الخاص بحظر النقاب فى المدارس، وجاء فيه: «وحيث إن قضاء المَحكمة الدُّستورية العُليا مطرد على أن ما نَصّ عليه الدُّستور فى مادته الثانية بعد تعديلها فى سنة 1980م من أن مبادئ الشريعة الإسلامية هى المَصدَر الرئيسى للتشريع؛ إنما يتمخض عن قيد يجب على كل من السُّلطتَين التشريعية والتنفيذية أن تتحرّاه وتنزل عليه فى تشريعاتها الصادرة بعد هذا التعديل ومن بينها أحكام القرار رقم 113 لسنة 1994 والمفسَّر بالقرار رقم 208 لسنة 1994 المطعون عليهما- فلا يجوز لنص تشريعى أن يناقض الأحكام الشرعية القطعية فى ثبوتها ودلالتها، باعتبار أن هذه الأحكام وحدها هى التى يكون الاجتهاد فيها ممتنعًا لأنها تمثل من الشريعة الإسلامية مبادئها الكلية وأصولها الثابتة التى لا تحتمل تأويلًا أو تبديلًا.

ومن غيرالمتصور بالتالى أن يتغير مفهومها تبعًا لتغير الزمان والمكان، إذْ هى عصية على التعديل ولا يجوز الخروج عليها أو الالتواء بها عن معناها، وتنصب ولاية المَحكمة الدُّستورية العُليا فى شأنها على مراقبة التقيُّد بها وتغليبها على كل قاعدة قانونية تعارضها، ذلك أن المادة الثانية من الدُّستور تقدم على هذه القواعد أحكام الشريعة الإسلامية فى أصولها ومبادئها الكلية، إذْ هى إطارها العام وركائزها التى تفرض متطلباتها دومًا بما يحول دون إقرار أى قاعدة قانونية على خلافها، وإلّا اعتبر ذلك تشهيّا وإنكارًا لما هو معلوم من الدين بالضرورة، ولا كذلك الأحكام الظنية غير المقطوع بثبوتها أو بدلالتها أو بهما معًا، ذلك أن دائرة الاجتهاد تنحصر فيها ولا تمتد لسواها، وهى بطبيعتها متطورة تتغير بتغير الزمان والمكان لضمان مرونتها وحيويتها لمواجهة النوازل على اختلافها تنظيمًا لشئون العبد بما يكفل مصالحهم المعبرة شرعًا، ولا يعطل بالتالى حركتهم فى الحياة على أن يكون الاجتهاد دومًا واقعًا فى إطار الأصول الكلية للشريعة بما لا يجاوزها، ملتزمًا ضوابطها الثابتة متحريًا مناهج الاستدلال على الأحكام العملية والقواعد الضابطة لفروعها، كافلًا صون المقاصد العامة للشريعة لما تقوم عليه من حفاظ على الدين والنفس والعقل والعرض والمال.

4 - الحكم الرابع:

قضية رقم 116 لسنة 18 قضائية- المَحكمة الدُّستورية العُليا- جلسة أغسطس 1997م: تعرضت المَحكمة الدُّستورية العُليا للمادة الثانية من الدُّستور فى حُكمها الخاص بعدم دُستوريّة المادة 29 من القانون رقم 49 لسنة 1997، وذلك فى شأن تأجير وبيع الأماكن وتنظيم العلاقة بين المالك والمستأجر، وذلك فيما تضمنه من سريان عَقد الإيجار على أقارب المستأجر نسبًا حتى الدرجة الثالثة، وجاء فيه: «وحيث إن المدعين ينعون على النصب المطعون فيه- فى النطاق المتقدم- مخالفته المادة الثانية من الدُّستور تأسيسًا على أن فقهاء الشريعة الإسلامية مجمعون على أن عَقد الإيجار لا يكون إلّا موقوتًا فلا يتأيد ولا يجوز بالتالى حمْل المؤجر على تأجير العين بعد انتهاء مدة إجارتها...».

.. والخلاصة:

أ- عدم التفريق بين مبادئ الشريعة الإسلامية وأحكام الشريعة الإسلامية قطعية الثبوت والدلالة.

ب- امتناع الاجتهاد فيما هو قطعى الثبوت والدلالة.

ج- فتح باب الاجتهاد بضوابط فيما هو غير قطعى الثبوت والدلالة.

5 - الدولة الدينية وسماتها: 

 الدولة الدينية هى الدولة التى يكون فيها الحاكم ذا طبيعة إلهية (إله أو ابن إله) أو أنه مختار بطريقة مباشرة أو غير مباشرة من الله تعالى حسب ما عُرف بنظرية الحق الإلهية، ويترتب على ذلك أن يكون الحاكم فى منزلة عالية لا يرقى إليها أحد من أفراد الشعب.. وأنه لا يُعترض على أقواله أو أفعاله، وليس لأحد قبله حقوق أو التزامات بل عليهم الخضوع التام لإرادة الحاكم، إذْ لا حق لهم فى مقاومته أو الاعتراض عليه.

6 - الدولة الدينية ومخاطرها: 

لا حريات على الإطلاق فى الدولة الدينية فى حال وجودها، إذْ إن طبيعتها القائمة على الإجماع والتسلط المقرونَين بضرورات الطاعة والتصديق والإذعان لا تسمح بوجود الحريات بمعناها السياسى المقترن بتعددية حزبية، وحق الاختلاف الفردى والجمعى مع الحكومة القائمة، ويوازى غياب الحرية السياسية ويسبقه غياب الحرية الاعتيادية أو حتى التنوع الخلاق فى اختلاف فهم مقاصد الشريعة وتأويل نصوصها، وذلك فى موازاة غياب الحريات الفكرية فى الدولة الدينية التى هى أحادية المنظور ضيقة الرؤية حَرفية الفهم بالضرورة.

فليس هناك تفسيرٌ لنصوص الدين سوى تفسير النخبة المتحكمة فيها، وفرضها ما تراه بوسائل من القمع المعنوى والمادى، أو بذَهَب المُعز وسيفه على النخب الثقافية فلا تتقلص الحريات الفكرية فحسب بل تختنق الحريات الإبداعية التى لا بُد أن يعانى ناتجها من الرقابة والمصادرة إذا اختلف عمّا تراه النخبة المتحكمة فى كل شىء، ابتداءً من إدارة الدولة وانتهاءً بإبداع العقول والقرائح، ويعنى ذلك أنه ليس هناك فكرٌ سياسى أو ثقافى أو حريات أكاديمية أو إبداعية فى الدولة الدينية التى لا تسمح إلّا بما تراه هى ما ظلت محتكرة اليقين والحق. 

 فالنخبة الحاكمة فيها تغدو الفرقة الناجية التى هى على الحق دائمًا، وغيرها على الباطل والضلال فى كل أحوال اختلافه عنها، وينتج عن قمع الحريات السياسية والفكرية والإبداعية تخلق رقيب داخلى فى أعماق كل مفكر أو مبدع، وكل مشتغل بالسياسة مهتم بالشأن العام؛ خصوصا بعد أن يرى الجميعُ ما حدث لأقران لهم، ثم التنكيل بهم ليكونوا عبرة لمَن لا يعتبر ويؤدى ذلك إلى استئصال روح المساءلة ومبدأ الشك أو رغبة التجريب مقابل تأكيد منطق الإتباع وحتمية إضافة اللاحق للسابق، وعندئذ يمضى المجتمع لا يرى إلّا ما هو خلفه ولا يفعل إلا ما سبق فعله، فلا يفكر أو يبدع إلا فى الدوائر التى تجعله مقلدًا للآخرين السابقين، وتسيطر على المجالات الثقافية فى دوائرها المختلفة نزعة تديُّن تسرفُ فى رَدّ كل شىء إلى الدين وإدخاله فيما يلزم أو لا يلزم سواء فى المجال السياسى الذى تصبح الحاكمية فيه لله الذى ينوب عنه بعض البشر، أو المجال الفكرى والإبداعى الذى لا تصبح له قيمة إلا بإلزامه بقيم مفروضة عليه من خارجه وتأويلات دينية من صُنع بشر يمكن أن يصيبوا أو يُخطئوا تتحكم فى حركته وتُحد من حريته، بل وتقضى على هذه الحرية أصلًا، ويشيع الحديث عن الإعجاز العلمى للنصوص المقدسة التى تنطوى على كل ما وصل إليه العلم فى تطوره، وفى ذلك ما يؤدى إلى مزالق قياس الثابت (الدين) على المتغير (العلم) فى أغلب الحالات، وتدنّى البحث العلمى فى كل الحالات. 

 ولا تقتصر مخاطر الدولة الدينية على إلغاء الحريات بكل لوازمها فحسب؛ وإنما يمتد الخطر إلى إلغاء معنى المواطنة وتحويل الانتماء من الوطن إلى المعتقد، ومن ثم الانتقال من روح التسامح ومبدأ المساواة الذى لا يمايز بين الطوائف الدينية والفئات الاجتماعية والتيارات السياسية فى معنى المواطنة المقترن بحث الاختلاف وطبيعته الحتمية، إلى مبدأ التعصب الذى يؤكد التمايز والانقسام الحدّى وعندئذ لن يصبح الدين لله والوطن للجميع، بل يصبح الوطن من حق فئة بعينها بالضرورة تغدو هى الفئة الأعلى والأرقى وغيرها الأدنى والأقل فى حقوق المواطنة، الأمْرُ الذى يؤدى إلى الاحتقان فى العلاقة بين أبناء الديانات المتعددة فى الوطن الواحد وتَحل العصبية البغيضة محل التسامح الرحب، فيتحول الاحتقان إلى صراع وتنافر ومن ثم إلى فتنة طائفية لا تبقى ولا تذر.

ولا تحدث هذه الفتنة بين أصحاب الديانات المتعددة فحسب؛ حيث تحكم أغلبية تقتات بمبادئ التعصب لا التسامح، التميز لا المساواة فى الحقوق والواجبات، فتتعقد علاقاتها بالأقليات التى تنطوى على العداء للأغلبية وكراهتها، وقد تخفى ذلك تحت أقنعة التُّقيَة فى حالة ضعفها وإلا فمواجهة التمييز بالتمييز والعنف بالعنف والعصبية بمثلها فى أحوال القوة، فتحدث الفتنة وتتحول العلاقة بين الأديان إلى علاقة حروب وصراعات، وهو الأمرُ نفسُه الذى يحدث بين طوائف وفئات الدين الواحد على نحو ما يحدث فى العراق الآن بين السُّنة والشيعة، أو حدث فى الجزائر بين طوائف المتطرفين الذين تحوّلوا إلى إرهابيين قتلة، فلم يترددوا فى قتل المعتدلين الذين تحوّلوا فى عينى التطرف إلى كفار. 

7 - سمات الدولة الدينية:

إن الدولة الدينية تهدف أساسًا إلى تقويض أسُس الدولة المدنية، ومن أبرز سمات الدولة الدينية: 

1 - مرجعية الفقيه: 

 الدولة الدينية مرجعيتها الولى الفقيه كما فى الحالة الشيعية والمرشد الفقيه فى الحالة السُّنية، فهو الذى يقرّر ما يراه صالحًا فى كل شئون المجتمع والدولة من غير معقب، بينما المرجعية الأساسية فى الدولة المدنية هى الدُّستور والبرلمان الممَّثل للأمة.

2 - تقليص مفهوم المواطنة: 

الدولة الدينية لها مفهومها الخاص للمواطنة، وهو مفهوم مختلف عن مفهوم المواطنة فى الدولة المدنية، مفهموم المواطنة فى الدولة الدينية قاصرٌ وعابرٌ، قاصرٌ لأنه يميز بين المواطنين على أسُس مذهبية ولا يحقق العدالة السياسية ولا تكافؤ الفرص فى مناصب الدولة والحقوق والامتيازات المختلفة، فالدولة الدينية تقصر مفهومها للمواطنة على المنتمين إلى دينها، بل قد تضيق المفهموم ليقتصر على التابعين لمَذهبها كما فى الحالة الإيرانية، فهى لا تعترف بالمواطنة السياسية والقانونية لجميع أبناء الوطن على قِدَم المساواة، فتقصى غير المسلم من بعض الحقوق والامتيازات، فلا تسمح له بأن يتولى مناصب القيادة والتوجيه، كما أن غير المسلم لا يملك حُرية إقامة المعابد كما يفعل المسلم إلّا بناءً على شروط وضوابط متعسفة، بل قد لا تسمح الدولة الدينية لبعض الطوائف من إقامة دُور العبادة مع أنهم مواطنون ومن حقهم أن يكون لهم مكان لعبادتهم طبقًا لـ (لكم دينكم ولى دين)، بل هناك من الفقهاء فى الخليج من يحرم حتى إقامة الكنائس فى جزيرة العرب بناءً على فهم ضيق لأحاديث نبوية، والدولة الدينية إذْ تفرّق بين المواطنين بحسب انتماءاتهم الدينية والمذهبية فإنها أيضًا تفرّق بين الرجل والمرأة، فلا تُمكّن المرأة من المناصب القيادية وامتيازات ممنوحة للرجل بحجة أن النساء ناقصات عقل ودين!!.

ومن ناحية أخرى؛ فإن مفهوم المواطنة فى الدولة الدينية مفهومٌ عابرٌ للأوطان والحدود السياسية إلى اتباع نفس العقيدة أو الطائفة فى الدول الأخرى، ومن هنا تسمح الدولة الدينية لنفسها أن تتدخل فى شئون الدول الأخرى بحجة مساندة الطائفة الدينية المنتمية إليها مستغلة بذلك العنصر الدينى والمذهبى المشترك، وذلك لزعزعة الاستقرار السياسى؛ خدمة لطموحاتها فى الهيمنة والتمدّد.

3 - الانحياز السياسى والمَذهبى:

الدولة الدينية غير محايدة تجاه معتقدات مواطنيها، فهى تفرض مَذهبها ورؤيتها الأيديولوجية ولا تحترم التنوّع والتعدّد السياسى والدينى والمذهبى فى مجتمعها، وذلك فى تناقض صارخ مع قيم الإسلام الكبرى: العدالة والحرية والمساواة، فلا تترك للمذاهب الأخرى فضاءً يمكن أن تمارس فيه حريتها واجتهاداتها، ولذلك؛ فإن الدولة المدنية تنأى عن تبنّى خيارات مذهبية وطائفية مُعَينة وهى تحترم التنوع الدينى والمذهبى والسياسى وتراه إثراءً وقوة للدولة والمجتمع.

4 - الشخصانية:

الدولة الدينية تقوم على الشخصانية، أى شخصية الفقية المرجعية الأعلى للمجتمع، لا حُكم للمؤسّسات والقانون، وطبقَّا لعبدالوهاب الأفندى الذى يقول: «ويمكن من دون مبالغة أن يقال إن الخمينى تمتع بسُلطة ونفوذ وتقديس لم يتمتع به أى من أئمة الشيعة فى حياته، ووصلت سُلطته حد الادعاء بأنه يجوز للإمام تعطيل الشريعة والفرائض لحمية الدولة الإسلامية»، الدولة الدينية تجعل مرجعية الفقيه فوق الدُّستور والمؤسّسات فوق الشعب.

5 - التسلط السياسى على الدين:

يقول محفوظ: «المشكلة الحقيقية التى تواجهنا فى المجال الإسلامى عكس المشكلة التى واجهت العرب؛ حيث كان تغوُّل المؤسّسة الدينية على غيرها، وأما عندنا فالذى تغوَّل هو السياسى ممثلًا فى الدولة والتَهَم كل شىء بما فيه الدين، الدولة الدينية اليوم تمارس ما كانت تمارسه المؤسّسة الكهنوتية الغربية فى توظيفها منابر المساجد والإعلام والصحافة والتعليم والقضاء والبرلمان وجميع مؤسّسات الدولة لخدمة أهدافها السياسية، وهى بذلك تسىء إلى الدين وتنتهك حرمات المساجد باللغو السياسى.

6 - إهدار الثروة الوطنية:

الدولة الدينية تعيش حالة من القلق المستمر ضد مخاطر أعداء متوهمين فى الداخل والخارج، فيلجأ إلى هدر الثروة عبر أسلوبين: تكديس الأسلحة ورصد الموازنات الهائلة للتسليح، وتمويل الوكلاء والإنفاق على الأنصار فى الخارج وشراء الولاءات، وهى فى سبيل ذلك تُجوّع شعبها وتذيقه الحرمان، وها هى الثورة الإسلامية مجسدة فى دولتها ومع توافر جميع الموارد لم تستطع أن تقدم نموذجًا صالحًا للحُكم ولا أن تحقق معيشة كريمة لشعبها كما فعلت ماليزيا مثلا، التى لا تملك ربع موارد إيران، فالشعب الإيرانى يعيش اليوم وضعًا شديد البؤس مع أنه يملك أعظم ثروات العالم.

7  - العدوانية:

الدولة الدينية بطبيعتها دولة أيديولوجية، والدولة الأيديولوجية بطبييعتها عدوانية أو تستجلب العدوان باستفزازها للدول الأخرى، ولأن الدولة الدينية ترى نفسَها مكلفة بنشر رسالة إلهية وتصديرها للخارج كما ترى أيضًا توهمًا وضلالة أن هناك أعداء تاريخيين فى الخارج متربصين بها ولن يسمحوا أن تحقق طموحاتها وتنشر رسالتها، فإنها تهدر المليارات فى سباق التسلح والمفاعل النووى ظنّا أن ذلك يحقق لها قوة ردع داخلية، وفى الوقت نفسه تسعى عبر التسلل إلى بيوت الآخرين من غير أبوابها الرسمية بمختلف الطرُق والوسائل إلى اصطناع وكلاء واتخاذ أنصار تمولهم وتمدهم بهدف إثارة الاضطرابات السياسية فى الدول الأخرى وزرع الانقسامات بين أبناء المجتمع الواحد خدمة  مصالحها السياسية، ولا أدل على ذلك من أن تمد ناظريك عبر الساحة العربية العريضة لتجد وتتأكد أنه ما من اضطراب سياسى أو فتنة طائفية أو انقسامات وطنية إلا لإيران علاقة مباشرة أو غير مباشرة.

إن أعظم مخاطر الدولة الدينية أنها بسياساتها التدخلية فى شئون الدول الأخرى وتسللها وتمدُّدها واتخاذها وكلاء مناصرين لها فى الدول الأخرى تستجلب عداوات الآخرين لها فتتسبب فى الإضرار بنفسها وبمصالحها الوطنية، كما تتسبب فى استمرار معاناة شعبها وحرمانه من أبسط مقومات المعيشة الكريمة كما تعيش شعوب العالم، إضافة إلى أنها بهذه السياسات الاستفزازية تتسبب فى توريط  حلفائها وأصدقائها.. انظر ما تفعله إسرائيل بغزة من عدوانية ظالمة ومذابح بشعة وضحاياها أبرياء مدنيون ونساء وأطفال. ويمكن إضافة الخصائص التالية:

8 - الاستعلاء على المساءلة والمحاسبة:

تكتسب سُلطة الدولة نوعًا من العَظمة أو القداسة وتجمع بين السُّلطتين الدينية والسياسية، وتجعل من النظام السياسى ضرورة من ضرورات قيام الدين، كما تجعل الدين محددًا رئيسيّا لدور الدولة.

9 - تقييد الحقوق والحريات العامة:

ومنها حُرية الإبداع والرأى والتعبير وحق النقد والمراجعة والرقابة على كل ما يصدر.

10ـ اتباع سياسات تمييزية ضد المرأة. 