الأربعاء 24 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري

الأهلى حديد.. و أنا الخطيب الجديد!!

(المعادى ـ 2018)



ذهبت ذات مساء إلى المقهى القريب من منزلي. المقهى شعبى إلى حد كبير ورواده خليط من جماهير كرة القدم وسائقى التاكسى الأسود. والقليل منهم مسنون من سكان الضاحية التى كانت هادئة فى يوم ما. كان ذلك بعد أيام من إصابة النجم محمد صلاح «مايو – 2018» فى مباراة فريقه أمام ريال مدريد الإسباني. بعدما جلست بدقائق، جاء النادل بكوب الشاى وضعه أمامى وهو متوتر. ثرثرة السائقين بجوارى تبدأ – ولا تنتهى – عن ذكرياتهم، وعزهم، ومجدهم، وزمنهم الذى رحل وانتهى. تتواصل النقاشات  بين الرواد – خاصة الشباب منهم – عن إصابة نجمهم المحبوب محمد صلاح. البعض يؤكد بحجج وبراهين أنها نتيجة مؤامرة كونية صنعها الموساد الإسرائيلى بتخطيط مع الصهيونية العالمية، لتدمير هذا الفتى الذهبى! الأستاذ دسوقى مدرس مادة التاريخ فى مدرسة المعادى الثانوية العسكرية الذى حضر للتو، رد على صاحب هذا القول متسائلًا بسخرية قائلاًَ: ولماذا يفعلون به ذلك؟ رد القائل بعصبية وعنف: لأنه اقتحم الغرب، ورفع راية الإسلام خفاقة عالية بين ربوعه، ألم تر لحيته وحجاب زوجته؟! سكت «دسوقى أفندي» وهو يكتم غيظه، ثم قال: من الناحية الرياضية هو مجرد لاعب  فى تقديرى – لا تزيد موهبته على العشرات قبله، ظهروا فى الملاعب المصرية، وهذا لا يمنع اجتهاده، ودماثة خلقه، وإصراره، ورغبته الشديدة فى التفوق والنجاح.  أما من الناحية السياسية، فأنا لم أره، ولو مرة واحدة، وظف نجوميته – أو ساهم بها – فى مناصرة أى قضية عربية أو إسلامية فى المحافل الرياضية الدولية ولو بالصمت العاجز. كان يقول ذلك ورواد المقهى ينظرون لبعضهم البعض فى صمت تام، إلى أن جاءهم من خلفهم صوت يقول: «والله.. الراجل ده بيقول كلام زى الفل.. رغم أننى مش فاهم منه أى حاجة» فانفجر الجميع فى الضحك، وتاهت ملامحهم وراء سحابات الدخان المتصاعد. فى ركن بعيد من المقهي، كان يجلس رجل سبعيني، يسارى قديم، يأتى ليلة الخميس فقط، بصفة ليست منتظمة. نعرفه باسم «زكريا» بيه. يجلس بمفرده صامتًا، وتأتى له النرجيلة بسرعة ومعها فنجان القهوة السادة.. فى هذا اليوم ذهبت إليه مرحبًا حيث كنت تعرفت عليه من قبل، بعدما شعرت أنه يتابع باهتمام ما يدور بيننا من أحاديث، عن محمد صلاح. استقبلنى بابتسامة هادئة، بعدها أخذت مكانى بجواره بهدوء، ثم أغلق بين يديه كتابًا عنوانه «مذكرات إنجى أفلاطون.. من الطفولة إلى السجن» ولم يكمل القراءة. نظر إلى قائلاً: أنتم فى حزن على لاعب سقط على الأرض وأصيب، ولستم حزانى على ما يحدث للأمة العربية من ليبيا إلى سوريا مرورًا باليمن الذى كان سعيدًا ومن قبلها العراق ؟!.. ثم قال بدهشة: فى مصر مئات المواهب. مثل«صلاح» فى شتى المجالات، لكن لا أحد يسمع عنهم أو يعرفهم أو حاول حتى مساعدتهم. قال ذلك ثم سكت !

 

 

 

 

 

(محافظة بنى سويف ـ 1984)

 

بعد دقائق جاء النادل ليغير له «حجر الشيشة» وهو ما زال صامتًا لا يتكلم. قلت له: على ذكر المواهب.. كان فى مدرستى «ننا» الإعدادية المشتركة التى تبعد عن العاصمة 160 كيلو مترًا جنوبًا  فى محافظة بنى سويف، طالب اسمه محمد مرسي، كان فى الصف الثالث. وكنت أنا فى الصف الأول. ومنذ اليوم الأول لنا فى المدرسة التى كانت تضم عدة قرى، استمعنا للقصص والحكايات عن مهاراته العجيبة فى كرة القدم؛ لدرجة أن البعض شبهه بالساحر وأحيانًا بالجن. فى الفسحة كان يقام دورى المدرسة. الجماهير من الطلاب والأساتذة والعاملين فى انتظار فريق «تالتة.. تالت» الذى يلعب له «مرسي» جرس الفسحة انطلق التلاميذ على الأسوار يحتشدون. مدرس الألعاب فى منتصف الملعب يقف حكمًا للمباراة. الفرق المنافسة مرتبكة وخائفة. ناظر المدرسة يعلن عن مد وقت الفسحة، ليفسح الطريق أمام  الساحر «مرسي» – أو محمود الخطيب كما كان يُحب أن تناديه الجماهير، بعدما عاش فى «دور» الخطيب حيث كان – باعتراف الجميع – لا يقل مهارة كروية عنه. تلك المهارة التى كانت تظهر وهو يفعل الأفاعيل بكل الفرق التى تواجه فريقه. نحن الآن نقف على أطراف الملعب نهتف له، وهو يخرج من الفصل. يرتدى كوتش «باتا» وشورت أبيض وفانلة النادى الأهلى التى يعشقها وتحمل رقم «10». نهتف له جميعًا «مرسي.. يا مرسي» وهو يشير لنا من بعيد بعلامة النصر.  نُعاود نحن الهتاف: «الأهلى يا مرسي» فيرد علينا وهو يبتسم قائلاً: الأهلى حديد، الحكم يطلق صافرته. تبدأ المباراة وسط التصفيق الطلابى الحاد. الفريق المنافس يخصص ثلاثة لاعبين لمحاصرته، حتى لا تصل الكرة إليه. لكنها تصل، وإن وصلت انتهى أمرها لصالحه، يناور، يراوغ، يجري، يُسرع، يقف على الكرة، يسقط أمامه لاعب واثنان وثلاثة. ما زلنا نهتف له وهو ما زال يلف بالكرة على قدمه، على جسده، على صدره، على رأسه ثم يثنى ظهره فى حركة بهلوانية، فتسقط الكرة أمامه، وفى لمح البصر يصوبها بقوة، وسرعة عجيبة، فتسكن شباك الخصم، وهكذا يواصل هوايته، بل عشقه، حتى تنتهى البطولة، ويحصل عليها فريقه باكتساح.  انتقل بعد ذلك إلى المدرسة الثانوى التجارى بالمدينة ولم نعد نراه، إلا فى البطولات التى كانت تقام بين فرق مراكز شباب القرى. وكان هو أيضًا النجم الذى تخافه كل الفرق من فرط مهاراته ولياقته وموهبته الفذة.

(مدينة إهناسيا المدينة ـ 2006)

 

مرت سنوات، لم أعد أسمع عنه أى شيء، حتى عدت إلى قريتى «كفر أبو شهبة» بعد سنوات من الغياب، فلمحته من بعيد، يرتدى نفس الملابس الرياضية التى كان يرتديها منذ سنوات بعيدة، زاد عليها صافرة علقها فى رقبته. ويلعب مع أطفال لم تتعد أعمارهم 10 سنوات فى مركز شباب قريتى – هو من قرية مجاورة لنا – بنفس المهارة والعشق للكرة التى كان عليها أيام المرحلة الإعدادية والناس إذا مروا عليه، يضحكون معه ويقولون له : «الأهلى يا مرسي». فيرد وهو يحتضن الكرة بعشق وحب شديد: «الأهلى حديد.. وأنا محمود الخطيب الجديد» ! سألت صديقًا كان يقف بجوارى ماذا حدث له: رد: «مسكين.. فقد عقله منذ سنوات، لكنه لم يفقد حبه لكرة القدم ولا للنادى الأهلى ولا للخطيب الذى ما زال يعتقد أنه لا يقل مهارة عنه. ويعشقه إلى حد الجنون. كنت أتحدث مسترسلاً، دون أن يلفت انتباهى أن النادل يقف خلفى يستمع باهتمام شديد، غير عابئ بنظرات «زكريا بيه» الذى أجلس إليه؛ إلا عندما قال بصوت مسموع: «يا خسارة.. الكورة جننت الجدع.. زى ما جننت البلد كلها». قالها وهو عائد مسرعًا إلى زبائنه داخل المقهى وخارجه. سألنى «زكريا بيه»: ألم يتزوج ؟ قلت: عرفت أنه أحب فتاة، لكنها تركته، بسبب حبه الشديدة للكرة. ثم تزوج بطريقة تقليدية، أسرية، من بلدة مجاورة تسمى قرية «الشوبك» ورزقه الله بطفلين «ولد وبنت». لكن بعد فترة من انهيار أعصابه، وفقدان عقله، طلبت زوجته الطلاق منه، وتركت له البيت، وعادت إلى أهلها لتربى وتعلم طفليها بمفردها بعيدًا عنه، ولقد نجحت فى ذلك إلى حد ما. أما هو فتعلق بمصيره المجهول، حيث يعيش فى منزل متواضع، بلا كهرباء، وبلا ماء. يستقل سيارة أجرة من قريته «ننا» إلى مدينة «إهناسيا» ومنها يستقل سيارة أخرى إلى شوارع مدينة بنى سويف ليقف فى شوارعها، وفى يده كرة قدم مهترئة، يداعبها بحب، وسعادة، ليظهر مهاراته الفذة – رغم تقدمه فى السن – أمام المارة الذين يحيونه، ويشجعونه، ويهتفون باسمه «مرسي.. يا مرسي.. الأهلى حديد يا مرسي» وهو يشير لهم بعلامة النصر.

 

 

 

 

(المعادى ـ 2018)

 

 هنا سكت قليلاًَ، بعد أشار لى «زكريا بيه» حتى أتوقف عن الكلام، الذى – فيما يبدو – أحزنه إلى حد ما، ثم أشار للنادل، ودفع له الحساب، ولملم أشياءه، وقال وهو يقاوم حالة من الحزن العنيف هاجمته: كم من المواهب – مثل هذه الموهبة – ضاعت بين دروب هذا الوطن؟ قالها وهو يستعد لمغادرة المكان وعيناه تنظران فى الفضاء ثم أكمل غاضبًا: مصر فيها الكثير من المواهب فى الثقافة والفنون، والرياضة، والسياسة، لكنها ضاعت، وقتلت، وانتحرت بفعل فاعل ومن يحاول المقاومة – ولو لبعض الوقت – يفقد عقله، وموهبته، وحياته كلها، مثل زميلك محمد مرسى الذى فقد كل شيء عندما لم يجد من يتبنى موهبته الفذة التى كان عليها منذ الصغر. ولو كان وجد من يرعاه، ويدعمه، لكان اليوم نجمًا من نجوم كرة القدم المصرية وربما العالمية مثل محمد صلاح.  ثم غادر الرجل المكان بهدوء، ولسانه يتمتم بكلمات لم أسمعها، وهو يمر بين وجوه زبائن المقهى العابثة، الذين ما زالوا يتحدثون عن إصابة محمد صلاح بحماس شديد! أما أنا، فأمسكت بالموبايل، واتصلت بصديقى محمد جمعة مدرس أول اللغة الإنجليزية، والذى ما زال يعيش بين القرية والمدينة، ويتواصل دائمًا معه، حيث يذهب إليه بالطعام، والملابس والحلوى التى يحبها، ويجلس معه يشاهد بعض مباريات النادى الأهلي. سألته عن مصير محمد مرسي، الذى كنا نستمتع بمهاراته وموهبته الرياضية زمان أيام الإعدادية، بعد ساعة وجدته يرسل لى صورة حديثة التقطها له قبل عدة أسابيع، وهو يرتدى الشورت الأبيض. وفانلة النادى الأهلى الحمراء التى ما زال يعشقها، وفى رقبته «صفارة» قديمة، يعلن من خلالها – دون أن يدرى – عن بداية ونهاية موهبة كانت تستحق النجومية، مثلما كانت تستحق الحياة فلا نجومية عاشها ولا الحياة!