الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري

الحمد لله خلاص هانت!

فى ممر ضيّق، وطويل يحتل الدور الأرضى من مستشفى الهرم. يجلس على مقاعده مرضى، جاءوا من قرى ومدن شمال الصعيد. محوّلين من مكاتب التأمين الصحى. عيون المرضى زائغة. شفاهم تنطق بالأحرف الأولى للوجع. أيديهم تهتز من شدة القلق. الكل- وأنا بصحبة أبى المريض وقتها - فى انتظار الأطباء أمام مدخل العيادات الخارجية. 



 

جلس أبى على مقعد بجواره. وقفت أنا أتابع من بعيد لحظة ظهور الطبيب المعالج. الوقت يمر ببطء، حكايات المرضى التى أسمعها من بعضهم مؤلمة إلى حد البكاء. الطبيب يبدو أنه معتاد التأخير. وأنا بدأت أشعر؛ بأننى فى منتصف الطريق بين بشر، متمسكين بالحياة. وآخرين استسلموا- من قسوة المرض- فى انتظار الموت.

 

من بعيد، لمحت شابًا نحيل الجسد. أسمر الوجه. قادمًا فى الممر نحونا. يمشى بخُطى ثابتة. المرضى ومن معهم بدأوا يهرولون إليه- وتجاهلوا المرض- ليسلموا عليه، وبينهم من يصر على أن يحتضنه بكل بقوة. خطوات بعد خطوات، اقترب من المكان الذى أقف فيه. إنه الفنان عبدالله محمود «1960 - 2005». أنا لم أتحرك إليه، ولم أسلم عليه، ولا أدرى حتى الآن سببًا منطقيًا لذلك! بعد لحظات، وقف بجوارى، وفى يده تحاليل، وأوراق، أخرى فى انتظار وصول الطبيب كحال باقى المرضى. وبعدما أخذ مكانه فى الوقوف، وقف رجل ستينى وتقدَّم إليه، يذكره، ويحدثه عن دوره فى مسلسل «ذئاب الجبل» الذى لعب فيه دور الضابط عصام فى نقطة شرطة «بهتون الجبل» الذى ظل يطارد «البدرى بدار»- أحمد عبدالعزيز - حتى ألقى القبض عليه فى مدينة الإسكندرية، فى الحلقة الأخيرة. سأله الرجل بكل براءة، واندفاع قائلًا: «قولى يا أستاذ عبدالله.. هو إنت كنت ليه قاسى على «بدرى بدار كده؟.. زى ما يكون بينك وبينه تار»؟ سأله الرجل، ثم عاد وجلس مكانه. وهو يدندن [ومين اللى ظلمك يا بايا/ وخلى ظلمك حكاية]. عبدالله محمود وهو يبتسم رد: (ياعم الحاج.. ليس هذا ذنبى.. السيناريو كده)!.. ثم قال وهو يضحك: 

 

(أنا مثلك كنت أحب بدرى بدار..والله) هزّ الرجل رأسه معبرًا عن عدم قناعته بذلك المنطق. بعد دقائق جاء الطبيب.. فازدحم المكان. وحدثت الفوضى المعتادة. واختلط الأمر ما بين طوابير غير منظمة، وبين زحام على أبواب العيادات. وسط حالة الفوضى. فى هذه اللحظة غاب عن وجهى الفنان عبدالله محمود، فلم أعد أراه. ولم يعد المرضى يهتمون، إلا بالدخول للطبيب. 

 



 

(مدينة الجيزة - 2005)

 

 [• واللى زارع فى صوته

 

 • فدَّان ورد وأغانى

 

 • مالى دِبْلِتْ وُرُودِى

 

 • وكاس همَّك سقانى]

 

مرت سنوات عديدة على هذا اللقاء، إلى أن وجدت نفسى ذات يوم فى طريقى لشارع الهرم مرة أخرى، لإجراء مقابلة صحفية معه، ولكن هذه المرة المكان محدد، والزمان محدد، وهو فى انتظارى. المكان فيللا قديمة.. درجة الحرارة شديدة. والضجيج فى الشارع لا ينتهى. استقبلنى بابتسامة. ثم قال: الجو هنا حار. ونحن الآن فى «استراحة» لمدة ساعة، والمكان مزدحم بالزملاء والكاميرات، لذلك دعنا نخرج ونجلس فى البلكونة التى تطل على حديقة واسعة. ثم سكت قليلاً وقال: «بالفعل الجو.. هنا خانق جدًا»، تقدم أمامى فى طرقة ثم صالة كبيرة ثم ممر متوسط الحجم، ومنه وجدنا أنفسنا فى «البلكونة».عندما جلسنا وجدنى أضحك بشدة.. وقبل أن يسألنى. حدّثته عن اللقاء الذى رأيته فيه فى مستشفى الهرم قبل سنوات. بالطبع هو لم يتذكر عنه شيئًا، لكنه التزم الصمت قليلاً، وقال: إنت تعرف أننى قدمت أعمالًا كثيرة فى الدراما والسينما والمسرح.. منها مسلسل «البوسطجى» عن رائعة عمنا يحيى حقى سنة 1974. و«أبواب المدينة» و«الأبرياء» و«كعب داير» و«الفراشات تحترق دائمًا» وغيرها من الأعمال الدرامية، لكن يبقى مسلسل «ذئاب الجبل» هو الأعلى حظًا فى الانتشار الجماهيرى، وحتى اليوم، يتذكره الجمهور فى أى مكان أتواجد فيه. قلت له: ولماذا حظى هذا العمل بهذا الإعجاب منقطع النظير؟ رد وهو ينظر إلى الفضاء حولنا: أظنه الظلم.. ثم عاد وكررها ثلاث مرات «الظلم.. الظلم.. الظلم» ثم وقف فى مكانه، وبدأ يتحرك يمينًا ويسارًا وهو ينظر للفضاء الفسيح وأنا أنظر إليه، ثم قال: فى مسلسل ذئاب الجبل، شعر المشاهد أن هناك صراعًا بين الخير والشر. بين العدْل والظلْم. بين الأمانة والخيانة. والمشاهد الذى تابع العمل كان ينتظر نهاية هذا الصراع. ويتمنى أن ينتصر العدل، وينتصر الخير على الشاشة. لأنه- فيما يبدو- كان يشعر - أى المواطن - أنه خسر الصراع فى الواقع، بعدما حُسم لصالح الظلم على حساب العدل. ولصالح الشر على حساب الخير. استمر الحوار  تقريبًا 40 دقيقة، وقبل أن يعود لمواصلة التصوير، لفت نظرى وقتها ونحن نتحدث أنه يلتزم الصمت كثيرًا، وعيونه تنظر للسماء، وكأنه يشعر أنه فى طريقه لمغادرة الحياة. شعرت أنه زاهد فى الشهرة وزاهد فى النجاح.. وزاهد فى الحياة نفسها!

 

 ( القاهرة - صيف - 2005)

 

[ •أنا فى الغربة ساكن

 

 •والجرح فى قلبى ماكن

 

 •ضاقت بيا الأماكن

 

 •حقى ضايع ولكن

 

 •بكره يرجعلى يابا]

 

بعد مرور أكثر من عام على هذا اللقاء، أُصيب بالسرطان الذى جاءه فى المخ دون سابق إنذار. ليبدأ بعدها رحلة العلاج من مستشفى إلى آخر حتى استقر فى مستشفى معهد ناصر. وقتها فكرت أن أذهب إليه لإجراء حوار عن رحلة مرضه، وكانت وقتها حالته الصحية فى تحسُّن مع بداية العلاج، وظهر إعلاميًا بصورة مكثفة وشارك فى عرض خاص لفيلمه الأخير الذى قام ببطولته وإنتاجه «واحد كابتشينو» ومن قبل ذلك شارك فى تشييع جنازة الفنان أحمد زكى الذى كان يحبه، منذ أن شارك معه فى عدة أعمال سينمائية أبرزها فيلم «الإمبراطور». بعد أسابيع عاد مرة أخرى للمستشفى ويومها قررت الذهاب إليه، فى الطريق وأنا أسير على كورنيش النيل من أمام مبنى ماسبيرو فى اتجاه المعهد، تذكرت مشواره الفنى القصير، الذى قدم فيه أدوارًا مميزة فى أفلام «الطوق والأسورة» و«سواق الأتوبيس» و«المواطن مصرى» كعلامات بارزة فى تاريخه السينمائى وتاريخ السينما العربية. وقدم «عرق البلح» و«عفاريت الأسفلت» و«شمس الزناتى». أما بدايته فى السينما فكانت مع الراحل يوسف شاهين مع صديق عمره الفنان محسن محيى الدين فى أفلام «إسكندرية ليه» و«حدوتة مصرية» و«المصير» بعد هذه المرحلة انطلق وقدم العديد من الأعمال منها «ديسكو ديسكو» و«حنفى الأبهة» و«الطريق إلى إيلات». وفى الدراما قدم مسلسلات «الطاحونة» و«نبع الحب» و«الفرسان» و«ذئاب الجبل» و«الوتد» وغيرها من الأعمال المتميزة، التى كان يختارها بدقة شديدة. كنت أسير بخطوات بطيئة على طريق الكورنيش فى طريقى إليه، وفى ذهنى اللقاء الذى كان بيننا قبل شهور، عندما ذهبت إليه فى مكان تصويره لعمل فنى- لا أتذكر اسمه الآن- يومها شعرت أنه ينتظر الموت، وأنه يودع الحياة، كنت أحدثه عن مشاريعه فى المستقبل، فلا يرد! أحدثه عن نجاحه، فلا يرد! أحدثه عن الغد فلا يرد!

 

يومها شعرت أنه يهرب من الحياة، مثلما تهرب الفريسة من عين الصياد!  

 

( مبنى مستشفى معهد ناصر- الدور 7)

 

• [يا زمان حنون وغادر

 

 • أنا مين؟ ماتشوفنى تانى

 

 • الواد أبو ضحكه تطلع

 

 • م القلب الأخضرانى]

 

بعد مشوار طويل، وشاق من المشى على الكورنيش وصلت. صعدت إلى الدور السابع. اتجهت من خلال ممر، يلهث فيه الموت، ليقف على أبواب المرضى. الآن وصلت بالقرب من حجرته. ووقفت فى مكانى. بصعوبة حاولت إقناع نفسى فى الدخول إليه. ونفسى ترفض الاستجابة. بعد دقائق لمحت ممرضة تخرج من حجرته.. تقدمت إليها، عرفتها بنفسى. ثم سألتها عن الحالة. سكتت قليلاً. ثم قالت: «ربنا يلطف به ويلطف بينا»! ضغطت على الأوراق التى فى يدى. لاحظت الممرضة حالتى. سألتها: هل أستطيع الدخول إليه؟ ردت بتأثر شديد: إنه يغيب عن الوعى كثيرًا، ولا يفيق إلا لحظات قليلة. ثم أخذت طريقها وغادرت المكان. بعد دقائق عادت مسرعة. أنا مازلت فى مكانى. سألتها: ماذا حدث؟ لم ترد. ثم دخلت إلى غرفته مسرعة. بعد دقائق خرجت بنفس السرعة التى دخلت بها. فى هذه المرة اعترضت طريقها. قلت لها: ماذا حدث؟ قالت: تدهور خطير فى حالته. وسيتم نقله إلى غرفة العناية المركزة. ثم سقطت من عينها دمعة لا أنساها وهى تقول: «بجواره راديو يعمل على إذاعة القرآن الكريم ليلًا ونهارًا». ثم أكملت قائلة: «دخلتُ مرة إليه، وهو فى غيبوبة تامة.. القرآن بجواره يُتلى بصوت الشيخ عبدالباسط عبدالصمد.. وفجأة عاد إليه الوعى قليلاً وسمعته يردد: الحمد لله.. الحمد لله.. خلاص هانت! ثم بعد ذلك فقد الوعى مرة أخرى»! كانت تقول ذلك، وهى تمشى بجوارى، عندما لاحظت رغبتى فى مغادرة المكان. وصلنا عند باب الأسانسير. وهنا افترقنا، هى صعدت للطابق العلوى تستدعى أحد الأطباء. وأنا أخذت طريقى للخروج من المستشفى. بعد دقائق وصلت إلى الكورنيش مرة أخرى عائدًا إلى منزلى. وتركته هو يستعد إلى رحلته الأخيرة، والتى يبدو أنه كان يستعد لها منذ سنوات.

 



 

[•أسافر فى الصباح

 

 •وأسافر فى الغروب

 

•هربان من الجراح

 

 •ولا من الهروب

 

•خدنى من غير رجوع 

 

•باكى نسى الدموع

 

•من خلا العين حزينة 

 

•وَجَرح القلوب]

 

(المعادى - يونيو 2005)

 

 وبعد مرور عدة أيام. رن جرس هاتفى. على شاشته اسم صديقه حمدى بسيط - رحمه الله - المشرف وقتها على صفحة الفن بصحيفة الوفد - الوه.. الوه..أستاذ حمدى. رد وهو يبكى: «عبدالله محمود.. مات »! أغلقت الهاتف، وأنا أنظر من نافذة حجرتى للسماء؛ فتطاردنى ملامحه المصرية الأصيلة، الحزينة، فتظهر أمامى وكأنه - رغم الرحيل- يرفض الغياب!