الجمعة 3 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري

شهرزاد الصحافة العربية تفتح خزائن أسرارها فى آخر حوار صحفى لها قبل الرحيل انفراد.. صور خاصة من داخل بيت الكاتبة الصحفية مديحة عزت

مديحة عزت: فرشت «عفش» فيلا عبد الناصر بمنشية البكرى بنفسى

هى التلميذة المباشرة لمديرة مدرسة روز اليوسف، هى الحارس الأمين للسيدة فاطمة اليوسف صاحبة الدار والتى أسست تلك المؤسسة الصحفية المتفردة قبل 100 عام.. كنت من القلائل المحظوظين الذين تشرفت بالجلوس فى محرابها، ومحرابها المقدس كان منزلها الذى يقع فى إحدى عمارات حى باب اللوق بوسط القاهرة.. وهى التى كانت دوما ترفض إجراء أى حوار صحفى إلا نادرا، ورغم أن الأستاذ الراحل عصام عبد العزيز رئيس تحرير مجلة روز اليوسف الأسبق وضعنى فى امتحان صعب للغاية حيث كان حلقة الوصل بينى وبينها وهى قد اقتربت من عتبة الثمانين من العمر، محذرا ومشجعا فى نفس الوقت، قائلا لى: هتعمل حوار للتاريخ.



 

اتصل بها وذهبت لها بعد تحديد الموعد لتفتح لى خزائن أسرارها.. بل سمحت وللمرة الأولى أن ألتقط صورًا لها من داخل منزلها، ورغم عدم نشر تلك الصور من قبل فى مطبوعة صحفية حيث نُشر الحوار آنذاك بدون صور بناء على رغبتها، إلا أنها قالت لى: يمكنك أن تنشر هذه الصور بعد رحيلى. والسبب الذى أعلمه- دون أن أسأل- هو الحفاظ على صورتها الذهنية الأنيقة فى عيون القراء.. ولكن ما لم تعرفه أنها كانت أكثر جاذبية وجمالا وهى فى الثمانين من العمر.. تماما مثل الذهب الذى يزداد بريقا مع مرور الزمن.. إنها شهرزاد الصحافة العربية.. الكاتبة الصحفية الكبيرة مديحة عزت التى لا يمكن أن نحتفى فى مجلة روز اليوسف بصدور العدد رقم 5000 دون أن نتذكر رموز الدار.. وهى من أعمدة وأركان البيت. 

من هى مديحة عزت؟

ولأن التاريخ قد يكون ظالما بعض الشىء على رموزه-  وكذلك الصحافة- فقد لا تعرف من هى مديحة عزت، خاصة أنها لم تكن ممن يمتلكن حسابا على مواقع التواصل الاجتماعى قبل وفاتها منذ سنوات.. هى لا تعترف بالسوشيال ميديا لأنها ابنة جيل ورق الدشت!

حين تبحث على محرك البحث «جوجل» عن اسم مديحة عزت ستجد المعلومات عنها شحيحة للغاية رغم إدراك النخبة والمثقفين لقيمتها وقامتها ولكنها آفة «اللايكات» و«الكومنتات»!

مديحة عزت هى الصديقة المقربة للسيدة فاطمة اليوسف واختارها الكاتب الراحل إحسان عبدالقدوس مديرة لمكتبه بعد حوار أدبى معه وهى فى المرحلة الثانوية عام 1952 قبل الثورة فالتقت مع معظم أعضاء قيادة الثورة قبل قيامها أثناء ترددهم على إحسان عبدالقدوس.. دعاها الرئيس الراحل أنور السادت لزيارة مقر قيادة الثورة بعد قيامها لتصبح أول صحفية تدخله وأول محررة تجرى حوارات مع كل رجال الثورة أولهم عبدالناصر والسادات وباقى رجال الثورة، كما كان لها أنجح الحوارات عن كبار الأدباء والكتاب ولعل أشهرها كان مع الكاتب الكبير عباس محمود العقاد الذى نشر على ثلاث حلقات متتالية، وهى أول فتاه تعين كمحررة فى مجلة روز اليوسف وكانت تعمل بباب «إعلانات زواج» خلال النصف الأول من القرن العشرين!

كرمها عبدالناصر فى عيد الثورة العاشر بوسام الفنون والآداب من الدرجة الأولى وكرمها السادات فى أول عيد للإعلاميين بوسام الفنون والآداب أيضا كما كرمها مبارك فى عيد الإعلاميين عام 1999 بوسام الفنون والآداب وكرمها وزير الإعلام حينها صفوت الشريف فى العيد الفضى للتلفزيون بالميدالية الذهبية، وتعد أول من كشفت عن جمعية سرية تعمل فى القاهرة لحساب إسرائيل وهى جمعية «شهود يهوا» وأول صحفية ينشر لها مقال فى مجلة القوات المسلحة.

تمتاز بالأسلوب الساخر والعبارة المرحة وابتكرت أبوابا جديدة فى الصحافة المصرية مثل باب «تحياتى إلى زوجك العزيز» الذى بدأت تنشره منذ 60 عاما على صفحات مجلة روزاليوسف حتى قبيل وفاتها بسنوات قليلة فقط.. هل يوجد صحفى ظل يكتب بابا بانتظام طيلة ما يقارب النصف قرن!

لعلك الآن تدرك من هى مديحة عزت، الحارس الأمين لمدرسة روز اليوسف.

هى سيدة من الزمن الجميل لا تستطيع الذاكرة الصحفية نسيانه.. هى حارس الأسرار الأمين لنشأة وتطور مدرسة من أهم المدارس الصحفية فى القرن العشرين، الست مديحة عزت كما تحب أن تنادى تماما مثل أستاذتها ورفيقة دربها الست فاطمة اليوسف، لا تندهش حين تعرف أن شهرزاد الصحافة كما أطلق عليها الراحلان إحسان عبدالقدوس وعبدالرحمن الشرقاوى لديها من الحواديت ما يكفى لرصد تاريخ مصر خلال قرن كامل من الزمان، هى قادرة على الوصف والتحليل والربط بين أحداث عاشتها مصر خلال القرن العشرين ورغم ذلك فهى دائمة التحضير والقراءة قبل أن تكتب أو تجرى لقاء صحفيا حتى آخر أيامها.. تماما مثل جيل الكبار لتؤكد لنا نحن جيل الشباب أن القراءة تطيل العمر والكتابة روح الجسد.

 الحوار الصحفى الأخير لمديحة عزت

فى الحوار التالى وهو الحوار الصحفى الأخير للسيدة مديحة عزت معى والمنشور فى مجلة روز اليوسف بتاريخ 5 أبريل 2014 حيث رحلت بعدها بسنوات قليلة وتحديدا فى 18 مارس 2018 والذى نعيد نشر بعضا من مقتطفاته تغوص معنا الصحفية الكبيرة مديحة عزت فى أسرار الرئيسان الراحلان عبدالناصر والسادات وتحكى لنا قصصا تحمل بعدا مختلفا لمن حكما مصر فى فترات حرجة وتكشف لنا عن الإنسان جمال عبدالناصر والمواطن أنور السادات بعيدا عن المناصب السيادية لهما.

 ومن هذه الذكريات تقول: كانت الست «روزاليوسف» عندما تريد أن تحكى مع عبدالناصر كانت تكتب له خطابا أسلمه أنا له يدا بيد وبعد يوم يرسل الرد ويطلب منها نشر خطابها.. ورده.. وهذه بعض فقرات وعناوين خطاب مفتوح من «روزاليوسف» إلى جمال عبدالناصر، كما نشرت فى مجلة روز اليوسف آن ذاك: الحرية هى الرئة الوحيدة التى يتنفس بها الشعب.. إنك فى حاجة إلى الخلاف.. تمامًا كحاجتك إلى الاتحاد تحية أزكى بها شبابك الذى عرضته للخطر وجهدك الذى تنفقه من أجل هذا الوطن.

تحية من سيدة عاصرت الحوادث واعتصرتها التجربة فلا يسعدها اليوم شىء كما يسعدها أن ترى الوجوه الجديدة تزحف وتنال فرصتها الكافية لتحاول أن تسير بهذا الوطن بأسرع مما كان يسير!! 

وتستكمل مديحة عزت ذكرياتها قائلة: كان رد جمال عبدالناصر الذى سلمه لى وطلب نشر خطاب الست وخطاب رده عليها كبيرا أتذكر منه على لسان عبد الناصر فى خطابه:

لا نريد أن يشترى الحرية أعداء الوطن.. حاجتنا إلى الخلاف من أسس النظام.

أما تحيتك فإنى أشكرك عليها.. وأما تجربتك فإنى واثق أنها تستند على دروس الحياة.. أما تقديرك لما أبذله من جهد فإنى أشعر بالعرفان لإحساسك به.

 أما رأيك فى أنى لا أستطيع أن أفعل وحدى كل شىء، فإن هذا رأيى أيضا ورأى زملائى من الضباط الأحرار.. واختتم الخطاب الطويل بهذه الكلمات:

وبعد فإنى أملك أن أضع رأسى على كفى ولكنى لا أملك أن أضع مصالح الوطن ومقدساته هذا الوضع.

قصة إبراهيم عزت مع إسرائيل

 وتتحدث مديحة عزت عن قصة الصحفى المصرى إبراهيم عزت- شقيق مديحة عزت- وتقول «قصة الصحفى المصرى إبراهيم عزت مبعوث عبدالناصر لـ«بن جوريون» الذى زار إسرائيل من أجل السلام عام 1956 بالتنسيق مع صلاح نصر وموافقة جمال عبدالناصر وقد أفشل المحاولة الكاتب الصحفى حسنين هيكل وكان مقربا من عبدالناصر فأفشى أسرار مهمة إبراهيم عزت إلى السفارة الأمريكية وصحافة لبنان، فأجهض فكرة القمة ومشروع السلام المبكر بين مصر وإسرائيل، ولم يكن يعلم أحد بتلك الزيارة غير الأستاذ إحسان وأنا ولكنى أبلغت السيدة «روزاليوسف» التى قالت إن هذه مغامرة كبيرة فإذا نجح إبراهيم فى مهمته حيقولوا إنهم أرسلوه ولو فشل حيقولوا إنه جاسوس ويحاكموه.. وانفطر قلبى على شقيقى إبراهيم واتصلت بالسيد يسرى الجزار عليه رحمة الله نائب رئيس المخابرات وقابلته وقلت له بالحرف الواحد لو حدث أى مكروه لإبراهيم وأمى ماتت أنا اللى حأقتل عبدالناصر.. وتستكمل مديحة عزت ذكرياتها: فى اليوم التالى وأنا داخلة المجلة قال لى البواب الأستاذ إحسان عايزك حالا.. ودخلت على إحسان زعق فىَّ وقال عملتى إيه تانى.. استعدى فيه عربية جايه حالا اركبى ولا تتحدثى مع السائق والمرافق بأى كلمة حتى يوصلوك للرئيس، وفعلا ركبت وذهبت معهم إلى مكتب الرئيس جمال عبدالناصر.. استقبلنى مبتسما حتى يمتص خوفى وقال لى أنا عارف مين قالك الكلام ده عارفها وعارف رأيها فىَّ.. يابنتى إبراهيم واحد من ولادى المصريين يؤدى عملا وطنيا فهو ابنى لو نجح أو فشل، حينها لم أقاوم دموعى وحاولت أعتذر، وكان حنانه وإنسانيته أكبر من العتاب والاعتذار.. هكذا كان عبدالناصر الأب والقائد والإنسان رحمه الله.

 أسرار عبد الناصر الشخصية

ثم تنتقل الكاتبة إلى حياة عبدالناصر داخل منزله وتقول «على فكرة كلما سمعت وقرأت عن الذهب والقصور والفيلات والمليارات تذكرت أن جمال عبدالناصر بجلالة قدره وعزته وعزة نفسه عاش شريفا عفيفا وأشهد على أنه كان يعيش وفرش بيته عهدة.. والحكاية عندما أعلنت الجمهورية وعزل أول رئيس للجمهورية الرئيس محمد نجيب وبعد أحداث «1954» أعلن تولى عبدالناصر رئيسًا للجمهورية عام «1956» وكان لابد أن تتغير بعض أمور حياته مجاراة للمنصب وتقرر أن ينتقل للإقامة فى الفيلا فى منشية البكرى، وكان لابد من فرش يليق برئاسة الجمهورية وكان المرحوم عبدالحميد أمين الذى كان رئيسا لشركة بيوت الأزياء الراقية التى تضم محلات «بونتر يمولى» أشهر محلات الموبيليا فى هذا العصر وطلب منه أن يبعث بمهندس الديكور الخاص بالمحل لفرش بيت عبدالناصر من أثاث قصر القبة.. وهنا وجد عبدالحميد أمين أن مهندس الديكور أشانتى فانتيب يهودى أبا وأما وأجدادا وخاف على عبدالناصر، وكان عبدالحميد أمين يعرفنى ويعرف أننى ضمن هواياتى دراسة الديكور، فاقترح أن أتولى أنا اختيار ما يلزم بيت عبدالناصر فعلا بعدما عرف الرئيس الحبيب بأنى سأقوم بهذه المهمة وكان يعرفنى تماما منذ قيام الثورة وتردده على «روزاليوسف» وافق وأشهد أنه كان يمضى ويوقع على كشف بجميع قطع الأثاث التى نختارها من قصر القبة حتى إنه جاء كرسى كبير كان يستعمله الملك لجلسة راحة عائلية ووضعوه للمكتب لما رأيته قلت ده مش كرسى المكتب وماينفعش.. المكتب له كرسى، فقال عبدالناصر للسيد محمد أحمد اسمع كلام مديحة، وفعلا جاء كرسى المكتب وقبل أن يجلس عليه قال لمحمد أحمد أضفت الكرسى على الكشف قال أيوه قال الزعيم الشريف هاته ومضى عليه.. ثم فى الصالون طلب منى تغيير قماش تنجيد الصالون بألوان غامقة هذا لأنه يستضيف المسئولين السودانيين وطريقة جلوسهم يضعون أرجلهم على الكراسى.. فقلت له يا ريس الصالون «ستيل الوى كنز» ولا يمكن تغيير الألوان لأنه لا يكمل الأستيل إلا الألوان الفاتحة البنى فاتح أو بمبى فاتح.. أو «رمادى فاتح» وعلى العموم اللى تأمر بيه يا ريس ابتسم وقال آمر بإيه اعمل اللى تقول عليه مديحة.. هكذا كان جمال عبدالناصر يعيش على عفش عهدة واعتبر حياته عهدة للوطن الذى كما كان يقول دائما فى سبيل مصر والوطن «أضع رأسى على كفى»!!