السبت 20 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري

محاكمة الايمان من معارك التنوير لوقائع التزوير كهنة المعبد! (الحلقة الثانية)

تبقى الأفكار حية وقابلة للمناقشة والتطوير إلى أن يظهر من يدعى امتلاك الصواب وحده.. ساعتها يتحول البحث العلمى الجاد إلى نضال ومواجهة.. بدلا من نقاش مفيد حول موضوعه.. وعندما يكون التفكير والبحث موضوعه الدين تصبح المواجهة أشرس.. يتولى «الكهنة» تكفير كل من يقرر إعمال عقله من دون حتى الرد على أفكاره بشكل موضوعى.. إذ يعتبرون البحث فى علوم دين «بدعة» ويكفرون صاحبه كأنه «مروج للضلالة»!



 

قبل ما يقرب من ثلاثة عقود، قادت المؤسسات الدينية «حرب تكفير» ضد الدكتور نصر حامد أبو زيد، الباحث المتخصص فى الدراسات الإسلامية بكلية الآداب جامعة القاهرة، وذلك بعد أن قرر تأدية مهام وظيفته الطبيعية وهى «البحث»، لكن يبدو أن ذلك لم يكن طبيعيًا بالنسبة للكثير، إذ يبدو أنه عندما كتب «نقد الخطاب الدينى» كان يهدد قوى ونفوذ يمتلكها قلة باستغلال الدين، فقرروا القضاء عليه حماية لأنفسهم لا دفاعًا عن الله.

 

لكن الغريب أن أيًا ممن هاجموا أبحاث أبو زيد وكفروه وطالبوا بمنع نشر كتبه لم يناقشوا أفكاره بشكل جاد، حتى فى المناظرة التليفزيونية الشهيرة حول تلك القضية كان الدكتور محمد عمارة يقدم نفسه باعتباره حاميًا للإسلام لا باحثًا علميًا، مستخدما عبارات رنانة ترسخ صورة «أبو زيد» فى أذهان الناس باعتباره عدوا للإسلام، بهدف استمالة الجمهور لصفه، من دون تعرض جاد لأفكاره ومناقشتها.

 



 

وقبل أن نرصد ما لاقاه «أبو زيد» من مصاعب ومتاعب بعد أن كفره «حماة الإسلام»، سنعرض أهم الأفكار التى حملتها كتبه، حتى لا نقع فى فخ المناقشة السطحية التى احترفها الكهنة لتضليل الرأى العام بل وتوجيهه حيثما أرادوا لممارسة سلطتهم على الناس بكلام الله.

 

ألقى «أبو زيد» الضوء فى كتابة «نقد الخطاب الدينى» على نقطة هامة ومفصلية، إذ أوضح أن الخلاف بين الاعتدال والتطرف فى بنية الخطاب الدينى ليس خلافًا فى نوع الخطاب على قدر ما هو اختلاف فى الدرجة، مدللًا على ذلك بأن كلا الخطابين (المعتدل والمتطرف) وسيلة لنفى الآخر، الفرق أن الأول يلجأ لنفى من يعارضه فكريَا، بينما يتجه المتطرف لتصفيته جسديًا، وبالتالى فإن «التكفير» أيًا كانت توابعه يعد سمة أساسية فى الخطاب الذى ينقده أبو زيد.

 

فى الكتاب نفسه يرصد «أبو زيد» آلية النقل فى الخطاب الدينى دون تثبت وتدبر حتى  إن الأمر يتصل بالحكم بالردة على أحدهم، لافتًا إلى أن الخطاب الدينى أصبح بمرور الزمن يفتقد إلى أبسط آليات التفكير المنطقى، معتمدًا على نقل ما قاله السلف وإعادة إنتاج عبارات الماضى وأحكامه وهو ما جعل التفكير مرادفًا للتكفير عند من يردد ذلك الخطاب القديم.

 

اعتمد «أبو زيد» فى دراساته وأبحاثه على استنباط دلالات للمفاهيم الدينية من النصوص المقدسة تناسب العصر ومجرياته، بدلًا من الاستسهال فى اجترار مفاهيم الماضى من دون فهمها أو نقدها، منطلقًا من مبدأ أن وجود الدين مقرون بتبسيط حياة الإنسان وتطويرها، لا عقبة فى طريق تقدم الحضارات.

 



 

 وبذلك كانت دراسات «أبو زيد» خير مدافع عن الدين فى وجه من يزعم أن تعاليمه مقصورة على زمان معين وغير قادر على مجاراة العلوم الحديثة، ويثبت أن «كهنة القديم» هم من يعطلون بعقولهم الجامدة كل جديد بفهمهم القاصر للنص.

 

تطرح دراسات صاحب «مفهوم النص» سؤالًا مهمًا حول تعريف الدين، هل المقصود به ما يطرح ويمارس بشكل أيديولوجى نفعى من جانب تيارات اليمين واليسار؟ وانطلاقًا من تلك الرؤية فرق «أبو زيد» بين الدين والتفكير الدينى، بعد تحليل النص وفهمه وتأويله بشكل علمى ينفى عنه الأسطورة ويؤكد على ما فيه من قوة دافعة نحو التقدم والعدل والحرية، حتى لا يصبح الدين مجرد أداة يستخدمها كل من أصاب عقله عطب فى تجاهل تام لأحد أهم المبادئ الدينية «أنتم أعلم بشئون دنياكم».

 

يمكننا أن نفهم أن الهدف الذى سعى «أبو زيد» من أجله فى أبحاثه هو تخليص النص المقدس من قبضة رجال الدين ممن وظفوا تعاليمه لخدمة أهدافهم المشروعة وغير المشروعة، ليجعل كل فرد قادرًا على الوصول إلى القصد الإلهى الموجود والكامن فى النصوص المقدسة.

 



 

بعد إلقاء الضوء على الخطوط العريضة فى مشروع «أبو زيد» الفكرى، كان على الجانب الآخر من استهدفوا خطابه وكفروه دفاعًا عن السلطة التى مارسوها على الناس باسم الدين.

 

 ما يدعو للدهشة أن طريقة المواجهة كانت تؤكد فى كل خطواتها ما أقره «أبوزيد» فى أبحاثه ودراساته، ومن الضرورى التوقف أمام الاتهامات التى وجهها عبد الصبور شاهين، الأستاذ الجامعى، وخطيب مسجد عمرو بن العاص وقتها، لمشروع «أبوزيد» الفكرى، والتى تؤدى معظمها لتكفيره وإعلان ردته عن الإسلام.

 

تضمنت اتهامات شاهين «العداوة الشديدة لنصوص القرآن والسنة، والدعوة إلى رفضها وتجاهل ما أتت به.. الهجوم على الصحابة واتهام عثمان بن عفان بأنه وحد قراءات القرآن التى كانت متعددة فى قراءة قريش وحدها.. إنكار المصدر الإلهى للقرآن.. إنكار مبدأ أن الله هو الخالق لكل شىء.. الدفاع عن الماركسية والعلمانية ونفى صفة الإلحاد عنهما».

 

لم تقتصر اتهامات «شاهين» على كونها كلاما مطلقا من دون سند فى أبحاث أبو زيد، لكنه تجاوز ذلك بطلب استتابته معتبرًا دراساته كفرًا صريحًا.

 

وجد «شاهين» طريقته الخاصة فى الانتقام من «أبو زيد» وأن يجهض مشروعه الفكرى، فاتجه إلى محكمة الأحوال الشخصية، التى يطبق فيها فقه الإمام أبو حنيفة، مطالبًا المحكمة باستخدام مبدأ «الحسبة» فى الفقه الحنفى للتفريق بين أبو زيد وزوجته، وهو ما ترتب عليه حكمًا بالتفريق على أساس «أنه لا يجوز للمرأة المسلمة الزواج من غير المسلم». من المفارقات أن تلك القضية كانت بإمكان «أبو زيد» إبطال تلك القضية ضده بذهابه للمحكمة وقول الشهادة، لكن رفض ذلك حتى لا يرسخ لفكرة وجود رقيب على معتقدات الناس، وقرر أن يغادر مع زوجته نحو المنفى فى هولندا، ليقيما هناك حيث عمل أستاذا للدراسات الإسلامية بجامعة ليدن.. وبدأ أول محاضراته هناك بقول الشهادة معلنًا أنه لم يرتد لحظة واحدة عن الإسلام. 

 

استمرت أصداء القضية التى بدأت منتصف التسعينيات لسنوات، حتى أنه فى العام 2003 أصدر مجمع البحوث الإسلامية التابع للأزهر، قرارا يحض فيه على منع كتاب نصر حامد أبو زيد «الخطاب والتأويل» والذى يقارن فيه بين الخطاب السلفى الذى بدأه أبو حامد الغزالى، والخطاب المستنير الذى أصله ابن رشد.

 

ما يؤكد  أن مواجهة «أبو زيد» لم تكن قط دفاعًا عن الدين، أن المجمع استند فى قراره لتقرير أعده عضو المجمع «محمد عمارة»، بعد أن خصه «أبوزيد» الصادر بشأنه قرار المنع، بفصل كامل تناول فيه أعماله بالنقد!