الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري

وقائع «الاتجار الجنسى بالأطفال» فى أمريكا وبريطانيا!

وقائع «الاتجار الجنسى بالأطفال» فى أمريكا وبريطانيا!
وقائع «الاتجار الجنسى بالأطفال» فى أمريكا وبريطانيا!


تابع العالم خلال الأسبوعين الأخيرين تطورات قضية الانتحار المزعوم للملياردير الأمريكى «جيفرى إبستين» الذى ألقى القبض عليه بعد اتهامه فى قضايا تتعلق بالاتجار بالأطفال واستغلالهم جنسيّا. ولاتزال القضية تشغل الإعلام والرأى العام على حد سواء، ويشكك الكثيرون فى انتحار الرجل الذى كان قد أعلن قبل وفاته بأسبوع واحد عن تعرضه لمحاولات قتل داخل السجن. والأكثر أن زميله فى زنزانته السابقة، قبل حبسه انفراديّا بعد محاولة انتحار سابقة، أعلن أمس الأول أنه يتعرض لتهديدات مستمرة من حراسه فى السجن إذا ما تحدث كثيرًا عن إبستين، وطالب «نيكولاس تارتاجليون» بنقله من هذا السجن خوفًا من تعرضه للقتل. ولا أحد يعرف ماذا يعرف الرجل أو ماذا شاهد لكى يتعرض لمثل تلك التهديدات؟ والأهم لماذا لا يتم التحقيق مع هؤلاء الحراس؟

لكن تشابك العلاقات داخل مافيا التجارة الجنسية للأطفال وتورط شخصيات مهمة ومؤثرة فى العالم فى تلك التجارة الحقيرة يجعل الكشف عن تفاصيلها أمرًا شبه مستحيل، وهو ما تكرر من قبل فى قضايا مشابهة انتهت قبل أن يتم الكشف عن أسماء المتورطين فيها، وربما لا يتذكر الكثيرون مثل تلك القضايا التى لم يكن لها نفس الصدى الواسع نظرًا لمحاولات التغطية عليها من ناحية وعدم انتشار وسائل التواصل الاجتماعى والمواقع الإلكترونية التى تنقل الأخبار بسرعة غير مسبوقة. والغريب أن كل قضية وصلت إلى الإعلام كانت مرتبطة باسم رئيس أو مسئول كبير وآخرهم «إبستين» الذى ارتبط اسمه بالرئيس الأمريكى «دونالد ترامب»؛ حيث جمعتهما صداقة قديمة، كما جمعت صداقة بين الملياردير القواد والرئيس الأمريكى الأسبق «بيل كلينتون».
ويبدو أن العلاقة بين «إبستين» و«ترامب» لم تنقطع بعد أن أصبح الأخير رئيسًا للولايات المتحدة الأمريكية.. فقد رصدت الصحافة لقاءً جمع بين «إبستين» و«ستيف بانون» المستشار السابق لـ«ترامب» فى أغسطس 2018 بأحد القصور التى يملكها الملياردير الأمريكى، التى يمارس داخلها أنشطة الدعارة؛ حيث يستقبل زبائنه هناك. الصحف أكدت أن «بانون» بالتأكيد لم يذهب كزبون، بل كان اللقاء هو صفقة بين الطرفين، بحيث يحاول «بانون» دعم الملياردير الذى كانت الاتهامات قد بدأت تحاصره حينها فى مقابل دعم أجندة «بانون» السياسية فى أوروبا بالأموال اللازمة، التى يملك الملياردير منها الكثير. جدير بالذكر أن «بانون» يقود حملة واسعة من أجل دعم اليمين الأوروبى فى الوصول إلى الحُكم فى الانتخابات المقبلة. وما يؤكد تلك المزاعم هو أن «إبستين» معروف بدعمه للديمقراطيين.
أحد أشهر تلك القضايا وقعت أحداثها فى الولايات المتحدة الأمريكية فى أواخر الثمانينيات من القرن الماضى، وتورط فيها عدد من كبار مسئولى البيت الأبيض فى عهد كل من الرئيسين السابقين «رونالد ريجان» و«جورج بوش» الأب، فقد قام عدد من المسئولين الجمهوريين باستغلال الأطفال المودعين فى دور الأيتام بولاية نبراسكا فى حفلات جنسية ماجنة يشارك فيها نخبة الطبقة الحاكمة فى «واشنطن» فى ذلك الوقت، وهو أمر مشابه إن لم يكن متطابقًا مع وقائع قضية «إبستين» الذى كان قد صرح لصحيفة «نيويورك تايمز» بأنه كان يتعامل مع مشاهير وشخصيات مؤثرة ومسئولين وآخرين.
شملت تلك القضية عددًا كبيرًا من المسئولين بدءًا من رجال البيت الأبيض ووكالة الاستخبارات المركزية CIA مرورًا بأباطرة الإعلام ووصولًا إلى كبار رجال الحزب الجمهورى ومسئولى دور الأيتام حتى إن بعض الضحايا اتهموا الرئيس «بوش» نفسه بالاشتراك فى بعض الأنشطة المشينة، وفى الواقع، فإن الاتهامات التى طالت «بوش» الأب حتى وفاته فيما يخص محاولات للتحرش بفتيات صغيرات واعترافه بالأمر واعتذاره للضحايا يجعلنا لا نستبعد اشتراكه فى مثل تلك الحفلات فى يوم من الأيام.
وفى عام 1994، قرر السيناتور الجمهورى السابق «جون ديكامب» عرض فيلم تسجيلى بعنوان «مؤامرة السكوت» على قناة «ديسكفرى» فى الثالث من مايو. الفيلم ضم أسماء عدد من كبار رجال الدين ونخبة من السياسيين الموتورين فى التجارة الجنسية للأطفال، لكن امتنعت المحطة الشهيرة عن عرض الفيلم فى الدقائق الأخيرة من الموعد المحدد لذلك، وقيل وقتها إن ذلك جاء بعد ضغوط قوية تعرض لها مسئولو المحطة التليفزيونية لوقف بث الفيلم وبعدها اشترى شخص مجهول أو بمعنى أدق لم يتم الكشف عن اسمه حقوق عرض الفيلم ليختفى الفيلم وتختفى الأسماء المتورطة فى القضية، وتضيع الحقيقة إلى الأبد، ولا يبقى منها سوى مجرد خطوط عريضة بلا تفاصيل يمكن من خلالها رؤية صورة واضحة لتلك التجارة.
أحد الأسماء التى تم الكشف عنها أو التضحية بها لكى تستمر المافيا وتستكمل نشاطها المشبوه هو «كريج سبنس» عضو الحزب الجمهورى الذى اتهمه عدد كبير من الضحايا بالتورط ليس فقط فى جلبهم واستغلالهم لصالح أصدقائه من الطبقة الحاكمة، بل إنه شخصيّا مارسَ معهم الجنس واستغلهم لفترات طويلة. الأخطر أن «سبنس» اصطحب اثنين من الأطفال العاملين بالشبكة الجنسية إلى البيت الأبيض أربع مرات فى منتصف الليل إحداها كانت يوم 29يونيو 1988 واصطحب يومها طفلًا يبلغ 15 عامًا ادعى حينها أنه ولده وفقًا لما أكده الحراس، لكنه فى الحقيقة كان أحد العاملين فى المافيا أو بالأحرى أحد الذين استغلتهم المافيا. «سبنس» أهدى أحد حراس البيت الأبيض ساعة يد ثمينة مقابل السماح له بالقيام بتلك الجولات الليلية داخل أروقة البيت الأبيض، وبما أن التضحية بـ«سبنس» كانت الحل الوحيد لإنقاذ الكبار فإن مصير «سبنس» لم يختلف عن مصير «إبستين»؛ حيث عثر على جثته فى غرفة بأحد الفنادق، وهو ما توقعه الرجل قبل انتحاره المزعوم، إذ صرح بأنه يخشى أن يتم التخلص منه وقتله فى حادث يبدو وكأنه انتحار!
ويعد الإعلامى الشهير «لارى كينج» أحد المتهمين فى هذه القضية، إذ اتهم باستخدام اتحاد مجتمع فلرانكلين الفيدرالى الذى كان يديره فى جلب الأطفال وإلحاقهم بشبكة دعارة تستغلهم لصالح كبار المسئولين، لكن لم يثبت أى اتهام على كينج فى هذه القضية.
أمّا القضية الثانية فقد وقعت أحداثها فى بريطانيا فى عهد رئيس الوزراء الأسبق «تونى بلير» الذى ساهم شخصيّا فى إنهاء التحقيقات والتغطية على الأمر بشكل يثير الشكوك. القضية عرفت بـ«العملية أور».التحقيقات بدأت عام 1999 لكنها لم تصل إلى أسماء أعضاء بحكومة بلير إلا فى عام 2003 بعد أن حققت الشرطة مع نحو 500 شخص، وهنا أصدر «بلير» قرارًا بحظر النشر فى هذه القضية بحجة الحرب الوشيكة فى العراق آنذاك، لكن التحقيقات كانت قد كشفت بالفعل عن وجود علاقة بين أعضاء البرلمان المتورطين فى استغلال الأطفال جنسيّا، وبين عمليات الاتجار بالأطفال لأغراض الدعارة وجلبهم من «بلجيكا» و«البرتغال».
وكانت رئيسة الوزراء السابقة «تريزا ماى» قد أمرت بفتح تحقيق موسع فى قضية استغلال الأطفال جنسيّا من جانب كبار السياسيين وأعضاء البرلمان البريطانى، وذلك عام 2014 عندما كانت تتولى منصب وزير الداخلية، أمّا السبب وراء إعادة فتح القضية فهو وفاة مذيع شبكة الإذاعة البريطانية الشهير «جيمى سافيل» الذى حظى بعلاقة قوية مع القصر الملكى البريطانى ورئيسة وزراء بريطانيا «مارجريت تاتشر»، والاتهامات التى أعقبت وفاته بإقامة علاقات جنسية مع أطفال مرضى ومعاقين وتلاميذ مدارس كانوا يراسلونه لإعجابهم به ورغبتهم فى مقابلته.
التحقيقات كشفت مبدئيّا أن وزارة الداخلية البريطانية مولت «مؤسسة تبادل المعلومات حول الاستغلال الجنسى للأطفال» PIE لمدة 3 سنوات فى السبعينيات وهى الفترة التى شنت خلالها المؤسسة حملتها المشينة من أجل تقنين ممارسة الجنس مع الأطفال أقل من 16 عامًا. الغريب أن التحقيقات كشفت عن وجود 214 جريمة مسجلة ضد «سافيل» فى أنحاء بريطانيا فى الفترة ما بين عامَى 1955 و2009 وشملت الجرائم 34 قضية اغتصاب. وقد اعترف عدد من مسئولى الإذاعة البريطانية «بى.بى. سى» عن علمهم بالنشاط المخجل لـ«سافيل» وامتناعهم عن الإبلاغ عنه أو فضح أمره أمام الجمهور نظرًا لما يمكن أن يسببه ذلك من خسارة فادحة للمؤسسة إذا ما خسرت اسمًا مُهمّا وشهيرًا يجذب الكثير من الإعلانات، وبالتالى يحقق أرباحًا كبيرة.
كشف عدد من الضباط المتقاعدين بالشرطة البريطانية أن الشرطة منعت من استكمال التحقيقات الجنائية فى بعض القضايا بأوامر من الاستخبارات البريطانية MI5 إلى جانب اختفاء أحد الملفات الذى كان يضم تفاصيل الاستغلال الجنسى للأطفال من جانب عدد من أعضاء البرلمان بعد تسليمه لوزارة الداخلية.
التحقيقات جعلت الأمور أكثر تعقيدًا فـ«ليون بريت» وزير الداخلية البريطانى فى عهد «مارجريت تاتشر» تسلم ملفًا يحمل أسماء أعضاء البرلمان المتورطين فى جرائم الاستغلال الجنسى للأطفال فى حفلات جنسية حضرها سياسيون وقضاة وضباط استخبارات إلى جانب موظفين بالقصر الملكى. الملف أعده عضو البرلمان «جوفرى ديكنز» عام 1983 وسلمه لوزير الداخلية ليختفى تمامًا بعدها، لكن الأمر لا يصبح مفاجئًا إذا عرفنا أن وزير الداخلية اتهم فيما بعد باغتصاب فتاة والتحرش بعدد من الصبية. تولى «بريت» مسئولية تلك القضايا وحرص على تغطيتها.
إذا كنت قضية «إبستين» هى الأحدث فى سلسلة القضايا التى تربط بين الاتجار فى الأطفال واستغلالهم جنسيّا من ناحية وبين المشاهير ورجال السياسة؛ فإنها بالتأكيد ليست الأولى، ولن تكون الأخيرة، فيبدو أن مافيا الاتجار الجنسى فى الأطفال فى «أمريكا» و«بريطانيا» تجد دائمًا من يحميها من رجال الدولة المتورطين فيها. وستثبت الشهور المقبلة إذا كان مصير قضية الملياردير الأمريكى أو تاجر الأطفال القواد ستكون مثل سابقيها أم ستكشف عن أسماء المتورطين أو زعماء تلك المافيا الحقيقيين الذين يحرصون على بقائها حتى لو خسروا فى المقابل أحد أخلص رجالهم؟ فإذا مات «إبستين» فما أكثر من يرغبون أن يحلوا محله ويؤدوا دوره تحت حماية الكبار الذين يحتاجون إلى أموال القوادين الأغنياء، بينما يحتاج كبار القوادين إلى سُلطة رجال الدولة لحمايتهم من بطش القانون! 