السبت 20 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري

أزمات «الموت الإكلينكى» لمعاهدة الصواريخ!

أزمات «الموت الإكلينكى» لمعاهدة الصواريخ!
أزمات «الموت الإكلينكى» لمعاهدة الصواريخ!


الاستقرار هو الهدف الرئيسى من اتفاقات الحد من الأسلحة النووية، ولكن الواقع يومئ لنا يومًا بعد يوم أن أغلب المعاهادات التى أبرمت فى هذا السياق خلال العقود الماضية، سيذكر التاريخ أنها كانت فاشلة، وغير مجدية بل وغير ملزمة أيضًا.
وقد أثار قرار الرئيس الأمريكى «دونالد ترامب» فى فبراير الماضى بسحب «الولايات المتحدة» من «معاهدة الصواريخ النووية متوسطة المدى» إلى إطلاق ردود فعل دولية متضاربة، تراوحت بين الثناء على الوقوف فى وجه «روسيا» والتحذيرات المشئومة بشأن ظهور سباق تسلح جديد.


بحلول شهر أغسطس الجارى، يصبح انسحاب «الولايات المتحدة» من المعاهدة نهائيًا. والمريب، هو عدم تقديم «واشنطن» لرؤية واضحة لوضع العالم بعد انتهاء المعاهدة. فمع تطوير أسلحة وتكنولوجيا جديدة غير مقيدة بأطر لتحديد الأسلحة، أو الحد منها، من المحتمل أن يؤدى زوال المعاهدة إلى زيادة المخاطر النووية، ويدفع العالم إلى رؤية جديدة غير مستقرة.

جذور المعاهدة

مع بداية الثمانينيات، أدى نشر «الاتحاد السوفيتى» السابق وتطويره للصواريخ ​(SS-20) متوسطة المدى، القادرة على استهداف العواصم الأوروبية، إلى تبنى «الولايات المتحدة» و«حلف شمال الأطلسى» لاستراتيجية «المسار المزدوج» لنشر صواريخ متشابهة المدى عبر القارة الأوروبية، من أجل ردع «موسكو»، وخلق ضغط يُولد تفاوضًا لإنهاء هذا الوضع. وبالفعل نجحت الاستراتيجية، وألزم النص النهائى لـ«معاهدة الصواريخ النووية متوسطة المدى»، التى وقّع عليها الرئيس الأمريكى «رونالد ريجان»، والسوفيتى «ميخائيل جورباتشوف» عام 1987، كلا البلدين بتدمير جميع الصواريخ النووية، التى يتراوح مداها بين 500 كيلومتر حتى 5500 كيلومتر، بإجمالى 2700 صاروخ، جنبًا إلى جنب مع القاذفات والمعدات المرتبطة بها. كما حظرت المعاهدة أيضًا النشر المستقبلى للأسلحة بهذه النطاقات، وألزمت كلا الطرفين ببروتوكولات صارمة فيما يخص التفتيش والتحقيق.

هذه القيود بشرت بعهد جديد من الاستقرار الاستراتيجى فى «أوروبا». فمنذ بدء نفاذها، منعت المعاهدة التراكم الهائل لصواريخ المدى المتوسط، ​​ومهدت الطريق لاتفاقات ثنائية لاحقة، بما فى ذلك: «الحد من الأسلحة الاستراتيجية» (START I) فى عام 1991، و«معاهدة الحد من الأسلحة الهجومية الاستراتيجية» (SORT) فى عام 2002، و«الحد من الأسلحة الاستراتيجية الجديدة» (New START) فى عام 2010، مما خلق إطار عمل للردع المتبادل، والالتزام بتخفيض الأسحلة، التى لطالما عززت العلاقة بين «واشنطن»، و«موسكو».

لكن، فى عام 2013، بدأت إدارة الرئيس الأمريكى السابق «أوباما» فى إثارة مخاوف من انتهاك «موسكو» للمعاهدة بتطويرها لنظام الصواريخ البحرية (9M729)، والتى يعرفها حلف الـ«ناتو» بصواريخ (SSC-8)، كونها صواريخ تنتهك شروط المعاهدة. وفى عام 2017 أعلنت إدارة «ترامب» عن مخاوفها، من نشر «موسكو» نظم محظورة فى جنوب «روسيا».

وفى مواجهة النفى الروسى المستمر، وعدم رؤية أى طريق قابل للتقدم إلى الأمام، اختارت إدارة «ترامب» تصعيد الضغط. وأعلن الرئيس الأمريكى فى 20 أكتوبر 2018، عن نيته انسحاب بلاده من جانب واحد من «معاهدة الصواريخ النووية متوسطة المدى». وبدأت بالفعل إجراءات الانسحاب الأمريكية فى 1 فبراير 2019.. وفى المقابل وعد الرئيس الروسى «فلاديمير بوتين» برد مماثل، ووقّع أمرًا تنفيذيًا فى 4 مارس 2019، بتعليق تنفيذ «روسيا» لالتزاماتها بموجب المعاهدة. وبموجب المادة الخامسة عشرة من المعاهدة، سيتم السحب النهائى فى 2 أغسطس 2019، ما لم تعد «واشنطن» عن قرارها.
واستمرارًا للضغوط من قبل الطرفين، قررت الإدارة الأمريكية أن يكون تدمير الأنظمة (SSC-8) الروسية شرطًا مسبقًا لعكس مسارها، وهو ما رفضته «موسكو» رفضت رفضًا قاطعًا التخلى عن هذه النقطة. وعليه شهدت العلاقات الثنائية المزيد من التدهور. وفى ظل هذه الأوضاع، تبدو احتمالات المفاوضات المستقبلية لإنقاذ المعاهدة ضبابية، وفقًا لخبراء دراسة «مجلس السياسة الخارجية الأمريكية».

حجج واهية، وأسباب خَلْف الكواليس

أرسل «البيت الأبيض» برسالة لا لبس فيها إلى «موسكو»، مفادها أن الحكومة الأمريكية لن تتسامح مع ما أسمته «الغش من جانب واحد» لمعاهدة ثنائية. ولكن، وفقًا لما بين سطور دراسة «مجلس السياسة الخارجية الأمريكية»، ظهرت الأسباب الحقيقية التى تخفيها «واشنطن» من انسحابها، وعلى رأسها:
• إذا كانت «روسيا» تعمل على تطوير أنظمة متوسطة المدى، فإن الانسحاب من المعاهدة سوف يسمح للولايات المتحدة بتطوير أنظمة مضادة هى الأخرى.
• الانسحاب من الاتفاقية سيسمح لـ «واشنطن» بالتفاوض على معاهدة جديدة مع «روسيا»، وتشمل أيضًا «الصين»، والدول النووية الأخرى، غير الموجودين فى «معاهدة الصواريخ النووية متوسطة المدى». وهو أمر أكد مسئولو الإدارة الأمريكية عليه مرارًا.

ومع ذلك، يبدو أن النقطة الثانية محل خلاف بين صناع القرار الأمريكى.. حيث يرى الخبراء هناك، أن فرص انضمام «الصين» إلى اتفاقية متعددة الأطراف، لمعاهدة الصواريخ النووية متوسطة المدى ضئيلة جدًا، بالنظر إلى الدور المهيمن، الذى تلعبه الأسلحة متوسطة المدى فى ترسانة «بكين». علاوة على ذلك، فإن استراتيجية «المسار المزدوج» التى اتبعها حلف الـ«ناتو» فى الماضى ضد «روسيا»، اعتمدت على اتفاق بين دول «أوروبا» لاستضافة صواريخ متوسطة المدى على أراضيها، أما الآن فليس هناك ما يشير إلى استعداد شركاء «الولايات المتحدة»، سواء فى «أوروبا»، أو فى منطقة المحيط الهادئ الهندية لاتخاذ نفس القرار ضد «الصين».

كما اعتقد خبراء الدراسة، أن إحدى الطرق المتوقعة - أيضًا - بأن تتخذها «واشنطن» خلال الفترة القادمة، هو نشر تصريحات تفيد أن وجود هذه الأنظمة الخطرة يهدد حلفاء «الولايات المتحدة»، خاصة دول الـ«ناتو»، بأن الصواريخ متوسطة المدى لن يقابلها إلا الأسلحة الجوية، والبحرية التقليدية للولايات المتحدة، ويجعل من الصعب عليها الدفاع عنها. مما يعنى بصورة أخرى، بداية سباق التسلح النووى!!

من جانبهما، كتب وزير الطاقة الأمريكى السابق «إرنى مونيز»، والسيناتور السابق «سام نان» أن عالم ما بعد انتهاء الصواريخ النووية متوسطة المدى «سيفتح الباب أمام النشر غير المقيد لأنظمة القوات النووية الروسية متوسطة المدى». كما حذر وزير الخارجية الأمريكى السابق «جورج شولتز»، ورئيس «الاتحاد السوفيتى» سابقًا «ميخائيل جورباتشوف» (وهما من الشخصيات الرئيسية فى تدوين المعاهدة الأصلية) من التخلى عن الاتفاق، لأنه سيمثل بداية سباق تسلح جديد.

وأكد الخبراء أن الانسحاب سيؤدى إلى تآكل القيود المعيارية الدولية، التى ساعدت فى ثنى معظم الدول الأخرى عن السعى للحصول على أسلحة نووية. وبعد انتهاء المعاهدة بين القوتين العظميين، قد تشعر دول أخرى بتشجيع أكبر لمتابعة قدراتها النووية والصاروخية الهجومية.

آثار الانسحاب على الداخل الأمريكى

رأى الخبراء أن استئناف «الولايات المتحدة» لنشر صواريخ متوسطة المدى، من شأنه أن يحمل «واشنطن» تكاليف سياسية، ومالية، ومعيارية كبيرة.
فمن الناحية السياسية، أدت الطريقة التى اتخذتها إدارة «ترامب» فى الانسحاب إلى تفاقم الاستقطاب القائم بين السلطة التنفيذية الأمريكية والكونجرس إذ لم يتم التشاور مع قادة الكونجرس من الأساس بشأن قرار الإدارة الأمريكية، وكانت ردود الفعل الناتجة عن ذلك، لا سيما على جانب الحزب الديمقراطى قاسية.
أما من الناحية المالية، فأشار الخبراء إلى صعوبة تجاهل «واشنطن» للتكاليف المالية المرتبطة بإعادة تطوير هذه الأنظمة وإعادة نشرها. فقد أكد المتحدث باسم وزارة الدفاع الأمريكية، المقدم «ميشيل بالدانزا»، أن «الولايات المتحدة» قد بدأت ـ بالفعل - العمل على إجراء اختبارات تطويرية للصواريخ التقليدية، التى تطلق من الأرض، التى كان سيتم حظرها بموجب شروط المعاهدة (وهو ما سنطرق إليه لاحقًا فى الملف). مؤكدًا أن تمويل هذه البرامج سيمنع –حتما- الموارد عن برامج أخرى تعتبر حاسمة لقدرة الـ«بنتاجون» على تنفيذ مهمته.

«واشنطن».. وكشف المستور

بحسب ما ورد، فإن قضية الانسحاب الأمريكى، شأنها كشأن أغلب القرارات التى اتخذتها الإدارة الأمريكية الحالية، فهى لم ترجع، ولم تستشر أيًّا من أعضاء الـ«ناتو»، الذين يرون أن المعاهدة حيوية لأمنهم. كما يرى العديد من الدول الأوروبية، أن رحيل «الولايات المتحدة» عن المعاهدة يعرضها لتهديد متزايد. فعلى سبيل المثال: أعربت المستشارة الألمانية «أنجيلا ميركل» عن أسفها، وقالت إن: «المعاهدة صُممت أساسًا لأوروبا – وفقًا لأقوال «البيت الأبيض حينها»-، وهى معاهدة للحد من الأسلحة، التى تؤثر بشكل مباشر على أمن «أوروبا»».
ورغم تأييد الزعماء الأوروبيين بالإجماع للرفض الأمريكى لانتهاك «روسيا» للمعاهدة، إلا أنهم لايزالوا يعتقدون أن إنقاذ المعاهدة أفضل من إلغائها.
تثير هذه القضية، بجانب العلاقات بين الحكومات الأوروبية والإدارة الأمريكية الحالية، وتغيرات ميزان القوى العظمى، سؤالًا مهمًا: هل تستمر القارة العجوز حليفة -رغم كل ما يحدث- مع «الولايات المتحدة»، أم أن كشف مستور الماضى الأمريكى تجاه «أوروبا»، بالإضافة إلى القرارات الأمريكية المتوقعة للمستقبل القريب، التى تتعارض مع المصالح الأوروبية، سيكون لهما رأى آخر؟!